“ويطعمون الطعام” (ح2) الإطعام يقوي الروابط ويعزز السلم المجتمعي.. بقلم/ إبراهيم محمد الهمداني
إن توجّـه عالم اليوم نحو المادية، نهجاً وفكراً وسلوكاً، قد حوَّل المجتمع الإنساني، إلى وحش كاسر، وقاتل محترف مأجور، يدمّـر كُـلّ مظاهر إنسانيته، في سبيل الحصول على مزيدٍ من الأموال والأرباح، بمختلف الطرق والوسائل، مهما بلغت درجة الانحطاط والتوحش والانحراف عن مقتضيات إنسانية الإنسان، التي جعلها الله أَسَاس تكريمه وتميزه، عن عالم الحيوان وما في حكمه، ولذلك يمكن القول إن تحول الإنسان عن مسار إنسانيته، وارتداده عن مقام تكريمه، وانحداره إلى عبادة وتقديس المادة، أسقط عنه كُـلّ كرامة وتميز، وجعله أحط قدراً من الحيوان، وَإذَا كان الحيوان يمارس توحشه استجابة لغريزة البقاء، ودفعاً لما يراه ضرراً قد يؤذيه، فَــإنَّ الإنسان يمارس التوحش بدافع الطمع في أكبر قدر من الأرباح، ويتصف بالشح نزولاً عند شره النفس، وشهوتها في جمع الأموال، إلى ما لا نهاية ولا حَــدّ لطمعها.
ولذلك عمد إنسان المادة اليوم، إلى إقامة وامتلاك مصانع الأسلحة، والتنافس في صناعة أقوى وأحدث الأسلحة، المتعاظمة فتكاً وتدميراً، ولم يبالِ بعظيم جرمه، حين جعل دماء الأبرياء، هي مؤشر ارتفاع نسبة أرباحه، في بورصة القتل والإجرام، ولم يتورع عن المتاجرة بالخمور والمخدرات والجنس، وكلّ ما فيه هدم وتدمير لكيان الإنسان وكينونته، بل لم يتحرج العالم المادي، من المتاجرة بالإنسان نفسه، وجعله سلعة رائجة في مضمار الثراء المتسارع، والكسب غير المشروع.
تلك الحالة أفرزت تصدعاً عميقاً في بنية المجتمع، وانقسامه إلى فئتين؛ الأولى:- مجتمع أرباب المال، قتلة الإنسانية، المترفون فوق ما يتصوره الخيال من الترف، المجرمون أكثر مما يمكن توقعه من صور الإجرام.
والثانية:- المسحوقون الفقراء المعدمون، الذين سلبهم أرباب المال لقمة عيشهم، وكرامتهم وقيمة وجودهم، واستغلوهم إلى أقصى ما يمكن من مظاهر الاستغلال، ليقوموا بعد ذلك بتصنيفهم حضارياً، في مسمى عالم ثالث، يرمز إلى التخلف والهمجية والإرهاب، وافتقاره لأدنى مقومات الإنتاج والبناء والتقدم، وهذا بدوره أفرز حالة من الحقد والعداء الكبير، بين طبقتي المجتمع المتنافرتين، فأرباب المال يرون في الفقراء خطراً محدقاً بهم، يجب القضاء عليه ودفعه عن أموالهم، بأية طريقة ومهما كان الثمن، والفقراء يرون أرباب المال وحوشاً مفترسة نهمة، بأفواه تتسع لابتلاع الأرض ومن عليها، وبطون لا تملؤها كُـلّ ثروات الكوكب، ولذلك يجب إيقافهم، والحد من جشعهم، ومتاجرتهم بالإنسان وتسلطهم عليه، وتحكمهم في مصيره.
