بُـنُّ اليمن.. الذهبُ الأسود..بقلم/ علي عبد الرحمن الموشكي
يعد البن اليمني من أجود أنواع البن في العالم؛ نظراً للتضاريس التي يتمتع بها ريف اليمن، وجودة التربة الخصبة التي تعتبر من أول وطن عربي خصب، يكون لكل ما يزرع مذاقه الخاص والمتميز، سواءً الحبوب والبقوليات والفواكه بأنواعها، من أفضل منتجات العالم التي يمتاز بها بلادنا الحبيبة اليمن.
البُنّ اليمني يحتلّ المرتبة الأولى عالميًّا، وله النصيب الأكبر من الشهرة والسمعة الطيّبة، التي تعود إلى جودته العالية ومذاقه الفريد، مقارنة بباقي الأنواع العالمية الأُخرى التي تحاول منافسته.
ارتبط البنّ بهُــوِيَّة المجتمع اليمني وثقافته، ولا يعتبر محصولاً زراعياً ومنتجاً زراعياً يمنياً فحسب، بل يُعدّ منتجاً زراعياً استراتيجياً مرتبطاً بتاريخ اليمن واقتصاده، كما أنّ اليمنيين هم أول من استخدم البن كمشروبٍ اجتماعي في أفراحهم وأحزانهم ومناسباتهم كافّة.
دعونا نتذكر شجرة البن والتي تزرع في المدرجات اليمنية وفي الوديان وفي الهضاب وفي التلال، والتي سابقًا كان المزارع اليمني يغرسها جوار بيته وفي مكان الغيول المياه الجوفية؛ لأَنَّ شجرة البن تحتاج إلى الماء خلال العام، عندما كنت في زيارة لإحدى مديريات تحديداً وصاب العالي بمحافظة ذمار، أثناء عملي استشاري ضمن برنامج تمكين يموله الصندوق الاجتماعي للتنمية -فرع ذمار، ونحن نعد دراسات وممسوحات ميدانية ونرفع بالمشاريع بعد تشكيل مجلس تعاوني للقرية، وجدنا في تلك البيئات النائية مدرجات خصبة وانتشار شجرة البن بشكل عجيب ولكن ما تفتقده هذه المناطق، تحديداً في مخلاف بني حداد قرى (شراقي نعمان وَالهجرة وشرقي كبود) هو الحواجز المائية وتعميق الكرف وبناء السقايات، وإعادة تأهيل الآبار الجوفية، وستكون سلة اليمن ومخزونه الهائل لمنتج البن؛ لأَنَّ هذه المناطق تمتاز بقلة انتشار شجرة القات وتواجد المدرجات العديدة التي هي أَيْـضاً بحاجة إعادة تأهيل الجدران الخَاصَّة بحفظها من الانحدار والتدهور.
مشكلة المزارع اليمني الذي لا يزال متمسكًا بزراعة شجرة البن عدم وجود ما يحفظ له الماء طوال العام، ولأن هذه المناطق بحاجة إلى اهتمام ومزيد من التشييد للحواجز وتكثيف المبادرات المجتمعية، وندعو وحدة البن المركزية بعمل ممسوحات ميدانية من خلال الزيارات لمعرفة المناطق أكثر زراعة لشجرة البن في كافة محافظات الجمهورية، وإيجاد آلية للحفاظ على زراعة شجرة البن ودوام استمرار زراعتها والمحافظة على هذه النبتة، التي كان اليمن يصدر منها سنوياً 70 طنًّا، عبر ميناء المخاء الذي يعتبر أهم ميناء وأقدم ميناء لتصدير البن، ويقول المؤرخ “الواسعي” (وباسم المَخاء يسمي الإفرنج أفخر البن عندهم أي “MOCKA COFFEE”، وتعني بن المَخاء)، وقد كان البن أهم سلعة يمنية تصدر إلى الخارج عبر ميناء المَخاء في العصور الحديثة، إضافةً إلى الصَّبِر، والبخور، وأعواد الأراك، في العصور القديمة، كما تصدر كميات كبيرة من الزبيب.
وتعود تسميته “Mocka Coffee” إلى صفقة للبن اشتراها الهولنديون من ميناء المخاء في العام 1628م، ثم استمروا في إبرام صفقات شراء البن من ميناء المخاء وبيعه في هولندا تحت مسمى “موكا”، نسبة إلى ميناء المخاء اليمني الذي يقع في أطراف محافظة تعز اليمنية.
انتشر مشروب القهوة بدايةً من خلال الطقوس الاجتماعية، حَيثُ كانت تقدم في فترات الراحة واللقاءات في مجالس الذكر، وكانت تقدم إلى القوافل التجارية التي كانت تستريحُ ليلاً في المنازل التي تحطّ عندها، وتقدّم أَيْـضاً إلى السكان على طول خطوط التجارة وُصُـولاً إلى مكة المكرمة، حَيثُ كان اليمنيون يُعِدُّون القهوة ويمنحونها لمن يجاورهم السكن.
والقهوة تمثل رمزاً اجتماعياً، حَيثُ ترسّخت في قيم المجتمع اليمني وعاداته اليومية ومناسباته وأعياده، كما أنها تقدم إلى الضيوف والعاملين في المزارع والمصانع.
هنالك أصناف مختلفة ولكل نوع مذاق مميّز ورائحة معينة، ومن هذه الأنواع: البن الإسماعيلي، الذي يعتبر قهوة الأمراء والملوك، ويتميّز بطعم الفواكه المجففة، كالتمر الهندي، والفراولة، والمشمش، والموز، وَأَيْـضاً نكهات الكاكاو الداكنة، وتتفاوت النكهة بحسب المنطقة التي يزرع فيها، ويُزرع في مديرية مناخة –عزلة بني إسماعيل– محافظة صنعاء.
