متى وكيف رأيتُ السيد القائد لأول مرة رأيَ العين؟! (نورانِ من بدرٍ واحد)..بقلم/ حمود محمد شرف:
صعدتُ إلى المِنَصَّة، وتقدمتُ نحو التابوت الذي كان يضُمُّ جثمانَ الشهيد القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي -رضوان الله عليه-، وصلتُ إليه فلم أدرِ لحظتها من الذي قبّلَ ذلك التابوت أشفتايَ أم دموعي!!، وفورًا نزلت بعد ذلك من مِنصة ساحة التشييع متوجّـهاً إلى قبالةِ الموضع المخصَّص لإمام صلاة الجنازة، حَيثُ نُصبَ أمامَه بأمتار قليلة منبرٌ لإلقاء خطابِ المناسبة في الجموع المحتشدة، والتي اصطفَّت على امتداد النظر بانتظار لحظة البدء في مراسم التشييع، هناك أغمضت عينَيَّ آخذاً نفَساً عميقاً، وأحكمتُ قبضةَ يميني على مايكروفون قناة “المسيرة” ذي اللوغو الأزرق، واستدرت مستقبلاً المنبرَ المُعدَّ لإلقاء خطاب المناسبة، كان زميلي المصوِّر (توفيق الفضل) يقفُ على يميني حاملاً كاميرتَه ومتأهباً، طلبتُ منه أن يستأنفَ توثيقَ المشهد، بدءاً بلقطةٍ تحتوي الحشدَ المصطفَّ من نقطةِ ارتكازنا وحتى أقصى يمين الساحة، وما إن بدأَ حتى تسمَّرَ ناظرايَ نحو ذلك الوجه الحزين المشرق – في آنٍ – والذي أطلّ فجأةً من خلف مايكرفونات منبرِ خطاب المناسبة، والذي كان لا يبعُدُ عني وعن زميلي المصور سوى أمتار، ما زال زميلي يوثِّقُ لقطتَه ذات اليمين، حاولتُ أن ألفتَ انتباهَه وعدسةَ كاميرته نحو ذلك المنبر ومن يقفُ عليه؛ فعجزتُ؛ إذ تلعثمت شفتاي من عظمة ما آراه لحظتها؛ مددتُ يدي اليُمنى وربّتُّ على كتفِ زميلي المصور محاولاً لفتَ انتباهه، لكنه كان مستغرِقاً في اقتناص لقطتِه قائلاً: “لحظة لحظة لحظة”؛ لقد كان متفاجئاً ومنبهراً بتطاوُلِ هامات الحشود المصطفة فجأةً، ولكنني كنتُ لحظتها أكثر انبهاراً بما أشاهده منه بما يوثّقه، أجل.. فلم يكن يدري أن السيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي هو صاحبُ ذلك الوجه الذي أطل فجأةً من خلف ميكروفونات ذلك المنبر، وقد تهيأ لإلقاء خطاب المناسبة في ذلك الحشد العظيم، الذي أقبل من كُـلّ حدب وصوبٍ؛ للمشاركة في تشييع جثمان الشهيد القائد الذي غيّبته السلطة الظالمة لتسع سنين!
استمرت يدي بالتربيتِ على كتف زميلي المصور وبشدّة؛ حينها فقط أدرك أن أمراً أهمَّ بكثيرٍ مما يوثقه في تلك اللحظات، أمراً يستحقُّ ويستوجبُ أن يُديرَ عدسته باتّجاهه وفورًا؛ فبدأ وبانسيابيةٍ يدير عدسة الكاميرا شيئاً فشيئاً بالاتّجاه المعاكس، وبعد استدارة منه لم تكتمل، هو الآخرُ مع ناظريَّ تسمَّر وتسمّرت عدسة كاميرته، وكان كلانا في هذه اللحظة يشاهدُ أمامَه السيدَ القائدَ واقفاً أمامنا بشخصِه وشخصيته على ذلك المنبر مستهلاً خطابَه المقتضَب بالمناسبة.
وثّقتُ وزميلي المصوِّر ذلك الخطابَ وهذا المشهد، زميلي بعينه وعدسته وأنا بأمِّ عينَيَّ، لقد كانت المرة الأولى التي يتشرَّفُ فيها كلانا برؤية السيد القائد رأي العين ومن على مسافةٍ قصيرةٍ لا تتعدى أربعة أمتار.
وما إن أنهى السيدُ القائد خطابَه، حتى نزل من على ذلك المنبر، ومُرورًا بجانبي مباشرةً تقدّم بخطواتٍ ثابتة – ومن حولِهِ مرافقوه – نحو المكانِ المخصَّصِ لإمام صلاة الجنازة، فيا لَهُ من إمامٍ ويا لَها من جنازة!… وخلال تلك الثواني استدرتُ وزميلي في مكانينا، فكان زميلي المصور على يساري وكنتُ على يمينه، بل دارت بكلينا عيونُنا وعدسةُ الكاميرا مدارَ الكواكبِ حول الشمس، فكان كلانا مجدّدًا وجهاً لوجه مع السيد القائد، وكان ما يفصلُ بيننا وبينه هنا هو الجثمان الطاهر الذي يضُمُّه التابوت المسجَّى بلحافٍ أخضرَ حُمِلَ على أكتاف الرجال من منصة ساحة التشييع إلى مقابل إمام العصر، وهناك.. وقفتُ أنا وزميلي توفيق، وفي مدى أُفُقِ ناظرينا: جثمان الشهيد القائد، والسيد القائد أبو جبريل، وطوفانٌ صامتٌ من البشر يقف في خشوعٍ حزين.
كبّر السيدُ القائد لصلاة الجنازة، وكبّرت من خلفه تلك الحشودُ المهيبة، ومن أمامه وأمام تلك الحشود كبّرَت على خدودِنا دموعي ودموع زميلي المصور توفيق..
وبهـذا.. ومن هناك.. وبعد ذاك.. عدتُّ إلى مكتبِ قناة “المسيرة” في ضحيان، مزاوِجاً بين ما وثَّقَته عدسة زميلي توفيق وما صاغته مشاعري من عبارات لنصٍّ تقريري الإخباري، الذي عرضته قناة “المسيرة” في نشرتها الإخبارية الرئيسة في مساءِ اليوم ذاته، التقريرُ الذي مثّلت ذروتَه هذه العبارة: “نُورانِ من بدرٍ واحد، أحدُهما يصلّي على الآخر، ومن ورائهما أُمَّـةٌ باتت تعشَقُ الشهادة…”.