ذلك الانقسام الحاد في بنية المجتمع، أنتج مزيداً من العداء، ومشاريع القتل والتدمير الإمبريالية، التي كانت نتيجة طبيعية للشح المضاعف، المتبادل بين من يملكون ومن لا يملكون، ولا يخفى ما للشح والجشع والبخل، من تداعيات ومخاطر سيئة جِـدًّا، على مستوى الفرد والمجتمع، غير أن الإسلام قد قدم العلاج الناجع لهذا المرض، وجعل الإنفاق بمختلف مستوياته، سبيلاً لتفادي كُـلّ عواقب هذا المرض، من مظاهر الانحراف والجريمة، وجعل للإنفاق أجراً مضاعفاً، لا يعلم مبلغة إلا الله تعالى وحده، فقال وهو أصدق القائلين:- “مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَموَالَهُم فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَت سَبعَ سَنَابِلَ فِي كُـلّ سُنبُلَة مِئة حَبَّة وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ”، علاوةً على تطهير النفوس من خبث الشح، الذي يجمع بين رذيلة البخل بالمال، ورذيلة الحرص عليه، وهذه الحالة الخطيرة على الفرد والمجتمع، جعل الله تعالى الإنفاق لها علاجاً، يقي النفوس من شر الشح، ويتحقّق به الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة، بالإضافة إلى الأجر المضاعف، باتساع كرم الله وسعة فضله، القائل وقوله الحق: “وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ”، وفي هذا السياق يقول السيد القائد -يحفظه الله-: “حالة الشح حالة خطيرة جِـدًّا، هي وراء الكثير من المفاسد والجرائم، التي يصل إليها الإنسان، نتيجة أطماعه الشديدة، أطماعه الكبيرة، توجّـهه المادي الجنوني، يعني: المفرط، المفرط الرهيب، جشعه المادي الشنيع جِـدًّا، حالة ناتجة عن الحرص، بخله عن كُـلّ الحقوق، أطماعه التي يسبب بها أن يأخذ الكثير من الحرام، وأن يأكل الحرام، وأن يتاجر بالحرام، وأن يجمع الحرام، الذي يُخَلِّدُهُ في نار جهنم والعياذ بالله، فللإنفاق الأثر التربوي الإيجابي الذي يُخَلِّصُ الإنسان، يُخَلِّصُ نفسيته من الشح، هذه مسألة مهمة جِـدًّا، الإنسان بحاجةٍ إليها”.
ذلك وغيره يجعل من الإنفاق -بوصفه العنوان الجامع لكل أبواب الخير- مطمعاً يتسابق إليه الناس، رغبةً لما فيه من عظيم الأجر وجزيل الثواب، وتحقّق الفلاح والنجاح، وكمال الإيمان والثقة بوعد الله وسبوغ فضله وكرمه، ولا يقتصر الأمر على الموسرين فقط، ولا يعني أنه أمر اختياري، من فعله يؤجر، ومن لم يفعله لم يأثم، بل يشمل في وجوبه الجميع دون استثناء، وليس للإنسان الحرية فيه، بل هو ملزم بالإنفاق مهما كان مستواه المادي، حتى أنه لينفق من قوت يومه، وهذا بحد ذاته يكسر طمع النفس، عند الفقراء باعتيادهم البذل والعطاء، ويجعلهم أكثر غنى عما في أيدي الناس، بما عند الله من الثواب العظيم، كما أنه يجعل الموسرين أكثر استجابةً لأمر الله، طمعاً في البركة والخير والزيادة في الدنيا، والجزاء المضاعف في الآخرة، كما أنه يجعل جميع أبناء المجتمع، ينطلقون من واقع المسؤولية الدينية الجمعية، لتعزيز قيم ومبادئ التكافل الاجتماعي، في سياق الأخوة الإيمانية، التي تبعث في نفوسهم مشاعر المحبة، والإحساس بواجبات الأخوة في الدين، والمساواة في الإنسانية، ولا فضل لغني على فقير، إلا بالتقوى والعمل الصالح.
