دلالاتُ الاتّفاق السعوديّ الإيراني بتوقيع الصين..بقلم/ د/ حبيب الرميمة
قبلَ الحديثِ عن الدلالات للاتّفاق الذي تم توقيعُه بالأمس في بكين بين المملكة العربية السعوديّة وجمهورية إيران الإسلامية، لا بُـدَّ أن نباركَ مثل هذه الخطوات من منطلقٍ قومي وإسلامي؛ فأي تقارب بين دول المنطقة العربية والإسلامية هو بالطبع ينعكسُ على استقرار المنطقة بالدرجة الأولى، وإخراجها من ملعب الصراعات الدولية التي ترى في زيادة الاحتقان بينها مطلباً مهماً؛ لتحقيق مصالحها وإبقائها في بؤر التوتر والصراعات؛ لذلك من المناسب أن نشيد بأية خطوة في المنطقة تقطع حبال المؤامرات وتستثمر في الخلافات بين أبناء الأُمَّــة الواحدة، وحسناً فعل وزير الخارجية السعوديّ عندما قال في أعقاب الاتّفاق: إن عودة العلاقات بما يجمع دول المنطقة من مصير واحد وقواسم مشتركة.
هنا نحاول أن نستعرضَ دوافعَ هذا الاتّفاق والذي بالطبع -حسب اعتقادنا- لم يكن مراعاةً لمصالح بقدر ما كان اتّفاقَ مصيرٍ ووجود.
فالسعوديّة ومنذ العام ٢٠١٥م، أُريد لها أن تكونَ هي المدفعَ في وجه القوى الصاعدة بالمنطقة، خُصُوصاً مع فشل الإخوان المسلمين برعاية قطر منذ العام ٢٠١١ أن يكونوا هم البديلَ لمواجهة ما يطلق عليه بُعبُع “الهلال الشيعي”.
مع مجيء سلمان بن عبد العزيز وسياسة الأحلاف التي تبنتها الإدارة الأمريكية بقيادة السعوديّة، ابتداءً بعاصفة الحزم باليمن، مُرورًا بدعم التنظيمات المناوئة للنظام السوري، والعمل على شق البيت الشيعي في العراق ودعم حكومة الكاظمي، والانهيار الاقتصادي الخانق في لبنان.. كُـلّ هذه الأعمال جعلت من السعوديّة تظهر بموقف المتصدر كخط دفاع أمامي في مواجهة المحور المقاوم للسياسة الأمريكية الإسرائيلية في المنطقة، لكن قيادة السعوديّة أدركت يوماً بعد آخر أن قوة التيار التي تناهضُه تتحَرّكُ على الأرض بثباتٍ راسخ، بخلاف ما يتم تصويرُه في الهالة الإعلامية الضخمة التي ترتكز عليها.
هذا من ناحية، ومن ناحية أُخرى أن عداءَها ضد معظم المحيط المجاور لها يجعلها داخل حلقة من نار، وأن صمودَ ووعي وتماسك المحور الذي يراد منها مواجهته عصيًّا على الانكسار، ولا يمكن أن يرجى أملاً في تفتيته؛ فالنظامُ السوري يزداد صموداً وتزداد حاضنتُه الشعبيّة، والشعب اليمني يزداد التفافاً نحو قيادة أنصار الله، والتيار الذي كان من المؤمل أن يقسم البيت الشيعي في العراق ويزج بالعراق في أتون حرب أهلية شيعية -شيعية ظهر أنه أشبهُ بكاميرا خفية عندما دقت ساعة الصفر، وَالدعم المهول للانتخابات في لبنان لم تستطع أن تغير من موازين القوى رغم ما تم بذلُه من أموال وضغوط سياسية واقتصادية، أضف إلى ذلك ضعفَ المحور الأمريكي الغربي الحليف الرئيسي لها، وإخفاقَه في أكثر من صعيد إقليمي ودولي، مع بروز القوة الصينية -الروسية كمنافس قوي للحلف الأمريكي الغربي.
