إصرارٌ سعوديّ مُستمرّ على انتحال شخصية “الوسيط”: محاولات لحرف مسار السلام الفعلي
وسائل الإعلام السعوديّة تترجمُ استجابةَ الرياض للتوجّـهات الأمريكية المعرقلة للحل
المسيرة | ضرار الطيب
في اتّجاهٍ معاكسٍ للمسار الإيجابي، الذي برزت مؤشراته في جولة مفاوضات رمضان بين صنعاء والرياض، تُصِرُّ الأخيرةُ بشكلٍ متزايدٍ على تكريس دعاية “الوساطة السعوديّة بين اليمنيين”، وفرضها كعنوان رئيسي للحراك التفاوضي الجاري؛ الأمر الذي يترجم عدم وجود نوايا حقيقية لدى السعوديّة؛ للتوجّـه نحو السلام الفعلي الذي يقتضي الالتزام بمسؤوليات إنهاء العدوان والحصار والاحتلال ودفع التعويضات؛ وهو ما يعني الاستجابة لرغبات الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا في الالتفاف على هذه المسؤوليات لإطالة أمد الحرب.
دعايةُ “الوساطة السعوديّة” تعكسُ انعدام الجدية:
منذ انتهاء جولة المفاوضات التي احتضنتها صنعاء بحضور الوساطة العُمانية، وبالرغم من كُـلّ المؤشرات الإيجابية التي برزت وقتها، انخرطت وسائلُ الإعلام السعوديّة في حملة تضليلية ممنهجة، تسعى إلى تقديم السعوديّة كـ “وسيط سلام بين اليمنيين”، وتزعم أن الرياض لا تشارك في الحراك التفاوضي الجاري إلا بهَدفِ التوصل إلى مفاوضات يمنية – يمنية، على الرغم من أن حكومة المرتزِقة نفسَها تشتكي من أن المسؤولين السعوديّين لا يطلعونها على تفاصيل المفاوضات!
كان بالإمْكَان اعتبارُ مثلِ هذا التوجّـه مُجَـرَّدَ حيلة إعلامية لـ “حفظ ماء الوجه” وعدم الاعتراف بالفشل، لولا أن الكثير من المؤشرات ترجح أن السعوديّة لا تزال فعلًا تتبنَّى مسارَ المراوغة والمغالطة لخداع صنعاء، وأنها لم تمتلكْ بعدُ الرغبةَ المطلوبة في السلام، برغم إدراك عدم جدوى مواصلة العدوان والحصار.
أبرز هذه المؤشرات أنه وبرغم مرور أكثر من عام على بدء التهدئة بمراحلها المختلفة، وبرغم كُـلّ الإيجابية التي حملتها جولة التفاوض الأخيرة، لا توجد أية تغييرات حقيقية في موقف السعوديّة على الأرض؛ إذ لا زالت قيود الحصار الإجرامي المفروض على الموانئ والمطارات موجودة، وإن تم تخفيف بعضها فَــإنَّ سقف ذلك التخفيف لم يصل إلى الحد الذي يحد فيه من توسع الأزمة الإنسانية الأسوأ على مستوى العالم، فيما لا تزال جرائم استهداف المدنيين في صعدة مُستمرّة بصورة يومية، ولا يزال مِلَفُّ الأسرى يواجهُ نفسَ العوائق، بينما لا وجود لأية مؤشرات على القبول بتحييد الاقتصاد ومعالجة مِلف الرواتب والموارد.
والحقيقةُ أن عدمَ تحقيق تقدم مؤثر في الملفات الإنسانية والمعيشية (الموانئ والمطارات والأسرى والمرتبات) برغم طول فترة التهدئة نسبيًّا، وبرغم كسر العديد من الحواجز التفاوضية، يمثل بحد ذاته مؤشرًا على أن العدوّ السعوديّ لا يزال يربط هذه الملفات بالقضايا السياسية والعسكرية؛ وهو ما يجعل حديث الإعلام السعوديّ عن “وساطة بين اليمنيين” ترجمةً واضحةً لرغبة الرياض في المماطلة والمراوغة أكثرَ منه حيلةً لحفظ ماء الوجه.
من المؤشرات على ذلك أَيْـضاً، أن محاولات الإعلام السعوديّ لتكريس دعاية “الوساطة بين اليمنيين” تتزامن مع اندفاع أمريكي واضح ومعلَنٍ؛ لعرقلة جهود السلام تحت العنوان نفسه، حَيثُ صرّح المبعوث الأمريكي إلى اليمن قبل أَيَّـام بشكل واضح أن بلاده لا ترى أية إمْكَانية لحل المِلفات الرئيسية مثل مِلف الموارد إلا بمفاوضات يمنية – يمنية.
وبالنظر إلى أن الولايات المتحدة قد تمكّنت سابقًا من إفشالِ تفاهمات تفاوضية بين صنعاء والرياض، فَــإنَّ إصرار وسائل الإعلام السعوديّة على تبنِّي عنوان التوجّـه الأمريكي، يعتبر مؤشرًا على استمرار المملكة بتبني الموقف الأمريكي من السلام في اليمن.
