مجلسُ الأمن.. إخلالٌ بالواجبات القانونية وزعزعةٌ لاستقرار الإنسانية
د. عبد الرحمن المختار
خَصَّصَ ميثاقُ الأممِ المتحدة لمجلسِ الأمن الدولي الفصلَ الخامسَ منه، لطريقةِ تأليفِ المجلس، واختصاصاته، والإجراءاتِ اللازِمةِ لمباشرة تلك الاختصاصات، ونظامِ التصويتِ على القراراتِ الصادِرةِ عنه، والأصلُ أن يعملَ مجلسُ الأمن الدولي، وَفْـقًا لمبادئِ وأحكامِ ميثاقِ الأمم المتحدة، لكن الواقع والوقائع تؤكّـدُ أن هذا المجلسَ قد انحرف بشكل كبير جِـدًّا عن أصولِ العمل المحدَّدة له، وَفْـقًا لأحكام الميثاق، وقواعد القانون الدولي، بل إنَّ مجلسَ الأمن رغم أنه يمثّل فرعاً من فروع الأمم المتحدة، أَو الجهاز التنفيذي للمنظمة الدولية، لكنه أصبح في الواقع هو الأصل، ولم يعد هناك من قيمة للمنظمة الدولية، سواء جمعيتها العامة أَو غيرها من فروع هذه المنظمة.
ولعل صمتَ الدول الأعضاء في المنظمة الدولية على سُلُوكِ القوى الاستعمارية، ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي، وعلى رأسها الإدارة الأمريكية، قد أَدَّى إلى تغوُّلِ هذه الدول على المنظمة الدولية، وألغى أدوارَ أجهزتها الأُخرى، أَو جعل أدوارَها هامشيةً؛ ليصبحَ الدورُ الأَسَاسُ لمجلس الأمن، الذي تتحكَّمُ به الدولُ دائمةُ العضوية، رغم أن هذا المجلس هو عبارةٌ عن نائب عن المنظمة الدولية، وَفْـقًا للمادة (24/1) التي نصت على أن (رغبـــة فـــي أن يكـــون العمـــل الــذي تقــوم بــه “الأمم المتحدة” سريعاً فعَّالاً، يعهد أعضاء تلك الهيئة إلى مجلس الأمـن بالتبعــات الرئيـسية في أمــر حفـظ الــسلم والأمــن الدولي ويوافقون علـى أن هـذا المجلس يعمـل نائبـاً عنـهم في قيامه بواجباته التي تفرضها عليه هذه التبعات).
ورغم أن مجلس الأمن الدولي بأعضائه الدائمين وغير الدائمين، هو عباره عن نائب عن الأمم المتحدة، وهذا النائب إذَا أخل بواجباته يمكن لمن أنابه أن يعزله، وهذا هو المبدأ في النيابة بشكل عام؛ فللأصيل صاحب الحق في إنابة غيره عنه أن يعزل هذا النائب إذَا اتضح له أن أداءَه مخالِفٌ لصك النيابة، ومجلس الأمن لا تُعَدُّ ولا تُحصى مخالفاتُه وانتهاكاتُه لمبادئ وأحكام ميثاق الأمم المتحدة، وقواعد القانون الدولي، لدرجة أن القوى الاستعمارية الغربية قد جعلت من هذا المجلس، بل ومن منظمة الأمم المتحدة مُجَـرّدَ إطارٍ عام وظّفته لما يحقّقُ مصالحَها.
والأصل أن يعمل مجلس الأمن، وَفْـقًا لما ورد في الفقرة الثانية من المادة السابقة ونصه (يعمل مجلس الأمن، في أداء هذه الواجبات، وَفْـقًا لمقاصــد “الأمم المتحـدة” ومبادئهـا والـسلطات الخَاصَّة المخوَّلـة لمجلس الأمن لتمكينه من القيام بهذه الواجبـات مبيَّنة فـي الفصول السادس والسابع والثامن والثاني عشر).
