العلامةُ الراحل بدر الدين الحوثي.. سيرةُ عطاء وجهاد وكفاح
المسيرة | عباس القاعدي
رَجُــلٌ لا يحتاجُ إلى الكثيرِ من الوصف؛ كي يتمكَّنَ الآخرون من معرفة مكنونِ دورِه وعظيمِ شمائله؛ فهو مدرسةٌ إيمانيةٌ متكاملةٌ مليئةٌ بالحياة والعلم والعطاء والكرم.
قضى عُمُرَه في الجهاد والبحث والإفتاء والتعليم والتفسير ومحاربة الأفكار الوهَّـابية الدخيلة على اليمن بعد ثورة 26 سبتمبر 1962م، وملماً بجميع ما تحتاجه المرحلة من وعي ديني وثقافي رغم ما تعرض له من ظلم من قبل نظام الخيانة مع أسرته عبر مراحل متعددة بما فيها الحروب الست.
لقد شكّل العلامةُ الرباني الراحل بدر الدين الحوثي -بعلمِه وفكره ورؤيته الدينية- المُنْطَلَقَ الأولَ للمشروع القرآني الذي اتسع مداه بالفكر النهضوي الذي قدّمه من بعده نجله الشهيد القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي، ومن ثَمَّ السيد القائد عبدالملك، وأصبح نموذجاً فريداً في جانب الورع والزهد والصبر والتكريم والحفاوة والتعظيم والإجلال والبشاشة.
وُلِدَ -رحمه الله- في السابع عشر من جُمادَى الأولى سنة 1345هـ بمدينة ضحيان، بمحافظة صعدة، التي عاش فيها، ثم انتقل إلى مدينة صعدة، وعاش حياةً متواضعةً وبسيطةً متنقلاً بين مناطق عدة، ونشأ في أسرة كريمة مشهورة بالعلم والورع والتقوى والزهد والعبادة بين السادة الأفاضل من العلماء جده وأبيه وأعمامه، وهكذا تربّى في حجور العلم والتقوى والزهادة والعبادة، متنقلاً بين حلقات العلم والمعرفة، مرتشفاً من معين التقوى والعرفان؛ فتتلمذ على أيدي كبار العلماء ونهل من علومهم وبالأخص والده أمير الدين، وعمه الحسن، والقاضي العلامة عبد العزيز الغالبي -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِم أجمعين- ولمس من أساتذته وأقرانه فيه النبوغ والذكاء المقترن بالسعي الدؤوب؛ مِن أجل تكشف معاني القرآن وتبين آياته وكلماته.
نهضة وعلم:
وبخصوص مواجهته للأفكار الوهَّـابية الدخيلة على اليمنيين عقب الوحدة اليمنية، يؤكّـد عددٌ من الثقافيين أن العلامة الرباني بدرالدين الحوثي كان له دور كبير في مواجهة الوهَّـابية وأفكارها بخلاف غيره من الأئمة والعلماء الذين انحصر دورهم بشكل كبير جِـدًّا في ظل الحرب التي مورست عليهم من قبل السلطة الظالمة، مؤكّـدين أن العالم الرباني السيد بدر الدين بن أمير الدين الحوثي -سلام الله عليه- كان يتحَرّك تحَرّكاً علمياً في إطار التثقيف والتوعية واستنهاض المجتمع خَاصَّة في محافظة صعدة التي كانت مستهدفة من قبل النظام العميل للعدوان السعوديّ والحركة الوهَّـابية التي تقربت ذراعاً إلى مناطق دماج وكتاف وغيرها، حَيثُ تخرج على يديه مجاميع من الشباب المثقف الواعي الذين شكّلوا الطليعةَ للنهضة الفكرية في ثمانينيات القرن الماضي، وكانوا بمثابة التحصينات الأولى التي أسَّسها العلامةُ الراحلُ لمواجهة العقائد الباطلة الدخيلة في المحافظات الشمالية بشكل عام، ومن ثم انطلقت مطلع التسعينيات نهضة المدارس العلمية والمراكزِ الصيفية التي كان المرجعَ والمرشدَ والمشرف على جميع مناهجها وبرامجها وأنشطتها، وليس هذا وحسب، بل كثّـف جهوده في التدريس ونشرِ حلقاتِ العلم، وتوزيعِ المرشدين والمبلغين وتشجيعِ ودعمِ المدارس العلمية، واستقبال المهاجرين من طلبة العلم الشريف وتعليمهم والإنفاق عليهم بقدر الإمْكَان؛ بهَدفِ تحصين الأجيال من تلك الأفكار الدخيلة عليه.
ورغم الصعاب والمشاق كان العلامة الراحل يتنقل إلى معظم المناطق لزيارة طلاب العلم وتشجيعهم وخَاصَّة في المهرجانات التي كانت تقام في نهاية الدورة التعليمية، ويشاركُ في تلك الاحتفالات.
