العالَمُ ينحدرُ نحوَ البدائية والهمجية..بقلم/ إبراهيم محمد الهمداني
إن المتأمِّلَ لأوضاع عالم اليوم، سيدرِكُ -بلا شك- حجمَ الكِذبةِ المسمَّاة “حضارة”، وعمقَ الزيف المسمَّى “حقوقٌ وحريات”، ويرى تفاهة الأقنعة المموَّهة بالديمقراطية، وقذارةَ الأدوار المغطاة بمثالية البطولة المزعومة، وتصنِّعَ الفضيلة والمحبة، في شخصية البطل –الزعيم، الرئيس، الملك،…- الذي يمثل دور البطولة، محلياً وإقليمياً ودوليًّا، على مسرح الأحداث العالمية، حَيثُ كانت تقف الشعوب، لتؤدي دور الجمهور -المشاهد السلبي، مكتفية بالذهول والتصفيق الحار للبطل -الحاكم، الذي لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون.
إن ما بناه الفلاسفة -على مدى عقود من الزمن- في طُروحاتهم، الهادفةِ إلى تحقيق النموذج المطلق، قد هدمه الساسةُ والقادة وتجارُ الحروب، في أسابيعَ معدودة، أَو في بضعة أشهر على أبعد تقدير، نظراً لتصادم منظومة القيم والأخلاق، التي تقوم عليها الطروحات الفلسفية المثالية، مع خطوط المصالح والحسابات الشخصية النفعية، التي تفرض نفسها على واقع الحياة وتقلباتها، في جوانبها ومجالاتها المختلفة.
ونظراً؛ لأَنَّ مثاليةَ الفلاسفة، مفتقرةٌ لمرجعية دينية سماوية، تتسمُ بالشمول والكمالِ والاتساق المنظَّم، في جميع مجالات الحياة؛ فقد كانت عُرضةً للسقوط التلقائي، قبل أن يعجِّلَ به الساسة وتجار الحروب، الذين كان تدخلهم عبارةً عن تحصيل حاصل، غير أن الصراع بين مثالية الفلسفة، وذرائعية السلطة، أصبح جُزءاً من مظاهر وطقوس الحياة عامة، وكان على الإنسان أن يتحمل عواقب انحرافه عن الهدي الإلهي، وتمرده على منهج الله تعالى، الذي كلَّف أنبياءَه ورسلَه تبليغَه إلى الناس أجمعين، ومن خلالهم تحقّقت أرقى النماذج الحضارية الإنسانية، وبلغ الإنسان أزهى مراحل عطائه وريادته، في سياق مهمة الاستخلاف، والدور الإنساني المقدس، لكن تلك الصورة المثالية الحقيقية، لم تدم طويلاً؛ نظراً لتدخل قوى الشر المضادة، التي تسير وفقاً لخطوات الشيطان، في تبني مشاريع الانحراف والضلال والهدم، التي تُقدم في قوالب إلباس الحق بالباطل، وتزييف الحقيقة، وتزيين الانحراف والشذوذ، تحت مسميات زائفة تدعي التحضر والتقدم والرفاهية، الأمر الذي قاد المجتمعات البشرية، إلى مصائر سوداوية ومجاهيل مظلمة، وأصبحت مظاهر الترف الحضاري، شواهد بنيوية وشكليات هندسية، فارغة المحتوى فاقدة الروح، وأصبح الإنسان غولاً متوحشاً، يفترس كُـلّ شيء أمامه، حتى وصل به الأمر إلى افتراس نفسه، لينهي بذلك مسار حضارته الزائفة، لتبدأ الأجيال اللاحقة من مرحلة الصفر، وهكذا.