ورغم وضوح هذا النص، فَــإنَّ مجلس الأمن قد انحرف بواجباته الواردة في الميثاق بشكل خطير، ولم تكن مقاصد الأمم المتحدة في يوم من الأيّام ضمن اهتمامات هذا المجلس، بل إن هذا المجلس عمل ولا يزال يعمل على حماية مصالح الدول دائمة العضوية فيه، وهي تستخدم نظام التصويت في المجلس كنظام مقاصة، يقوم على أَسَاس التمرير بالتمرير، والتعطيل بالتعطيل، فتمرر لبعضها البعض القراراتِ متى ما كانت كُـلّ دولة تعامل الأُخرى بالمثل، وتُعطل تمرير أي قرار نكاية في الدولة الأُخرى، إذَا كان التمرير يخدم مصالحها، ولا قيمة أبداً لما تضمنه الميثاق من مبادئَ وقيم إنسانية، وأحكام متعلقة بإعلاء شأن مصالح الأمم والشعوب.
ويمكنُنا هنا أن نُلقِيَ نظرةً على مقاصد الأمم المتحدة، التي وردت في ميثاقها، لنرى مدى التزام مجلس الأمن الدولي بتلك المقاصد! ومدى تجاهُلِه لها، فقد وردت هذه المقاصد في المادة (الأولى) من ميثاق الأمم ونصها (مقاصد الأمم المتحدة هي:
١ – حفظ السلم والأمـن الـدولي؛ وتحقيقـاً لهـذه الغايـة تتخـذ الهيئـة التدابيـر المشتركـة الفعَّالـة لمنـع الأسباب التي تهدّد السلـم ولإزالتهـا، وتقمع أعمــال العــدوان وغيرهــا مــن وجــوه الإخــلال بالـسلم، وتتـذرع بالوسـائل الـسلمية، وَفْـقًا لمبــادئ العــدل والقــانون الــدولي، لحــل المنازعــات الدولية، التي قد تؤدي إلى الإخلال بالسلم أَو لتسويتها.
٢ – إنماء العلاقات الودية بين الأمم على أَسَاس احترام المبـدأ الـذي يقـضي بالتـسوية في الحقـوق بـين الـشعوب وَـأن يكون لكُلٍّ منها تقريـرُ مـصيرها، وكـذلك اتِّخاذ التـدابير الأُخرى الملائمة لتعزيز السلم العام.
٣ – تحقيـق التعـاون الـدولي علـى حَـلّ المـسائل الدوليـة ذات الصبغـة الاقتصاديـة والاجتماعيــة والثقـافيــة والإنسانية، وعلــــى تعزيــــز احترام حقــــوق الإنسان والحريـــات الـ ٦ الأَسَاسيــة للنــاس جميعاً، والتـشجيع علـى ذلـك إطلاقـاً بلا تمييز؛ بسَببِ الجنس أَو اللغـة أَو الـدين ولا تفريـق بـين الرجال والنساء.
٤ – جعـــل هــــذه الهيئــــة مــــرجعاً لتنـــسيـق أعمــــال الأمم وتوجيهها نحو إدراك هذه الغايات المشتركة.