يقول السيد القائد -يحفظه الله-: “كلّ هذا له أهميته الكبيرة، إضافة إلى الآثار الاجتماعية للإنفاق بين أبناء المجتمع؛ لأَنَّ جانباً أَسَاسياً من الإنفاق أَيْـضاً يتجه إلى من؟ إلى المجتمع، “قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ”، فتأتي هذه الفئات في المجتمع، بدءاً من محيط الإنسان، من قرابته، وهو يصلهم، وهو يعطف على فقيرهم، وهو يواسي محتاجهم، ثم تتسع هذه الدائرة في الوسط الاجتماعي، إلى اليتامى، إلى المساكين، إلى ابن السبيل، إلى الفقراء، وهو يعطيهم، فيكون لهذا الأثر العظيم بين أبناء المجتمع”.
وظاهرة الإنفاق في سبيل الله، وأبواب الخير والإحسان، ومنها باب الإطعام، هي ظاهرة إيمانية وإنسانية، وهي -أَيْـضاً- كما يصفها السيد القائد -يحفظه الله-: “حالة التراحم بين أبناء المجتمع، حالة الإحسان فيما بينهم، حالة العطف والرحمة هي حالة إيمانية، من لوازم الإيمان، الله يقول عن عباده المؤمنين: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}، يقول عنهم: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ}، فيهم -يعني- مع الجانب الإيماني إنسانية، فلديهم الضمير الحي، والعاطفة الإنسانية، والدافع الإيماني، الذي يجتمع مع بعض، فَيُشَكِّل حالةً من المواساة، من الإحسان فيما بينهم؛ فيعطفون على فقيرهم، على محتاجهم، يتألمون لظروف بعضهم البعض، ليست ضمائرهم ميتة، ليست مشاعرهم متبلِّدة، فيرون الحالات الإنسانية المأساوية فيما بينهم، فلا يبالون تجاه بعضهم البعض، يشبع ويتخم بما شبع، ويرى الآخر جائعاً، يتضور جوعاً، يبحث من أين يأكل، حتى من القمامة، يرى جاره يعاني، لا يتوفر لديه القوت الضروري، وهو هناك يأكل يأكل، وقد يصاب بأمراض نتيجةً لكثرة ما أكل، وينتج عن ذلك أضرار صحية، فهو مبطان، وحوله جائعون، يشاهد في المشاهد العامة حالات البؤس، الحرمان، الفقر، العناء، لكثيرٍ من الناس، فلا يكترث، وكأنه يحمل صخرةً، حجراً صُلباً، ولا يحمل قلباً ومشاعر إنسانية”.
وهذه الحالة الإيجابية من التراحم والتكافل والمواساة، تنطلق من المبادئ الإيمانية، التي تتكامل مع القيم والعادات والتقاليد الحميدة، في أداء حقوق الأقارب، وحقوق المجتمع، وإغاثة الملهوف، وتقديم العون اللازم للمحتاجين، والسعي في قضاء حوائجهم، بكل محبةٍ وإخلاصٍ وتفانٍ وحرصٍ على الخير، قد يصل إلى مرتبة الإيثار، تقرباً إلى الله، وطمعاً فيما عنده، وبذلك تزول الأحقاد والضغائن بين طبقات المجتمع، وتسود حالة من التآخي والمحبة، والسلم والأمن المجتمعي، تجسيداً لكمال الإيمان، في سياقه التربوي الإنساني العام.
وفي هذا الشهر الكريم، يدعونا الله تعالى جميعاً إلى مائدته، ويفتح لنا أبواب الخير والإحسان، وفي مقدمتها مشروع إطعام، الذي يحتم علينا الواجب الديني، المبادرة للإنفاق في مشاريعه، والتبرع لدعم إخوتنا من الفقراء والمحتاجين، لنصل بذلك -بتوفيق الله وكرمه- إلى حالة كمال الإيمان بالله، وتجسيد أبسط مظاهر التراحم والتكافل والمواساة فيما بيننا؛ لنكون ممن شاء الله أن يضاعف لهم الأجر، والله واسعٌ عليم.