عامٌ من التهدئة: لا تغييرَ في نوايا العدو
المسيرة | ضرار الطيب
عامٌ كاملٌ مَــــرَّ على إعلانِ الهُـدنةِ بين صنعاءَ وتحالفِ العدوان الأمريكي السعوديّ الإماراتي، وما أعقبها من خفض للتصعيد، وهي فترة كان من المفترض أن يتم خلالها إحراز تقدم في مختلف المِلفات، وأبرزها المِلَفُّ الإنساني؛ مِن أجل التمهيد لخطوات سلام أوسع، لكن النتائج كانت أقلَّ بكثير مما كان مؤملاً ومما تم التعهد به؛ بسَببِ إصرار تحالف العدوان ورعاته على استخدام التهدئة كغطاء لتحقيق غايات أُخرى بعيدة تماماً عن السلام وتخفيف معاناة اليمنيين، وذلك بتواطؤ فاضح من جانب الأمم المتحدة التي لا زالت تؤكّـد بشكل فج على تمسكها بتصورات وإطارات خاطئة تدعم أهداف ومخطّطات تحالف العدوان ورعاته الدوليين الذين يواصلون بدورهم استخدامَ استحقاقات الشعب اليمني كأوراق ضغط وابتزاز، ويحاولون الالتفافَ على متطلبات الحل العادل؛ وهو الأمرُ الذي يُبقِي احتمالاتِ عودة التصعيد أعلى بكثيرٍ من احتمالات استمرار التهدئة وتطورها.
ملخَّصُ: دوافع بعيدة عن السلام:
منذ البداية، كانت دوافع تحالف العدوان ورعاته للجوء إلى الهُـدنة بعيدة عن السلام؛ إذ كان واضحًا أن تجنب تصاعد عمليات “كسر الحصار” على منشآت النفط السعوديّة، هو الهدف الأبرز، إلى جانب عدة اعتبارات أُخرى تتعلق بسياسات البيت الأبيض على المستوى الدولي، خُصُوصاً مع الحرب في أوكرانيا.
مجرياتُ فترة الهُـدنة أثبتت، فيما بعدُ، أن هذه الدوافع لم تتغير؛ إذ رمى تحالف العدوان الاتّفاق الذي تم التوقيع عليه عرض الحائط، وأخضع بنوده الواضحة لرغباته ومصالحه وتفسيراته الخَاصَّة، من خلال عرقلة رحلات مطار صنعاء الدولي، ورفض فتح وجهة القاهرة، وتقطير سفن الوقود التي تم الاتّفاق عليها، ورفض فتح الطرق في تعز والمحافظات، وهو تعنت دعمته الأمم المتحدة بشكل فاضح وصادم من خلال التماهي مع دعايات ومبرّرات تحالف العدوان ومحاولة خداع صنعاء بالتعهدات والوعود؛ مِن أجل التمديد.
هذه النتيجة المخيبة كشفت بشكل واضح، وعلى مدى ستة أشهر، أن تحالف العدوان ورعاته يسعون إلى تحويل الهُـدنة إلى حالة “لا حرب ولا سلام” طويلة الأمد؛ وهو ما دفع صنعاء لرفض التمديد، لتبدأ بعد ذلك مرحلة “خفض تصعيد” رَدَّت فيها صنعاءُ على تعنُّتِ العدوّ ورُعاتِه بمعادلاتٍ جديدةٍ، أبرزُها منعُ نهب وتهريب النفط الخام، والتي أعادت من خلالها صنعاءُ وضعَ تحالف العدوان أمامَ استحقاقات السلام التي حاول التهرُّبَ منها طيلةَ ستةِ أشهر.
المعادلاتُ الجديدةُ وضعت تحالُفَ العدوان أمامَ مخاطرِ عودةِ التصعيد؛ وهو ما أجبره على تعديلِ موقفِه قليلًا، من خلال السماحِ بإبقاء بعض “المميِّزات” المحدودة جِـدًّا لاتّفاق الهُـدنة المنتهية، واللجوء إلى طاولة التفاوض بتعهُّداتٍ جديدةٍ مقابلَ تجنُّبِ عَودةِ الحرب.
مع ذلك، لم تتغيرْ دوافعُ دول العدوان ورعاتها، وبالرغم من بروزِ مؤشرات على إدراك بعض أطراف العدوان عدم جدوى الاستمرار بالحرب والحصار، إلا أن هذا الإدراك لم يرقَ إلى مستوى مواجهة الرغبة الأمريكية في تكريس حالة “اللا حرب واللا سلام”؛ الأمر انعكس بشكل عملي على استمرار عرقلة الرحلات الجوية، ورفض فتح أية وجهات جديدة، ومواصلة التمسك بآليات الحصار على ميناء الحديدة، ورفض صرف المرتبات من إيرادات البلاد.
ولم يقف الأمر عند رفض استحقاقات السلام التي يتوقف عليها استمرار التهدئة أَو تطويرها، بل اندفع تحالف العدوان ورعاته نحو خطوات تصعيدية استفزازية جديدة على مستوى الحرب الاقتصادية، مثل: قرار رفع سعر الدولار الجمركي ونهب حقوق السحب الخَاصَّة، وَأَيْـضاً على المستوى الميداني من خلال التحَرّكات العسكرية في المحافظات المحتلّة.