وهذه الواجبات في جانبها النظري في غاية الأهميّة، لحماية أمن وسلام الإنسانية، لكن الواقع يؤكّـد أن مجلس الأمن الدولي، بوصفه نائباً عن الأمم المتحدة، لم يعمل وَفْـقًا لمقاصدها، فالمقصد الأول هو كما ورد في البند الأول من هذه المادة، يتمثل في حفظِ السلم والأمن الدولي، الذي يتحقّق، وَفْـقًا لهذا النص باتِّخاذ التدابير الضرورية اللازمة لقمع العدوان، وغيره من أوجه الإخلال بالسلم والأمن الدولي، ولم يكن لمجلس الأمن من دور إيجابي في تطبيق حكم هذا النص على أرض الواقع، والشواهد والوقائع على ذلك كثيرة جِـدًّا تكاد لا تحصى، لكننا نأتي بشاهد قريب، لا يزال قائماً حتى اليوم، على إخلال مجلس الأمن الدولي بواجبه الوارد النص عليه في هذا البند، ففي 26 مارس سنة 2015 تعرض شعبنا لعدوان همجي غير مبرّر من جانب تحالف دولي على رأسه وفي واجهته مملكة آل سعود، ومن ورائها قوى كبرى تتمتع بعضوية دائمة في مجلس الأمن الدولي، على رأسها الإدارة الأمريكية، التي أعلن العدوان على شعبنا من عاصمتها واشنطن، وعلى مدى عقد من الزمان اقترف تحالف العدوان مئات الجرائم، ترتب عليها دمار واسع لكل مقومات حياة شعبنا، ومئات الآلاف من الشهداء والجرحى، وملايين النازحين والمشردين.
كلّ ذلك ومجلس الأمن الدولي يغض الطرف عن جرائم العدوان، ولم يقدم أية حماية لشعبنا من خلال منع وقمع العدوان -وفقاً لحكم هذا النص- الذي تعرض له على مدى عشر سنوات، وترافق مع العدوان حصار خانق جواً وبراً وبحراً، والحصار عدوان بحد ذاته، ولم يقف دور مجلس الأمن عند هذا الحد فحسب، بل سوَّغَ لقوى الإجرام عدوانها، وغطَّى جرائمها، وكان هذا المجلس عبارة عن مزاد تمارَسُ فيه أعمال الابتزاز، كلما تم عرض موضوع العدوان على بلادنا على جدول أعمال هذا المجلس، فكانت إجراءات المجلس تهديدية للبقرة الحلوب، فحيناً كان يتم إدراجها ضمن القائمة السوداء، للدول المنتهكة لحقوق الأطفال، وسرعان ما يتم رفعها من تلك القائمة، عقب دفعها للإتاوات.
وهكذا ظل موضوع العدوان على شعبنا قيد نظر المجلس، وَفْـقًا لآخر بند من بنود القرارات التي كان يصدرها، وقد استفادت جميع الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي، بشكل أَو بآخر من العدوان على بلادنا؛ فالإدارة الأمريكية العضو الأبرز الدائم في مجلس الأمن جلبت عشرات المليارات من الدولارات من خزائن آل سعود وآل زايد، وكذلك بريطانيا وبقية الدول الأعضاء في المجلس، فمن لم يستفد منها في شكل مبيعات أسلحة ومعدات عسكرية، استفاد في شكل مقابل لمواقف سياسية، اشترى بها النظام السعوديّ مواقف عدد من الحكومات، بل والمنظمات الدولية، وفروع منظمة الأمم المتحدة وعلى رأسها مجلس الأمن الدولي.
ولعل هذا المثال كاف بذاته لبيان إخلال مجلس الأمن بواجباته، وانتهاكه لأحكام ميثاق الأمم المتحدة، التي تلزمه بمنع وقمع العدوان، فإذا بالمجلس يصبح شريكاً لقوى العدوان بشكل مباشر، وغير مباشر من خلال قراراته، التي سوّغ بها استمرار العدوان، أَو من خلال غضه الطرف عن جرائم قوى العدوان، في مقابل استرزاق أعضائه الدائمين، وغير الدائمين من خلال مبيعات مصانعهم الحربية لمختلف أنواع الأسلحة والمعدات العسكرية لقوى العدوان، رغم علم المجلس وأعضائه والمنظمة الدولية، بجميع فروعها أن مبيعاتِ الدول الأعضاء في مجلس الأمن من الأسلحة ارتكبت بها جرائم وحشية بحق أبناء شعبنا، والحال كذلك، في جميع وقائع العدوان، التي أخل مجلس الأمن تجاهها بواجباته، وانتهك الالتزامات القانونية الملقاة على عاتقه.
