حكـايتي مـع عـروس البحـر الأحمر (2 – 2)..بقلم/ عبد القوي السباعي
خلال تلك الزيارة للحديدة أَيْـضاً، لا يمكن تجاهل المعاناة التي كانت الطبقات الأشد فقراً تكابدها، حتى مرضاها ما زالوا يسافرون إلى صنعاء لطلب العلاج، لعدم توفر الكثير من الأجهزة والتخصصات في مستشفياتها، أضف إلى ذلك انخراط الكثير من الأطفال بسوق العمل نظراً للأعباء المعيشية المتضاعفة على أرباب الأسر؛ ما اضطر أبناءهم إلى ترك الدراسة مبكراً؛ كونها باتت تشكِّلُ عِبئاً إضافياً عليهم، كما لا يمكنُ تجاهُلُ الدورِ المشبوهِ للمنظمات في تحفيز الأهالي على الهجرة من الأرياف إلى المدن؛ سعياً وراء المعونات الإغاثية والحصول على بطاقات الدعم لما كان يعرف بالحالات الإنسانية.
مع بداية العام 2014م، كانت زيارتي الثالثة للحديدة، ولم يتغير شيء من تلك الملاحظات السابقة، بل كانت هي السائدة، إذ لم ألحظ سوى التطور والتوسع المُستمرّ؛ لما يمتلكه هامورات الفساد ذاتها والمتعددة الأطياف والمتنافسة على اقتسام الكعكة وسط سباقها المحتدم داخل مضمار الخصخصة، أضف إلى ذلك التواجد غير المسبوق للمنظمات الدولية بمختلف مسمياتها وأشكالها وتخصصاتها، وعلى الرغم من انتشارها الواسع في معظم جغرافيا المحافظة، إلا أنها أَيْـضاً لم تكن تقدم للسكان سوى فتات المساعدات والمعونات التي جاءت: إمّا أن تحفز فيهم الكسل والركون إليها، أَو أن تبقيَهم أسرى برامجها وأجنداتها المشبوهة.
لكن ومع بزوغ فجر الحرية وتوهج الشرارة الأولى للثورة الشعبيّة في الـ21 من سبتمبر 2014م، كانت محافظة الحديدة السباقة لاحتضان الثورة الوليدة، وانخرطت بها الجماهير العريضة، وكان لكوادرها الثورية أدواراً متميزة في تشكيل ورفد اللجان الثورية فيها، وفي تحقيق انتصارات ميدانية على عتاولة المتنفذين ومافيا الفساد وهامورات الاقطاعيين، وتم حلحلت معظم القضايا التي كان وضعها في نصابها الطبيعي شبه مستحيل، واستمرت كذلك حتى جاء العدوان الأمريكي السعوديّ الغاشم، في مارس 2015م، والذي كان للحديدة النصيب الأكثر إمعاناً من الاستهداف والمجابهة، والحكاية الأكثر تشويقاً في التحدي والصمود والثبات.
قبل عامٍ من الآن كانت زيارتي الرابعة لعروس البحر الأحمر، وهي الزيارة الأولى منذُ بدء العدوان، للوهلة الأولى هالني حجم الدمار والخراب الذي لحق في كثير من البنى التحتية والأحياء السكنية جراء الاستهداف والضربات العبثية للآلة الحربية لتحالف العدوان ومرتزِقته، تساءلت في نفسي إذَا كانت تلك حال المباني فكيف هي حالة السكان؟، في ظروفٍ كهذه، لم أستطع كبح مشاعر الحزن والألم عندما رأيت تلك البنايات الخراب والأحجار المتناثرة مع بقيةٍ من شظايا القصف والتي لا تزال رائحة البارود تعشعش فيها.
في الأثناءِ اقترب مني طفلٌ بعمر أصغر أبنائي تقريبًا في الثالثة عشرة من عمره، لكنك تقرأ في وجهه تفاصيل الحياة برمتها، تنبعث من عينيه خبرات الزمن القديم والجديد، قال لي بصوتٍ هامس: “يا عم.. أراك حزيناً على ما دمّـرهُ العدوان”، لم أستطع أن أجيبهُ بل هززت رأسي بالإيجاب؛ فتبسّم وقال: “انظُرْ يا عم إلى كُـلّ هذا الدمار بل وتخيل أكثر منه، إن كان العدوّ قد استهدفها، وتلذذ في تدميرها، إلا أنهُ فشل، إذ لم يستطع أن يدمّـر الإنسان؛ فنحن من عمرناها سابقًا ونحن من سيعمرها من جديد، بل سنشيد أفضل منها؛ فما دمنا أحياءً كرماءَ لم ولن نرضخ للمعتدي”.
انتابتني القشعريرة من هول ما سمعت على لسان هذا الطفل النحيل، حينها أدركت أن ثمة مشروعًا انتصر هُنا، مشروعًا قدَم الشهيدُ القائد روحَه حتى وضع أَسَاسَه، وقدّم الرئيس الشهيد الصماد دمَهُ حتى رسّخ بُنيانَه، ولا يزال عطاءُ هذا المشروع مُستمرًّا، كيف لا وقد وضع الإنسان في سلّم أولوياته؟!؛ فبالإنسان تُصنعُ حضارةُ الأوطان.