السيد عبدالملك الحوثي في الدرس الـ20 من وصية الإمام علي لابنه الحسن عليهما السلام: الصبرُ من أهم القيم الإيمانية ومن لا صبرَ له لا إيمانَ له
من المهم أن تكون في موقف الحق، وفي الطريق الصحيح، وفي الاتّجاه الصحيح، ثم ما أتاك وأنت في ذلك من هموم ومعاناة فتوطِّن نفسَك للصبر عليه
على الإنسان في مسيرته وفي مواقفه أن يتجه الاتّجاهَ الصحيحَ على أَسَاس من العدل والحق، وأن يكون متوازناً بدون إفراط ولا تفريط
مع الصبر لا بدَّ لك من حسن اليقين وَعندما يكون يقينُك بالله سبحانه وتعالى، وبوعده، وأنت ملتجئٌ إليه فهذا سيفيدك وسيجعلك قوياً في مواجهة تلك الهموم
الإنسان قد يعيش العُسرَ وبالتالي يضيقُ منه، ويمثِّل هَمّاً كَبيراً ضاغطاً على نفسه، يشغل باله ونفسه وتفكيره، ويشغل واقعه به، ثم يلحظ كيف غيَّر الله ذلك العسر
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إبراهيم وَعَلَى آلِ إبراهيم إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أصحابهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنت السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنت التَّوَّابُ الرَّحِيم.
أَيُّهَــــا الإِخْــــوَةُ وَالأَخَوَات:
السَّــلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَــةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُــه.
وصلنا إلى قوله “عَلَيهِ السَّلَامُ”: ((اطْرَحْ عَنْكَ وَارِدَاتِ الْهُمُومِ بِعَزَائِمِ الصَّبْرِ وَحُسْنِ الْيَقِينِ))، الإنسانُ في مسيرة حياته يواجهُ الهَمَّ، ما يهُمُّه، ما يسبب له همًّا في نفسه، والحالة الهم: حالة اهتمام بأمرٍ معين، بشكلٍ نفسي، يحمل الإنسان تجاه ذلك القلق، التوتر، الحزن، الحَيرة في التعامل مع ذلك الموضوع، وحتى لو كان لديه فكرة عن طريقة التعامل مع ذلك الموضوع، إلا أنه في ضغطه النفسي عليه، وفي تأثيره النفسي عليه فيما حمله تجاهه من ضيق، وتوتر، وقلق، يؤثر عليه. وكثيرةٌ هي الهموم التي يواجه الإنسان في مسيرة حياته، ومتنوعة، وتأتي هَمًّا بعد همٍّ، هموم في أمور الإنسان المعيشية، وبالذات تجاه ما يكبر على الإنسان، أَو يشق عليه، أَو يزعجه، أَو يقلقه، أَو يجرحه، يجرح مشاعره، يجرح نفسيته، يؤثر عليه في حياته، فهو يحمل الهمَّ تجاه ذلك، من أمور المعيشة، من أمور المعاملة، من القضايا المختلفة، من الأمور المتعلقة بالمسؤولية؛ فالهموم متنوعة وكثيرة، وقد تكثر على الإنسان، وترِد عليه من هنا وهناك، همّ يتعلق بمشكلة معينة، وهمّ تجاه قضية أُخرى، وهمّ تجاه ظرف معين وهكذا. وقد يصل الحال بالإنسان في ضغط الهموم على نفسه وما يصحب ذلك من القلق، والتوتر، والانزعَـاج، وما يترافق مع ذلك أَيْـضاً في الواقع العملي من عوائق، وإشكالات، إلى درجة التأثير عليه في واقعه، في طريقة تعامله مع الأمور، في نفسيته، قد تؤثر على نفسيته، البعض يصل به الحال من الضغط النفسي؛ بسَببِ هَمٍّ معيَّن، في قضية معينة، أَو ظروف معينة، أَو احتياجات معينة، أَو معاناة، أَو شيء من هذه الأمور التي يواجهها الإنسان في واقع حياته، قد يصل به الحال إلى المرض النفسي، يضغط عليه الهَمُّ ضغطًا شديدًا حتى تتحطم نفسيته، وتنهار معنوياته، ويصل إلى حالة من اليأس الشديد، والتأثر الشديد. البعض أَيْـضاً قد يجلب له الهَمُّ مشاكلَ صحيةً حتى في صحة بدنه. البعضُ من الناس قد يصل التأثير للهمِّ في انشغاله الذهني والنفسي، إلى درجة تستغرق عليه أوقاته على حساب اهتمامات أُخرى؛ فهو ذلك الإنسان الواجم، الغارق في التفكير تجاه ذلك الموضوع، إلى درجة قد ينسى اهتمامات ذات أولوية، قد ينسى أمورًا ذات أهميّة كبيرة، لكنه في وضعية أثر عليه ذلك الهمّ، ضغط عليه، أشغله في نفسه، وباله، وواقعه، وهكذا هي الهموم؛ هي من أكثر أصلًا ما يؤثر على الناس: الهموم، وتختلف أحوالهم في همومهم بحسب أدوارهم في الحياة، البعض من الناس همومه هي في إطار واقعه المعيشي وما يواجهه فيه، في مستوى واقعة الشخصي، وظروفه الشخصية، وما يواجهه في ذلك، البعض من الناس بحسب دوره، بحسب مسؤوليته، بحسب واقعه، يواجه أَيْـضاً همومًا أكبر، ومشاكلَ أكبر، وتحدياتٍ أكبر، تضغط عليه، وتؤثر على نفسه فيصاب بالهمّ.