سَدٌّ منيعٌ أمامَ العقائد المضللة:
وتأكيداً على ذلك فَـإنَّ للعلامة الراحل العديد من المؤلفات منها “التيسير في التفسير”، وهو موسوعة عظمى في تفسير القرآن الكريم كاملاً مكونة من سبعة مجلدات، وتحرير الأفكار، وَكتب كثيرة جِـدًّا تضمنتها رسائله الطليعة، والتي مثلت خلال تلك الفترة سداً منيعاً أمام العقائد المضلِّلة التي بدأت الحركة الوهَّـابية تنشرها في اليمن، فكان العالم الرباني أول من تصدى لها بقلمه ولسانه فألف عشرات الردود ما بين كتابٍ ورسالةٍ وشريط كاسيت، ومن أبرز مؤلفاته وأقدمها في هذا المجال: (الإيجازُ في الرد على فتاوى الحجاز) تلك الفتاوى التي صدرت عن مفتي السعوديّة حينها عبدِ العزيز بن باز، والتي كفّر فيها مَن يزورُ القبور، وكذا مؤلفان عظيمان هما: (تحريرُ الأفكار عن تقليد الأشرار)، وَ(الغارة السريعة في الرد على الطليعة) وهما من الردود على مقبل الوادعي، وقد تضمنت الرد على معظم الشبهات التي يوردها الوهَّـابيون ويجادلون بها أتباع أهل البيت -عليهم السلام- في شتى الجوانب الأصولية والفرعية وعلمِ الرجال وغير ذلك.
ولهذا فقد تعرض العالم الراحل ومشروعه التربوي لمحاولة تقويض وإزاله من قبل أنظمة الخيانة والعمالة التي تحَرّكت في وقت مبكر بدعم من آل سعود لتدمير المشروع التربوي الناجح، خُصُوصاً عندما قام العلامة بمواجهة الأفكار الوهَّـابية ومؤامراتها، وتكلم بالحق حين صمت الآخرون، ولم تأخذه في الله لومة لائم رغم ما تعرض له من الضغوط والمعاناة والمشاكل التي وصلت إلى حَــدِّ محاولة اغتياله مرات عدة، وبعد أن فشلت كُـلّ الوسائل التي استخدمتها أيادي العدوان الأمريكي السعوديّ آنذاك، في ثنيه عن مساره القرآني ومشروعه التربوي والجهادي، بدأت أنظمة الحقد والكراهية وبتنسيق مع سلطة نظام الخيانة ومرتزِقة الوهَّـابية بالمؤامرات لاستهدافه شخصيًّا ومحاولة القضاء عليه، حَيثُ جرت أولى محاولات لاغتياله في منزله بمران بقذيفة صاروخية زرعت مقابلَ باب غرفته، وأحدثت انفجاراً هائلاً، إلا أن رعايةَ الله سبحانه وعنايته بوليه خيبت آمالَهم، حَيثُ أخطأت الهدفَ وانفجرت بجوار باب الغرفة.
ولم تكتفِ السلطةُ الظالمة والخائنة بذلك، بل قامت بشن الحروب الظالمة الست ومحاولة اغتياله مرة أُخرى في الحرب السادسة وهو في مقره الرئيسي الذي كان مليئاً بالنساء والأطفال من أحفاده وأقاربه الذين اضطُروا للنزوح إليه، حَيثُ أقدم طيران السلطة الخائنة على استهداف المكان بالصواريخ والقنابل والجميع في نوم عميق وأدت إلى استشهاد تسعة بينهم نساء وأطفال، بينما الشيخ العلامة الذي أناف على الثمانين سنة نجا من تلك الهجمة العدوانية.
وبشأن مواقفه الشجاعة وتصديه للمؤامرات، تؤكّـد المعلوماتُ أن للعلامة الراحل بدر الدين الحوثي مواقفَ قويةً وشجاعةً، استمرت حتى وفاته -سلام الله عليه- وتمثلت في مواجهة التكفيريين والسلطة الظالمة ومساندته لولده الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي -سلام الله عليه- والذي يدل دليلاً قاطعاً أن السيد العلامة جاهد طوالَ حياته في مقارعة الباطل فكريًّا وسياسيًّا وعلمياً، وكذلك مشاركته ووقوفه بجانب أولاده والمجاهدين بعد انتهاء الحرب الثالثة، حَيثُ قرّر العلامة الراحل أن يكون مع المجاهدين جنباً إلى جنب، فحرص خلال الحروب الرابعة والخامسة والسادسة أن يكون بقرب ولده قائد المسيرة القرآنية السيـد عبد الملك -حفظه الله ورعاه- يحظى بعنايته ورعايته، كما يحظى هو ومن كان هناك من إخوته وأقاربه بلطف وعطف وتشجيع والدهم.