هذه النتائج جددت التأكيد على أن تحالف العدوان ورعاته لا يسعون فقط إلى تكريس حالة اللا حرب واللا سلام، بل يسعون إلى بدء مسار حرب جديد وإنما من طرف واحد، وهو ما ردت عليه القيادة الوطنية مؤخّراً بتحذيرات واضحة وشديدة اللهجة تعيد وضع تحالف العدوان ورعاته أمام نفس المخاوف التي حاولوا تجنبها قبل عام من الآن، غير أنها الآن ستكون مضاعفة، وستكون محاولة تفاديها بالحيل والألاعيب عسيرة للغاية، لعدم وجود أية مساحة للمراوغة، وبالتالي فَـإنَّ الطريق الوحيد أمامهم هو تنفيذ متطلبات السلام حتى وإن لم تكن دوافعهم تنسجم مع ذلك.
تمسُّكٌ معلَنٌ بالحرب والحصار:
في تعليقِه على مرور عام على الهُـدنة وما أعقبها، كتب رئيسُ الوفد الوطني محمد عبد السلام، أنَّ هذه الفترة الزمنية “كانت كافيةً لتظهر جدية دول العدوان حول السلام، لكنها عوضاً عن ذلك أبقت للأسف على حالةِ الحرب بالمماطلة وباستمرار الحصار ورفض صرف المرتبات وغيرها من الخطوات اللازمة لإحلال أي سلام”.
هذا التأكيدُ لا يحملُ فقط تقييمًا واضحًا لدوافع وأهداف العدوان خلال المرحلة الماضية، بل يسلِّطُ الضوءَ على موقفه الحالي؛ لأَنَّ رفضَ الخطوات اللازمة للسلام خلال عام كامل، يشكّل خلفيةً لا يمكن تجاهلها للإجَابَة على تساؤلات مثل: هل اكتفى العدوّ من المراوغة بعد؟
والحقيقةُ أن رُعاةَ تحالف العدوان يجيبون بوضوحٍ على هذه التساؤلات بنفي جلي؛ فالمبعوثُ الأممي على سبيل المثال، يزعُمُ في مقالٍ كتبه بمناسبة مرور عام الهُـدنة أنه “لا يمكن معالجةُ الاقتصاد بمعزلٍ عن المسارين السياسي والعسكري”، وهي عبارةٌ تربط بوضوح المطالب الإنسانية ذات الطابع الاقتصادي كصرف الرواتب من إيرادات البلد ورفع القيود عن الموانئ والمطارات بالملفات السياسية والعسكرية؛ الأمر الذي يعني أن الأمم المتحدة لا زالت متمسكة بالتصور القديم الذي مثل طيلة السنوات الماضية عائقاً رئيسياً أمام كُـلّ جهود الحل؛ لأَنَّ هذا التصور يفتح المجال أمام العدوّ لاستخدام الاستحقاقات كأوراق تفاوضية سياسية وعسكرية، وهو ما لم تمل صنعاء من التأكيد على استحالة القبول به.
غروندبرغ في مقاله أقر بأن أي اتّفاق مؤقت (كالهُـدنة) لن يعالج معاناة اليمنيين، لكنه انقلب على نفسه سريعاً وحث “الأطراف” على أن تجعل أي “اتّفاق جزئي جديد” خطوةً نحو حَـلّ شامل، وهو ما يعني أن الأممَ المتحدة (وبالتالي منظومة تحالف العدوان) لا زالت تحاولُ أن تعودَ إلى النقطة التي يتم فيها عقدُ اتّفاق جزئي جديد، على “أمل” أن يمهِّدَ هذا الاتّفاقُ لخطوات أوسع، وكأن عاماً كاملاً من التهدئة لم يكن!
أَمَّا الرئيسُ الأمريكي، جو بايدن، والذي أصدر هو الآخر بياناً بمناسبةِ مرور عام على الهُـدنة، فقد ركَّز فقطْ على “امتداح” الهُـدنة؛ باعتبار أنها “إنجازٌ” للبيت الأبيض في مسار وقف الحرب على اليمن، زاعماً بشكل وقح أنها سمحت لليمنيين “بالسفر إلى كافةِ أنحاء الشرق الأوسط” و”أنقذت الأرواحَ”، وجعلت المساعداتِ “تتدفق في كافة أنحاء البلاد”، مؤكّـداً في الوقت نفسه التزامَ الولايات المتحدة بحماية السعوديّة من الهجمات العابرة للحدود، وهو موقفٌ يكشف أن واشنطن لا زالت هي الأُخرى متمسكةً بتصورات أكثرَ بُعداً عن الواقع وعن السلام الفعلي.
إن كلماتِ غروندبرغ والرئيس الأمريكي تؤكّـد بوضوحٍ أن رعاة تحالف العدوان لم يكتفوا من المراوغات بعدُ، و”احتفاءَهما” اللا واقعي بمرور عام الهُـدنة (التي انتهت أصلاً قبل ستة أشهر) يكشفُ بوضوح عن توجّـه مُستمرّ للحفاظ على عنوانها لرسم صورة مزيَّفة تخدعُ الرأيَ العام بأن الحرب انتهت، فيما تسمح على الواقع بمواصلة قتلِ وتجويع الشعب اليمني واحتلال محافظاته وجزره وسواحله.
وبالتالي، فَـإنَّ تحذيراتِ قائد الثورة وقيادةِ القوات المسلحة الأخيرة بشأن احتمالات عودة الحرب والعمليات النوعية لا تزالُ هي المؤشرَ الأكثرَ ثباتاً وواقعيةً فيما يتعلقُ بالمرحلة القادمة.