جريمةُ استهدافِ دار المسنين.. إفرازاتٌ لصراعِ النفوذ في عدن، وملامحُ للمدينة الغارقة بالدم
دارُ المسنين والعَجَزَةِ في عدن كان مسرحاً لجريمةٍ بشعةٍ، أعادت للأذهان جريمةَ مستشفى العُرضي بصنعاءَ، ومجدَّداً القَتَلَة يختبئون خلف قناع، بينما أصابعُ الاتهامات تختلفُ في إشاراتها، البعضُ يتهم القاعدة، والبعضُ الآخر يجزمُ أنّها إدارةُ التوحُّش في تنظيم داعش، ومحللون يقرأون الجريمةَ من زاويةِ الصراعِ السعودي الإمَـارَاتي.
صدى المسيرة/ حسين الجنيد
في جريمةٍ هَزَّت الأوساطَ الشعبية والسياسية، هاجم مسلحون يخفون وجوهَهم بأقنعةٍ سوداء، صباحَ يوم الجمعة في الرابع من مارس، دار المسنين الواقع في مديرية الشيخ عثمان، وبدماءٍ باردةٍ يضخها التوحش، قتل المسلحون 16 عشر من العاملين في الدار، وأربع ممرضاتٍ يحملن الجنسية الهندية، إضافةً إلى أحد أفراد حراسة الدار، أحد الناجيات من هذه المجزرة البشعة والتي رفضت الإفصاح عن اسمها، خشية استهدافها من قِبَل تلك العناصر، تروي جزءً من تفاصيل الجريمة: “فوجئنا، الساعة الثامنة صباح يوم الجمعة 4 مارس 2016، بهجومٍ من قبل مسلحين يلبسون اقنعةً سوداء، واستهلوا جريمتهم الشنعاء بقتل أفراد حراسة الدار، ومن ثم دخلوا إلى الأقسام، حيث أخذوا الممرضات الهنديات وقاموا بتقييدهن قبل أن يقدموا على قتلهن”.
وأوضحت أن “القتلة كانوا يكبـّلون كُلّ ضحيةٍ ومن ثم يقومون بقتلها في أماكن متفرقة من الدار”.
وأضافت بصوتٍ يسكن نبراته الخوف والهلع أنّ “عملية القتل هذه لم نشهد مثيلها طوال حياتنا من حيث درجة الوحشية و التي استمرت مدة ساعة”.
ومن جهةٍ أخرى، أوضح مصدرٌ محليٌّ بالمحافظة: “أنّ الضحايا توزعوا بين (تسع نساء وسبعة رجال) وأكثرُهم من العاملين في الدار في مجالات الحراسة والرعاية والتمريض وبينهم أربع “راهبات” يحملن الجنسية الهندية، فيما نجت إحدى الممرضات الهنديات بعد نمكنها من الاختباء في ثلاجات التبريد”.
وأشار المصدرُ إلى أنّ هذه الجريمة “تأتي في إطار الانفلات الأمني وما تشهده المحافظات الجنوبية من اغتيالات وتفجيرات وانتشار للعناصر الإرهابية”، حسب تعبيره.
دار المسنين ومستشفى العرضي، تشابُهُ السيناريو والأقنعة
ومن خلال الإحاطة بتفاصيل هذه الجريمة، يبرز الاتساق في المشهد من حيث الأسلوب والنمط المتبع في تنفيذها، بتفاصيل جريمة مستشفى العرضي بصنعاء التي وقعت في شهر ديسمبر 2013م، حين هاجم مسلحون مقنعون المستشفى وأطلقوا النارَ على العاملين في المستشفى والمرضى وجنود الحراسة، هذا الاتساق وهذا التشابه في الأسلوب، أكّده العديدُ من المراقبين ونشطاء مواقع التواصل الاجتماعي، حيث أكّد الصحفي “رضوان فارع” المتخصص في التنظيمات الإرهابية في منشورٍ له على صفحته في موقع الفيس بوك “أن جريمة دار المسنين بعدن تحمل نفس بصمات جريمة مستشفى العُرضي”.
في حينِ ربط بعضُ المحللين السياسيين تفاصيل المشهدَين من حيث “التوقيت، والاستهداف، والأقنعة” مؤكدين أنّ “تنفيذ العملية صباحاً، يوصل رسالةً واضحةً مفادها القدرة على الاستهداف في أيّ وقتٍ من الـ 24 ساعة وفي هذا نوعٌ من الاستعراض للقوة وبث أكبر قدرٍ من الرعب في نفوس المجتمع، والأقنعة ترمز إلى استحالة الوصول إليه، وانتقاء المكان لرمزيته الإنسانية؛ للدلالية على أن الأمكنة التي تحافظ على الحياة الإنسانية باتت مسكونةٌ بالموت”.