ومنذ عشرة أشهر ارتكب الكيان الصهيوني جريمة إبادة جماعية، ولا تزال أفعالُه متتابعةً ومُستمرّة، إلى اليوم، بشراكة دول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، هذا المجلس الذي يقع على عاتقه، وَفْـقًا لأحكام ميثاق الأمم المتحدة قمع العدوان، ومنع وقمع أفعال جريمة الإبادة الجماعية، وَفْـقًا لنصوص اتّفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، لكن المجلس لم يفعل ذلك إلى اليوم، ولم يقمع المجرم لسبب بسيط، وهو أن رأس الإجرام في جريمة الإبادة الجماعية في غزة، الإدارة الأمريكية العضو الدائم في مجلس الأمن، وتابعتها العجوز البريطانية.
عشرة أشهر كاملة، لم يتمكّن خلالها مجلس الأمن الدولي من وقف جريمة إبادة جماعية بحق شعب محتلّ أعزل، مقارنة بقوى الإجرام، وهو كذلك فعلاً، فلا يستقيم قياس بين ما تملكه المقاومة الشعبيّة من وسائل دفاعية، وبين الآلة الحربية الفتاكة للقوى الإجرامية، فأغلب من يتعرض للإبادة هم الأطفال والنساء وكبار السن، ولم تتمكّن منظمة الأمم المتحدة، ومجلس أمنها من توفير الحماية لمئات الآلاف من الأطفال والنساء وكبار السن من أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، بل إن الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس أمنها، لم يتمكّنا من توفير حماية ذاتية لهما من الإهانات التي يوجِّهُها مندوبُ الكيان الصهيوني في اجتماعات الجمعية العامة، واجتماعات مجلس الأمن! ناهيك عن توفير الحماية لأبناء الشعب الفلسطيني.
ويتحدث البند الثاني من مقاصد الأمم المتحدة عن إنماء العلاقات الودية بين الأمم والشعوب، على أَسَاس التسوية في الحقوق والواجبات، وحق كُـلٍّ منها في تقرير مصيره، والحقيقة أنه لا قيمة لهذا المقصد من مقاصد الأمم المتحدة في قاموس مجلس الأمن، فأعضاؤه الدائمون أغلبُهم قوى استعمارية قائمةٌ على الاستعلائية، والاستبداد، والإلحاق والتبعية، وفي هذا المجال المثال الصارخ لانتهاك هذا النص في ما يتعلق بالحق في تقرير المصير، هو الشعب الفلسطيني، الذي لا يزال منذ سنة 1948 وما قبلها يقبعُ تحتَ الاحتلال البغيض للكيان الصهيوني ومن قبله البريطاني، ومجلس الأمن لا يزال ضارباً عُرضَ الحائط بهذا المقصد وبغيره من المقاصد.
وحينما قرّر شعبنا اليمني التخلص من التبعية والوصاية، وتقرير مصيره بثورته سنة 2014م، التي طردت قوى الاستكبار الاستعمارية، وعلى رأسها الإدارة الأمريكية، لم يُترك شعبنا في حاله ليقرّر بنفسه مصيره، واختيار حكامه ونظام حكمه، حينها وكما ذكرنا آنفاً، شُن ضده عدوان دولي أعلن من واشنطن عاصمة الإجرام، وهو مُستمرّ إلى اليوم، ولم يكن لمجلس الأمن أي دور إيجابي في إسناد حق شعبنا في تقرير مصيره، بل إن شعبَنا لم يسلم من سلبية مجلس الأمن، الذي كان له دورٌ كبيرٌ في استمرار العدوان العسكري، والحصار البري والبحري والجوي.