وخلال هذه الحروب الطاحنة كان يراقب الأحداث عن كثب ويتابع الوقائع لحظة بلحظة وكأنه في وسط الميدان يتألم لآلام المجاهدين ويفرح لفرحهم.
الوحدة ومنظوره السياسي:
وفيما يخص دوره السياسي الرائد في دعم مشروع الوحدة اليمنية وكذا دستورها، ووفق المعلومات فَـإنَّ العلامة الراحل بارك إعلان الوحدة اليمنية، إذ مثلت قيام الوحدة بداية التسعينيات منعطفاً زمنياً في حياة المجتمع اليمني، وكذلك كان له دورٌ واهتمامٌ كبيرٌ بمشروع الوحدة من الناحية الشرعية، حَيثُ قام بإفناد مزاعم ودعاوى الآخرين ممن زعموا بأن الوحدة كفر وضلال مبين، فكانت بياناته مع عدد من العلماء الإجلاء من أهمِّ العوامل التي دفعت جماهيرَ الشعب لتأييدِ وَحدةِ اليمن التي كان الجميعُ يُعلِّقُ الآمالَ على تحقُّقِها قولاً وعملاً.
لقد شهد عهدُ الوحدة اليمنية اهتمامَ العلامة الرباني الراحل بالشأن السياسي؛ فقد رأى في التعددية السياسية التي جاءت بها الوحدة فرصةً للعمل؛ مِن أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الشأن العام للبلاد عُمُـومًا، ولصالح أتباع أهل البيت -عليهم السلام- في اليمن، حينها كان أبرزَ المؤسِّسين والمهتمين بإنشاء (حزب الحق)، حَيثُ سعى لإقناع مجموعة من أكابر العلماء وعلى رأسهم العلامة الكبير الراحل مجدُ الدين بنِ محمدٍ المؤيدي – رحمه الله- بأهميّة إنشاء حزبٍ يمثل كَياناً يجتمعُ به شملُ الناس، وتتكاتفُ جهودُهم لنصرة دين الله والمستضعفين، فتأسس حزبُ الحق مطلعَ تسعينيات القرن الماضي، وعمل العلامة الراحل على دعم الحزب وتقويته، وكان يحرصُ على السفر إلى مدينة ضحيان للقاء بالعلماء وناشطي الحزب.
وكون السيد العلامة بدر الدين الحوثي -رضوان الله عليه- عاصَرَ المرحلةَ الأخطرَ من الصراع، وهي مرحلةٌ شابها الكثير من مخطّطات التجريف الفكري الوهَّـابي لقيم ومعتقدات المجتمع اليمني التي كانت تتدفق إلى المجتمع بكثافة تخدمها عوامل المال والنفوذ السعوديّ وَالأمريكي على واقع السلطة وَالحياة السياسية في اليمن يقول سند الصيادي -رئيس الدائرة الإعلامية لحزب الحشد-: “حينما نعود إلى المنهجية التي تبناها وتحمل مسؤولية إعلائها في تلك المرحلة فَـإنَّنا ندرك حجم الخطر الذي استشعره العلامةُ على مجتمعه نتيجةَ تلك المفاهيم والثقافات الطارئة ومدى خبثها وما يمكن أن تقود البلاد إليه، ومن هذا الوعي الذي تملكه يمكن لنا أن نفهمَ مدى الشعور بالمسؤولية التي تحملها وعانى لأجلها كَثيراً؛ لدرجة أن عاش مرارةَ الخُذلانِ في ذروة الاستهداف؛ لما كان يطرحه على طريق مواجهة هذه الأفكار الدخيلة التي تستهدف العقيدة والفطرة السليمة”.
ويواصل: “ورغم كُـلّ المنغصات والمنهكات التي كانت تعتري طريقه استمر بشجاعة وتفانٍ في تعليم ونشر العلوم الدينية البعيدة عن التحريف والتزييف، مُبادِراً في الإصلاح ونُصرة الحق ومقارعة الظلم والاستكبار، صَدَّاحاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فضلاً عن جمعه بين العلم والعمل والجهاد في سبيل الله”.
لقد كان -رحمه الله- مدرسةً تربويةً وَدينية خالصةً تجلت أبرز مخرجاتها في تنشئة قيادة إيمَـانية عالمية، على شاكلة الشهيد حسين بدر الدين الحوثي والسيد القائد عبد الملك بدر الدين الحوثي، بقدر ما كان للأُمَّـة جَمعاءَ محطةً لتنوير وتربية الأجيال على مبادئ وقيم الدين الإسلامي الحنيف.