وفي بيانٍ له نُشِرَ على المواقع التابعة له، نفى تنظيم القاعدة أي صلةٍ له بالجريمة موكداً أن “هذه الجريمة لا تمت بأساليب تنظيم القاعدة بأي صلة”، حيث فاجأ البيان العديد من المراقبين وأثار سخريتهم، لدرجةٍ دفعت أحدهم للقول “إن هذا البيان مفبرك، فهناك العديد من المواقع التي باتت متحدثةً رسمية باسم التنظيم، وتنسب وتنفي ما يريده ممولو هذه المواقع، فهذه الجرائم لم يشهدها الناس إلا منذ بروز هذا التنظيم في المنطقة، ولم ينافسه في وحشية جرائمه سوى تنظيم داعش”.
جازماً أن “مقترف هذه الجريمة هو ذاته مقترف جريمة مُستشفى العُرضي”، في إشارةٍ منه إلى تنظيم القاعدة الذي أعلن تبنيه رسمياً لجريمة مستشفى العرضي.
من جهتها أوضحت الصحفية “فردوس العلمي” أنّ “مشكلةَ دار المسنين ظهرت، منذ عام 2011، حين تناقل الكثير من المواطنين تساؤلاتٍ مفادها: لماذا يشرف على إدارة هذا الدار مسيحيين؟ واتهموا الإدارة أنها تُخْرِجُ المسننين والعجزة من دينهم، ولا تجعلهم يقرأون القرآن، أَوْ حتى يصلّون فروضهم، ويحرموهم من دخول المسجد، ووصلت الشائعات حدّ اتهام الطاقم أنّهم يقوم بترتيباتٍ جنائزيةٍ بالطريقة المسيحية، في حال وفاة أي مُسنّ، وهذه الجريمة نتيجة سكوت الجهات المعنية، وعدم وضع حدّ لتلك الشائعات بتفنيدها للناس”.
وفي صلةٍ وثيقةٍ بما قالته الصحفية فردوس، نشر أحد المواقع التابعة لتنظيم القاعدة أن “هذا الدار هو دارٌ تبشيري تابع لأحد المنظمات التبشيرية الدولية، وقد تم تصفية هؤلاء الذين يقومون بنشر الكفر في ديار المسلمين”، واعتبر مراقبون أن “هذا البيان يعد دليلاً على ارتكاب التنظيم لهذه الجريمة البشعة”.
داعش تفرض السيطرة بإدارة التوحش
وفي تقريرٍ نشره أحد المواقع التابعة لمرتزقة العدوان الأمريكي السعودي، والذي تضمن توصيفاً للجريمة واقترانها باستراتيجية أطلقها تنظيم داعش مؤخراً تُعْرَفُ بـ “إدارة التوحُّش”، وأوضح التقرير أن “داعش اتبع في هذه الجريمة نفس التكتيك الذي انتهجه في بداية نشأته في العراق وسوريا، باتّسام جرائمه بشدة الوحشية والبشاعة، واستهدافه للصحفيين والناشطين والعاملين في دور الرعاية من المسيحيين”.
وربط التقريرُ التزامن بين تحرير المحافظات الجنوبية من مليشيات الحوثي وصالح حسب وصفه، وظهور تنظيم داعش، مؤكداً “الارتباطَ الوثيقَ بين هذا التنظيم وبين ما أسماهم بمليشيا الحوثي وصالح”.
وفي سياقٍ متصلٍ بهذا التقرير، والذي علّق عليه أحد المراقبين بقوله: “التوصيف في الجزئية التي تتعلق بما يُعْرَفُ بإدارة التوحش، يُعتَبر منطقياً وقد يكون صحيحاً بنسبةٍ كبيرةٍ؛ كون الجريمة الشنعاء حصلت في منطقة الشيخ عثمان، الواقعة فعلياً تحت سيطرة تنظيم داعش، بل تعتبر المعقل الرئيس للتنظيم، واقتراف الجريمة في وضح النهار، يدلل بشكلٍ قاطع أن مرتكبها يسيطر فعلياً على المنطقة؛ كون الجريمة استمرت لمدة ما يقارب الساعة وفي حي مأهول بالسكان، وفي ظل تقاسُمِ مناطق النفوذ في مدينة عدن التي باتت موزعةً على التنظيمات الإجرامية، باتت أيَّةُ جريمة اغتيال أَوْ تفجير تنسب للتنظيم المسيطر على المنطقة التي وقعت فيها الحادثة”.