تعددت مظاهر الانحراف والضلال والضياع، التي قدمها أولياء الشيطان، بوصفها نماذج حضارية تقدمية راقية، وشجعوا المجتمعات على تبنيها وانتهاجها في مسيرتهم الحياتية، بينما اتهموا كُـلّ من خالفها ورفضها، بالرجعية والضلال والتخلف، حتى أصبحت الطهارة في عُرفِهم، جريمةً كبيرةً عقابُها النفيُ والطردُ، فقالوا “أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ، إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ”، لتصبح الفضيلة في كُـلّ تمظهراتها وتموضعاتها، ومرجعياتها الدينية الإلهية -في عُرف أولياء الشيطان- عوائق وصعوبات ومخاطر، تهدّد وجود ومسار الانحراف الحضاري؛ وهذا الأمر عينه هو ما نشاهده في واقعنا المعاصر اليوم، وما تمخضت عنه مشاريع الانحراف الأمريكية -الأُورُوبية، التي تقدم نفسها في مقام الريادة الحضارية، والأبوية التسلطية على المجتمعات البشرية، تحت مسمى تصدير النموذج الحضاري الغرب -أُورُوبي، الراعي للديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة والطفل وغيرها من الشعارات، التي أسقطتها الممارسة الإمبريالية العنصرية، المتحيزة للأنا المتحضر المنتج ضد الآخر المتخلف المستهلك، ولذوي البشرة البيضاء ضد ذوي البشرة السوداء، ولمركَزية الرجل في تهميش المرأة وتسليعها، ولتجار الأعضاء البشرية وخاطفي الأطفال، ضد أصوات الطفولة المذبوحة، وخلف شعارات إنسانية الإنسان مطلقاً، يباع الإنسانُ بأتفهِ الأثمان؛ لتصبحَ الماديةُ النفعيةُ الذرائعية، المرتكَزَ الأَسَاسَ لهذه الحضارة الفارغة، التي رسمت صورة زوالها المحض، ودقت آخر مسمار في نعش مسيرة انحدارها الأخير، بهزائمها وانكساراتها المتوالية، وسقطت ريادتها الحضارية المزعومة، تحت همجية ترسانتها النووية، المحرم امتلاكها على غيرهم، وهيمنة تطورها التكنولوجي التجسسي الإفسادي، ولم تكن حضارتها غير مشاريع القتل والتدمير والتوحش، سواء بتفوقها العسكري أَو التكنولوجي، وبذلك تتضح حقيقة الحضارة الغرب -أُورُوبية، ويتضح مسار انحدارها وسقوطها الوشيك.
يمكن القول إن مصانع الأسلحة الفتاكة، ودعوات الانحلال والتفسخ، وتشجيع جماعات القتل والتدمير والإجرام، والاحتفاء بنمذجة التفاهات، واستغلال المرأة وبيع جسدها، وبيع القطعان البشرية، في مزاد مصالح حملة المشروع الإمبريالي الحضاري، الموجَّه سلفاً من اللوبي الصهيوني عالميًّا، لم ولن تكون في يوم من الأيّام دليل تقدم حضاري، وليس من العقل أَو الحكمة، الاستمرار في تصديق كذبة اسمها حضارة غرب -أُورُوبية، أَو استمرار الخضوع والتبعية المطلقة، لأُولئك الفراعنة الظالمين المنحطين، الذين بلغت بهم عنجهيتهم وتسلطهم وغرورهم، الحد الذي يدعون فيه، إلى كُـلّ مظاهر الانحطاط والتوحش والانحراف والسقوط، على كافة المستويات والأصعدة الحياتية، علناً دون أدنى ذرة حياء أَو خجل أَو مواربة، ومن كانت تلك صفاته وأفعاله، لن يكون -بأي حال من الأحوال- حامل مشروع حضاري، أَو صاحب ريادة إنسانية مطلقاً، ومن تشربت نفسه الدناسة والدناءة والفجور، لا يمكن تنصيبه قائداً أَو رائداً لأية جماعة أَو شعب، ناهيك عن وضعه في مقام القيادة والقُدوة لكل شعوب العالم.
يجب أن تدرك كُـلّ شعوب العالم، أن الشذوذ لو كان حضارة، لكان قوم لوط هم رواد الحضارة الأوائل، ولو كانت القوة والجبروت تصنع الحضارة، لكان قوم عاد أَسَاس تلك الحضارة، ولو كان الجحود بالله وقتل الأنبياء دليل حضارة، لكان بنو إسرائيل هم مصدر الحضارة الإنسانية، ولو كانت الهيمنة والتسلط والاستكبار والقتل، تمت إلى الحضارة بصلة، لكان فرعون أولَ رُوَّادِ الحضارة والتقدم، ولو كانت الأموال الطائلة والزينة الباذخة ومظاهر الترف، تعكس مظهراً حضارياً، لكان قارون بطل الحضارة وصانعها الأول.
إن مقتضى السنن الإلهية العظيمة، لا يمكن أن يتغير أَو يتبدل، في كُـلّ زمان ومكان، ولم يعد من الصعوبة بمكان، التنبؤ بمستقبل العالم، الخاضع لهيمنة الشيطان الأكبر، المستسلم لمغريات الحضارة المادية، ومبدأها الذرائعي النفعي المتوحش، وليس أمام العالم -بكل ما أنتجته حضارته الوهمية المسمومة- سوى الانحدار، والسقوط المدوي المخزي، في مستنقعات التوحش والضياع والتيه، ليعود إلى نقطة البداية الصفرية المرعبة؛ ولهذا يتوجب على الشعوب الإسلامية خَاصَّة، وجميع شعوب العالم عامة، رفضُ الانسياقِ خلف مؤامرات الشيطان الأكبر، واللوبي الصهيوني الملعون، والوقوف ضدها بقوة وحزم؛ لتفادي مخاطر وتداعيات السقوط الإمبريالي، والزوال المحقّق، قبل فوات الأوان.