ويتضمن البند الثالث من المادة السابقة، المقصد الثالث من مقاصد الأمم المتحدة، والذي يُلزِمُ مجلس الأمن، بالعمل على تحقيق التعاون الدولي، لحل المسائل ذات الصبغة الاقتصادية، وتعزيز حقوق الإنسان، والمؤسف أن انحراف القوى الاستعمارية الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي عن هذا المقصد من مقاصد الأمم المتحدة اتجه عكسه تماماً، فعملت تلك القوى على إذكاء الصراعات بين الدول، وإن لم يكن هناك صراعٌ أوجدت له أسبابَه ومبرّراتِه، فقط؛ مِن أجلِ أن تدورَ عجلةُ مصانعها الحربية وتُدِرَّ عليها أموالاً طائلة، في مقابل ما يتم ارتكابُه من مآسٍ بحق الشعوب؛ بسَببِ جشع الرأسمالية الغربية المتوحشة.
ولا يعني ذلك تبرئةَ الدول الأُخرى الأعضاء في مجلس الأمن؛ فهي تتعامل أَيْـضاً من منطلق مادي بحت، تراعي مصالحها وَلا تقيم أيَّ اعتبار للجوانب الإنسانية، وهو ما جعل مجلسَ الأمن في حالة إخلالٍ مُستمرّ بمقاصد الأمم المتحدة، وانتهاك دائم لمبادئ وأحكام ميثاقها، وقواعد القانون الدولي، وذلك الإخلال وهذا الانتهاك، جعلا مجلسَ الأمن الدولي مُجَـرّد نادٍ للمصالح غير المشروعة وغير الإنسانية، للدول الدائمة العضوية في هذا المجلس، ولو لم يكن الأمر كذلك، ما استمرت أفعالُ جريمة الإبادة الجماعية، بحق أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، فقد مثَّلت هذه الجريمة امتحاناً عسيراً لكل القوى المتشدقة بالإنسانية وحقوق الإنسان.
ولمن يرغب في معرفة حقيقة التوجّـهات الإنسانية للإدارة الأمريكية، عليه مراجعة تقرير كيسنجر لسنة 1974، وعليه أَيْـضاً متابعة اعترافات خلية الجواسيس، التي أعلنت عنها الأجهزة الأمنية في بلادنا خلال الأسابيع الماضية، ليتعرف على الكيفية التي تستغل بها الإدارة الأمريكية الجوانب الإنسانية، وكيف توظف تلك الجوانب في تجنيد آلاف العملاء والجواسيس، لتدمير مقومات الشعوب وبنيتها الأَسَاسية؛ خدمة لأهدافها الإجرامية.
والبند الرابع من المادة السابقة، يتضمن المقصد الرابع من مقاصد الأمم المتحدة، الذي أَوجب الميثاق على مجلس الأمن أن يعمل بمقتضاه، كما ألزمه بالعمل بمقتضيات المقاصد الثلاثة السابقة، التي أهدرها المجلس تماماً، وأعلى من شأن مصالح أعضائه، تحديداً الأعضاء المتمتعين بالعضوية الدائمة فيه، ويلزم المقصد الرابع مجلس الأمن الدولي بأن يجعل من منظمة الأمم المتحدة مرجعاً لتنـــسيـق أعمــــال الأمم، وتوجيهها نحو إدراك الغايات المشتركة، غير أن القوى الاستعمارية في مجلس الأمن جعلت المجلس هو الأَسَاس وهو المرجع، وألغت دور المنظمة الدولية، وجمعيتها العامة؛ لتتفرد تلك القوى بالسيطرة والهيمنة، من خلال إفقار الأمم والشعوب الأُخرى، بعد نهب ثرواتها ومواردها؛ لتعيشَ تلك الشعوب في حالة فقر وتخلف، وتكون عبارةً عن أسواق استهلاكية لمنتجات القوى الرأسمالية المتوحشة.