وفيما يخُــصُّ الجزئيةُ المتعلقةُ بارتباط داعش بصالح والحوثيين أكّد أنّ “المسألة باتت واضحةً للجميع، فإذا كان داعش يتبع صالح والحوثيين، فلماذا يتم السماحُ لعناصره بالتجول العلني في شوارع عدن، وكيف يسيطرون على مناطق شاسعةٍ في المدينة، دون أن تتم محاربتُهم أَوْ استهدافهم من قبل السلطات في المدينة”.
صراعٌ إمَـارَاتي سعودي
وفي متابعةٍ للعلاقات بين البلدَين، برز الخلاف بين الحليفتين والشقيقتين السعودية والإمَـارَات على مستوىً عالٍ؛ بسبب الصراع بين الطرفين على النفوذ بحسب مراقبين.
حيث قالت صحيفة “الفايننشال تايمز” في عمودها المخصص لشئون الشرق الأوسط، الذي حمل عنوان “النفوذ في عدن يعصف بالحلفاء”، إنّ “الخلافاتِ وصلت للمستوى الذي تخطى جدران السرية، من خلال صفحات التواصل، وحرب الهاشتاقات”.
وفسّرَت الصحيفة الغضبَ السعودي تجاه الإمَـارَات؛ “بسبب استحواذها على نصيب الأسد، بالقدر الذي لم تترك فيه للمملكة غيرَ الفُتات عبر جماعاتٍ تدينُ بالولاء للرئيس هادي”.
وفي تصرُّفٍ استفزازي، أعاد وزيرُ خارجية الإمَـارَات، عبدالله بن زايد، نَشْرَ مقولةٍ على موقع “تويتر”، ترجِع للمفكر السعودي المعارض، حسن فرحان المالكي، والتي تصفُ المجتمع السعودي، أنه تربّى على ثقافةٍ جنائزيةٍ لا تتحدث إلا عن الكفر والحرام، متهمًا ثقافة السعوديين أنها معاديةٌ للحياة، وتحتقرُ الإنسان، وتدعم الاٍرهاب.
تغريدة وزير الخارجية الإمَـارَاتي أثارت حفيظةَ وسخط حلفائه السعوديين، وهو ما دفعهم إلى تدشين هاشتاق مُعادٍ للوزير الإمَـارَاتي، تحت عنوان عبدالله بن زايد يهين السعوديين، وعبر هذا الهاشتاق، انطلقت الانتقاداتُ والاتهاماتُ السعودية الموجّهة إلى الوزير الإمَـارَاتي ودولته بأكملها، فسخر النشطاءُ من بن زايد، وقلّلوا من أهمية دولتهم، واتهموا قياداتٍ في دولة الإمَـارَات أنهم يريدون أن يلعبوا دورًا أكبر من حجمهم في الشرق الأوسط، وأن هذا سيضرهم، ووصفوا السياسيين الإمَـارَاتيين بـ “عيال دحلان”، نسبةً إلى الدور الاستشاري الذي يضطلع به المسؤول السابق في حركة فتح، محمد دحلان، في الإمَـارَات.
مراقبون أكدوا أنّ “الخلافات السعودية الإمَـارَاتية لم تكن وليدة التغريدات التي انطلقت على مواقع التواصل الاجتماعي، بل منذ بداية قيام السعودية بالعدوان على اليمن، بعد أن خذلتها العديد من الدول، وفضلت أن تنأى بنفسها عن التورط في حربٍ لا يُعرف لها أهداف أَوْ نهاية، فيما تمكنت المملكة من إقناع الإمَـارَات بالدخول إلى جانبها في هذا العدوان، وهنا ظهرت الخلافات منذ الشهر الأول على مناطق النفود واستراتيجية كُلّ دولة في القتال”.
وأنّ الخلاف ازداد تعمُّقاً وتجذّراً “منذ انفردت الإمَـارَات بالسيطرة على أهم وأكبر المناطق في عدن، ما دفع المملكة إلى القيام بعملياتٍ تقيّض هذا النفوذ الإمَـارَاتي، من خلال عمليات استهدافٍ لأبرز الشخصيات التي تحظى بالدعم الإمَـارَات، واستهداف الأمن في المدينة، كي تثبت فشل الأخيرة في قدرتها على قيادة الوضع الأمني في عدن، وأن عملية استهداف دار المسنين وغيرها من العمليات تأتي في هذا السياق”.