وعلى الرغم من أن صنعاء لم تعلن بعدُ تقييمًا نهائيًّا للموقف السعوديّ؛ لأَنَّها لا زالت تبقي المجال مفتوحًا أمام الجهود المبذولة لدفع الرياض نحو السلام الفعلي، فَــإنَّ التصريحات الأخيرة للمسؤولين السياسيين والعسكريين في صنعاء تؤكّـد بوضوح أنه لا يوجد حتى الآن توجُّـهٌ عملي واضح من جانب السعوديّة نحو الحلول الحقيقية، وأن كُـلّ ما هو موجود لا يتجاوز الوعود والتفاهمات النظرية، وهذا أَيْـضاً يؤكّـد أن تمسك السعوديّة برواية “التوسط بين اليمنيين” هو تعبير واضح عن عدم جديتها في التوجّـه نحو السلام.
السعوديّة تحاول تجميلَ صورتها:
مما يجعلُ حديثَ السعوديّة عن “التوسط بين اليمنيين” مؤشرًا على عدم جديتها في المضي نحو الحل الفعلي، هو أن الرياض تحاول بوضوح أن تستثمر هذا العنوان في إطار توجّـه أوسع تسعى من خلاله لرسم صورة مضللة أمام العالم توحي بأنها قد أصبحت دولةً “راعية للسلام”؛ وهو ما يمكن ملاحظته بسهولة من خلال تتبع مسار هذا التوجّـه خلال الأشهر الأخيرة، بدءًا بمحاولة استغلال الاتّفاق مع إيران دِعائيًّا وربطه بالملف اليمني، ومُرورًا بتزييف حقيقة التفاوض مع صنعاء، وُصُـولاً إلى دعوة الأطراف السودانية للتفاوض في جدة.
سيكون جيِّدًا بالطبع أن تلعبَ السعوديّة دورَ “راعية السلام” في المنطقة على الواقع، لكن هذا لا يحدث الآن، وما يحدث هو أن الرياض تفكِّرُ فقط بخلق زخم إعلامي يغطِّي على الصورة الفاضحة التي رُسمت عن المملكة وقيادتها خلال السنوات الماضية؛ وذلكَ مِن أجل تحقيق أهداف اقتصادية مستقبلية، وبما أن العدوان على اليمن كان أبرز ملامح تلك الصورة، فَــإنَّ الرياض ترى على الأرجح أن استثمار التهدئة على الجبهة اليمنية وتغليفها بعنوان “الوساطة بين اليمنيين” يمكن أن يسهم بتغيير تلك الصورة ونسيانها، خُصُوصاً إن طال أمد هذه التهدئة؛ وهو ما يبدو بوضوح أن الرياض وواشنطن تسعيان بوضوح لتحقيقه.
السلامُ الذي لا يُنهِي الحرب:
وفقًا لكل المؤشرات المحيطة بدعاية “الوساطة السعوديّة”، فَــإنَّ الرياض تحاول أن تفرض معنًى آخرَ للسلام في اليمن، وهو معنى لا يتضمن إنهاء العدوان والحصار والاحتلال ودفع التعويضات وجبر الأضرار؛ لأَنَّ هذه النقاط لا تستقيم مع الدعاية المذكورة.
بعبارة أُخرى، يمكن القول: إن السعوديّة والولايات المتحدة تريدان سلامًا في اليمن، لكنه سلام لا ينهي الحرب، ولا يرفع الحصار ولا يخرج القوات الأجنبية، ولا يمنع انتهاك سيادة البلد، بل يوقفُ فقط خياراتِ صنعاء العسكرية.
هذا ما تقولُه بوضوح مجملُ المواقف المعلَنة تحت عنوان “الوساطة”؛ فربطُ مِلف الرواتب والموارد مثلًا بمفاوضات محلية تمارِسُ فيها السعوديّة دورَ الوسيط، يعبِّرُ عن رغبة واضحة في إبقاء الوضع على ما هو عليه داخليًّا إلى أَجَلٍ غير مُسَمًّى، مع منح الرياض مخرجًا آمنًا ومجانيًّا من أية تداعيات، وهو ما لا يمكنُ حتى وصفُه بحالة “لا حرب ولا سلام”؛ لأَنَّ السعوديّة تريد أَيْـضاً أن تحصل في هذا الوضع على ضمانات بعدم تعرضها لأية عواقب!
وبصرف النظر عن التفاصيل فَــإنَّ أيَّ سلام يُبنى على دعاية “الوساطة بين اليمنيين” لن يتضمَّنَ إنهاءَ الأزمة الإنسانية، ولا إحلال الأمن والاستقرار بأي شكل من الأشكال، وإن كانت إيجابيةُ صنعاءَ في التعاطي مع جهود السلام المبذولة قد أعطت الرياض أَو واشنطن انطباعًا خاطئا بأنه يمكنُ الوصولُ إلى هذه النوعية من السلام الكاذِبِ عن طريق المماطلات والمغالطات، فَــإنَّ التحذيراتِ الأخيرةَ التي وجّهها الرئيس المشاط تؤكّـدُ استحالةَ تحقيقِ ذلك؛ وهو ما يعني أن السعوديّة قد تصطدمُ مرةً أُخرى بعواقبَ غيرِ محمودة لتبنِّيها الموقفَ الأمريكي.