والبن الخولاني الذي يعتبره المستهلكون في العالم أفضل بن يمني على الإطلاق، ويحتل أعلى نسبة مبيعات في اليمن، وفي الدول المستهلكة، يُزرع في مديريات حيدان، وساقين، وغمر، ومنبه، ورازح، في محافظة صعدة.
وَأَيْـضاً البن الآنسي، والبن الحرازي، والبن اليافعي، والبن المطري، والبن البرعي، والبن الحمادي، والبن الحواري، ويتم تصنيف البن إلى أنواع بناءً على شكله، إذ يقسّم إلى التفاحي والدوائري والبرعي والعديني.
وهنالك مراحل عديدة تمر بها زراعة البن، يعتقد المواطن العربي أنّ القهوة التي انتهى بها المطاف بين يديه سهلة الزراعة، لكنّ الواقع غير ذلك، زراعة البن تمر بمراحل عديدة، أولاها أخذ شتلة من المشتل في عمر سبعة أشهر، ثم تُزرع في الأرض، ويستمر الاعتناء بها حرثاً وسقايةً، وتُعطى السماد العضوي حتى عمر سنتين ونصف سنة حتى تزهر، وبعد سبعة أشهر يحين وقت القطاف.
وفي المرحلة الثانية: “يتم تجفيف الثمرة في سرائر مخصّصة تحت أشعة الشمس المباشرة، ثم تخزّن في أماكن مخصّصة، حَيثُ يخلو المكان من الروائح الأُخرى أَو العطور، حتى لا يفسد المحصول، وفي المرحلة الثالثة يبدأ التسويق”.
حيث يزرع البن في مناطق المرتفعات الغربية والوسطى والجنوبية، بين ارتفاعات مختلفة، تراوح ما بين 700 و2400 فوق سطح البحر، ضمن نطاق مطري يصل من 400 إلى 700 مليمتر، وفي بعض المرتفعات حتى 1000 مليمتر.
وتشير دراسة إلى أنّ محصول البن تجري زراعته تحت ثلاثة أنظمة مختلفة من ناحية استخدام مصادر المياه، ويمكن تمييزها على النحو التالي:
– محصول بن يزرع في أراضي الوديان، وهنا يعتمد محصول البن في الري على مياه السيول إضافة إلى المياه السطحية والأمطار.
– محصول بن يزرع في السفوح المتوسطة الارتفاع، ويعتمد المحصول في زراعته على مياه الأمطار مضافاً إليها الري التكميلي من الآبار الجوفية ومياه العيون الصغيرة والسدود والخزانات.
– محصول بن يزرع في المدرجات المطرية، والتي تعتمد كليًّا على الري بالأمطار، إضافة إلى الخزانات التي أنشئت لتجميع مياه الأمطار.
إحياء البن من جديد، تسعى العديد من الجمعيات المدنية، بمساندة معظم أفراد المجتمع اليمني، إلى الحفاظ على مكانة البن اليمني، من خلال إنشاء اتّحاد منتجي البن الذي يضم في عضويته أكثر من 30 جمعية تعاونية لتوحيد الجهود، توّجت بزراعة أكثر من مليون شجرة بن خلال الأعوام الخمسة الماضية، ويقدّر عدد العاملين في زراعة البن بمليون ونصف مليون يمني، والذي يعدّ مصدر دخلهم الوحيد، كما تحدث محمد القاسمي، مسؤول وحدة البن في اللجنة الزراعية العليا.
من أهم المبادرات المجتمعية، توزيع شتلات البن على طلاب المراكز الصيفية، لخلق وعي لدى الأجيال بأهميّة هذا الكنز والحفاظ على أصالته التاريخية، وتعزيز ارتباط الأجيال بشجرة البن والتوسع والاستمرار في زراعتها.
ويضيف القاسمي في حديثه إلى أنه تم إعداد استراتيجية لتنمية محصول البن، أقرّها مجلس الوزراء في نيسان/أبريل 2020م، وتتضمن هذه الاستراتيجية عدداً من البرامج التنفيذية لتطوير هذا المحصول، ودعم المزارعين لزيادة الإنتاجية من 18 ألف طن إلى 50 ألف طن مع حلول عام 2025م.
وأما الخطر الذي يهدّد البن اليمني، وفق القاسمي، فهو دخول البن الأجنبي وتهريبه إلى الأسواق المحلية، وقد تمّ إصدار قرار بحظر تداول البن الأجنبي وقشوره وغلاته في الأراضي اليمنية، لحماية هذه الثروة المهمة.
وقد اشتهر العديد من القصائد عن البن، أشهرها قصيدة “الحب والبن”، للمؤرخ اليمني مطهر الأرياني التي ربط بين زفّ البشرى لحارس البن، باقتراب موسم الحصاد، واقتراب موعد زفافه بمن يحب، وقال فيها:
“يا حارس البن بشرى موسم البن داني
ما للعصافير سكرى بين خضر الجنان
هل ذاقت الكأس الأولى من رحيق المجاني
واسترسلت تطرب الكون بأحلى الأغاني
قال أبشروا بالخبر
بشاير أول ثمر
ظهر بلون الخضر
على خدود الغواني
طاب الجنى يا حقول البن بأحلى المغاني
يا سندس أخضر مطرز بالعقيق اليماني
بن اليمن يا درر
يا كنز فوق الشجر
من يزرعك ما افتقر
ولا أُصيب بالهوان”.