كُـلّ هذه العوامل جعلت من الرياض تعيدُ حساباتِها من جهة، وبما يخدم حسابات حلفائها الغربيين من جهة أُخرى، فالسعوديّة منذ إنشائها ينظر إليها الغرب كدولة وظيفية لتحقيق مصالحه، ويقيناً لا أحد هناك يرغب أن يرى هذا النظام الذي يتربع على بحر من الذهب الأسود ينهار أو يتفكك، وقادة السعوديّة أدركوا جيِّدًا أنهم كبشُ الفداء في ظل عالم ينهض، وعالم ينهار، وأن العصرَ الآسيوي قادمٌ لا محالة، وأنهم ينسلخون أكثرَ وأكثرَ من محيطهم الآسيوي لصالح الغرب المنهار، أضف إلى ذلك تفكُّكَ الحلف الذي كان يؤمل منه أن يخضعَ تحت الزعامة السعوديّة، فالإمارات ذهبت بعيدًا في التسويات داخل المنطقة بما يخدُمُ مصالحها فقط وفقط، إنْ على صعيد العلاقات مع إيران أَو مع نظام الأسد، ومصر السيسي يمسكُ بشعرة معاوية في علاقاته مع جميع الأطراف بما فيها سوريا، أضف إلى ذلك تمسكَه الشديدَ بعدم التنازل عن أي شبر فيما يتعلق بتيران وصنافير وبيع الوهم لها، وتركيا التي كان يؤمَّل منها أن تكونَ الساندَ القويَّ للسعوديّة في أي صراع داخل المنطقة -خُصُوصاً بعد المصالحة- غارقةٌ بنكبتها إثر الزلزال المدمّـر، حتى إسرائيل تهتزُّ من الداخل وَمنشغلةٌ بأزماتها الداخلية.
كُـلُّ هذه الأسباب كانت الدافع الرئيسي أن تتبنى السعوديّة موقفاً مغايراً والعدول بالمضي في سياسة وجه المدفع، كثير من المؤشرات تدل أن الاتّفاق بين السعوديّة وإيران كان بوساطة روسية بالأَسَاس، وما الزيارات والوفود التي شهدتها موسكو في الأسابيع السابقة إلا خير دليل، لكن أن يتم التوقيع في موسكو كان له انهيار معنوي للمنظومة الغربية خُصُوصاً مع النكسات التي تلاحقها في أُوكرانيا، فالتحالف الأنجلو أمريكي لديه عقدة راسخة منذ زمن أن يرى روسيا تعود إلى الشرق، لذلك ظهرت الصين التي لا تتمتع بأحلاف تاريخية على مستوى المنطقة هي من ترعى الاتّفاق للحد من تأثيراته، لكن اللاعب الحقيقي والخفي هي روسيا.
الخلاصةُ أن دلالات هذا الاتّفاق له ما بعده على مستوى المنطقة، وأن توقع السعوديّة وبتغاض من حلفائها التاريخيين اتّفاقاً مع إيران من عاصمة الصين هو من باب مكره أخاك لا بطل، فالتحالف الإنجلو أمريكي وصل إلى قناعة أن هذا الخيار الوحيد لضمان مصالحه التي تتمثل في بقاء النظام السعوديّ وعدم تدحرجه أكثر فأكثر في محيطه الملتهب والغاضب.
مرة أُخرى نقول: مهما كانت الأسباب والدلالات يبقى انسحاب النظام السعوديّ من فوهة المدفع خطوة ممتازة وجديرة بالإشادة، وأن يضمن مصالح الدول الغربية هذا شأن خاص بها، المهم هنا تسوية الخلافات مع محيطه في المنطقة على أَسَاس الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وإقامة علاقات طبيعية معها، بما يكفل حسن الجوار المتبادل؛ لأَنَّ هذه الخطوة أحرجت وستحرج الكثير من الحلفاء الإقليميين الذين كانوا يدفعون بقوة النظام السعوديّ لتصدر المواجهة بما يعفيهم من حدة المواجهة وإيجاد هامش كبير بالبقاء ضمن سياسة التوازنات السياسية، ولا أدل على ذلك من تغريدة مستشار رئيس دولة الإمارات عقب الإعلان عن توقيع الاتّفاق: “إن إيران ستبقى التهديدَ الأخطرَ والأكبرَ لاستقرار الخليج العربي، سواء بهذا الاتّفاق أو بغيره –على حَــدّ زعمه-“؛ فليتفضل سيادة المستشار وتتزعم بلاده الدور “لتفادي هذا الخطر” الذي كان يراد أن يبقى على كاهل النظام السعوديّ لإرهاقه واستنزافه؛ فمن حق السعوديّة أن تحلحل كومة المشاكل التي تهدّد وجودها وأن تعيش في جو من العلاقات الطبيعية مع جيرانها ومحيطها، فمن يدري قد يأتي اليوم الذي لا تجد إلا إيران وبعض من القوى المحسوبة على محور المقاومة إلى جانبها (في السياسة لا شيء مستحيل).
دلالة أخيرة نود أن نسجلها هنا، كنا قبل أَيَّـام ومن هذا المنبر في مقال حول العلاقات السعوديّة الروسية الثابت والمتغير؟ قد سجلنا تحفظنا على قول البعض إننا في نظام دولي متعدد الأقطاب، طالما والنفوذ الغربي حكرٌ على قلب العالم (الجزيرة العربية).
اليوم وبعد هذا الاتّفاق بتوقيع الصين ومن ورائه روسيا نستطيع القول إنهما وضعتا أولى لبنات عالم دولي متعدد الأقطاب، ليبقى السؤال هل ستصمد السعوديّة في هذا الاتّجاه أم أن “الشيطان” يكمن في التفاصيل؟