ويطولُ الحديثُ عن إخلال مجلس الأمن الدولي بواجباته والتزاماته الدولية، الملقاة على عاتقه؛ بوصفه الجهاز التنفيذي للأمم المتحدة، وما ترتب على ذلك الإخلال من أضرار جسيمة لحقت بالإنسانية، في سبيل أن تستمرَّ للقوى الاستعمارية الهيمنةُ على غيرها من الأمم والشعوب، والسيطرة والاستحواذ على مواردها الاقتصادية، وحرمانها من إمْكَانية الاستفادة منها، في نهضتها وتنميتها في مختلف المجالات.
وهو ما ترتب عليه تفشِّي الفقر والمجاعات لدى نسبة كبيرة من سكان العالم، وانتشار الأمراض والأوبئة التي فتكت بالملايين منهم، ويكفي أن نورد هنا واجباً ألزم به الميثاقُ مجلسَ الأمن الدولي، هذا الواجب تضمنته المادة (٢٦) منه ونصه (رغبـةً في إقامة الـسلم والأمـن الـدولي وتوطيـدهما بأقـل تحويـل لمـوارد العـالم الإنسانية والاقتصادية إلى ناحيـة التـسليح، يكـون مجلسُ الأمن مسؤولاً بمساعدة لجنـة أركان الحـرب المـشار إليهـا في المــادة ٤٧ عــن وضــع خطــط تُعــرَض علــى أعضاء “الأمم المتحدة” لوضع منهاج لتنظيم التسليح).
والواضحُ أن واضعي هذا النص، أقلقَهم التطورُ الهائل في مجال الأسلحة قبل سنة 1945 عقب الحربَينِ العالميتين الأولى والثانية، وما ترتب عليهما من مآسٍ وأحزان لحقت بالإنسانية، كما وردت الإشارة لذلك في مقدمة الميثاق، ويبدو أن التوجّـه في ذلك الحين، كان نحوَ تسخير أكبر قدر ممكن من موارد الشعوب وثرواتها، نحو تنميتها الاقتصادية ورقيها الاجتماعي، وهذه المهمة ألزم بها الميثاقُ مجلسَ الأمن الدولي، لكن هذا المجلس انحرف أَيْـضاً بشكل خطير جِـدًّا عن ذلك التوجّـه الإنساني؛ ليتجهَ العملُ نحو تحويل الموارد العامة والثروات الاقتصادية، نحو تمويل الإنتاج الحربي، في ما عُرِفَ بسباق التسلح، وما يرتبط به من برامجَ عسكرية، واتخذت القوى الاستعمارية وغيرها من الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي من الإنتاج الحربي تجارةً رابحة، تفوقُ غيرَها من أوجه النشاط التجاري.
ولم يُقِــمْ مجلسُ الأمن اعتباراً لتعارض سلوكه في هذا الجانب بشكل كامل مع واجباته الدولية وانتهاكه لمبادئ وأحكام ميثاق الأمم المتحدة، وأصبحت القوى الكبرى دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي في حالة تسابق لتسويق إنتاج مصانعها من الأسلحة الفتَّاكة والمعدات العسكرية إلى المتحاربين، فتقيم لها المعارضَ الكبيرة للترويج لتلك المنتجات الفتاكة بالبشرية، وتتسابق الدولُ لعقدِ صفقات التسليح بعشرات المليارات من الدولارات، على حسابِ لقمة عيش شعوبها، لتستخدمَ بعد ذلك تلك الأسلحة في إبادتها.
وتعملُ القوى الكبرى بشكل مُستمرّ على إشعال الحروب بين الدول؛ للاستمرار في تسويق إنتاجها ومخزونها من مختلف أنواع السلاح والمعدات الحربية، حتى وإن كانت عائداتُها المالية على حساب أنهارٍ من الدماء المسفوكة؛ فالمهم هو أن تمتلئَ خزائنُ هذه القوى الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، ولا شأنَ لها بملايين البشر، الذين يُبادون بما تنتجُه مصانعُ آلتها الحربية من أسلحة الموت والدمار.