فالإنسانُ تجاه ما يواجهُه من تحديات، أَو مشاكلَ، أَو ظروف، أَو معاناة، تجلب له الهمّ، عليه أن يطرح ذلك الهمّ عن نفسه، يعني لا يترك الهموم تضغط عليه، تتكاثر في تأثيرها على نفسه، في ضغطها على نفسه، ومشاعره، وواقعه، حتى ينهار نفسيًّا، بل يطرحها عنه بماذا؟ بعزائم اليقين، ((بِعَزَائِمِ الصَّبْرِ وَحُسْنِ الْيَقِينِ))، بالصبر، أن نتعامل مع ما نُعانيه أَو نواجهه من هذه الهموم في حياتنا، بحسب هذه الهموم، أن نواجهَ ذلك أولًا بتوطين النفس على الصبر، يتخذ الإنسان القرار الحاسم بينه وبين الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، أن يصبر، وأن يوطِّن نفسه على الصبر والتحمل، وأن يروِّض نفسه على ذلك، ليسعَ الإنسان إلى أن يروِّض، يسعى إلى أن يروض نفسه على الصبر والتحمل. المهمُّ أن تكون في موقف الحق، وفي الطريق الصحيح، وفي الاتّجاه الصحيح، ثم ما أتاك وأنت في ذلك؛ من هموم ومعاناة، فتوطِّن نفسك للصبر عليه. ومسألة الصبر مسألة أَسَاسية جِـدًّا في مسيرة الحياة؛ لأَنَّ البديلَ عن الصبر: هو عدمُ التحمل، هو الانهيارُ، هو الضعفُ، هو التعامل مع الأمور، مع الهموم، مع المشاكل، مع التحديات، بالجزع، بالضعف، بعدم التحمل، وذلك له تأثيرات سيئة على الإنسان.
ولهذا نجد في القرآن الكريم التأكيد الكبير على الصبر، بل هو من أهم القيم الإيمانية، ويُبنى على أَسَاسه أصلًا: الإيمان، بدونه لا يمكن أن يكون الإنسان مؤمنًا ثابتًا على إيمانه، كاملًا في إيمانه، ((مَن لَا صَبْرَ لَهُ، لَا إيمَانَ لَه))، أصلًا. ولهذا يأمرنا الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” كَثيراً في القرآن الكريم بالصبر (اصبروا)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا}[آل عمران: من الآية 200]، الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” كما أمرنا بالصبر يثني على الصابرين، يشيد بهم إشادة كبيرة، {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}[آل عمران: من الآية 146]، يبيّن لنا كيف ارتبطت إنجازات عملية وَأَيْـضاً تحقيقه وعود إلهية بالصبر، {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}[الأنفال: من الآية 65]، البشارة في القرآن الكريم في الدنيا والآخرة، أتت لمن؟ للصابرين، {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}[البقرة: من الآية 155].
الإنسان إذَا انطلق بوعي في مسيرة حياته، يدرك أننا في هذه الحياة في ميدان مسؤولية واختبار، وأننا نُختبَر في هذه الحياة بالخير، والشر، واليسر، والعسر، ونواجه الظروف المختلفة، والأحوال المختلفة، ثم يبني قراره في التعامل مع تلك الأحوال المختلفة على أَسَاس الصبر، فهو سيكون إنسانا واقعيًّا، يدرك حقيقة هذه الحياة، وطبيعة الظروف المختلفة فيها، ويدرك أنه لا بُـدَّ له من معايشة ظروف مختلفة، من مواجهة أحوال مختلفة، من مواجهة محن، وشدائد، وظروف متنوعة، وبالتالي يوطِّن نفسه، ويعزم عزمًا على التعامل بالصبر تجاه ذلك. الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” عندما قال في القرآن الكريم: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأموال وَالْأنفس وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئك هُمُ الْمُهْتَدُونَ}[البقرة: 155-157]، فقدّم في هذه الآيات المباركة الثناء العظيم على الصابرين، والوعد بالخير لهم، وقدم لهم وعودًا مهمة: الرحمة، الصلوات، وأنهم المهتدون؛ هم الذين تعاملوا بشكلٍ صحيح مع ما يواجهونه في ظروف هذه الحياة المختلفة، والتجأوا إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ونظروا إلى طبيعة ما يواجهونه في هذه الحياة، بنظرة واقعية وصحيحة، والتجأوا إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.
فالصبر من أهم ما ينبغي أن يوطِّن الإنسان نفسه عليه، وأن يعزم عليه عزمًا، وأن يدرك ضرورته، أنه لا بُـدَّ منه في أن تكون مؤمنًا كامل الإيمان، أنه لا بُـدَّ منه في أن تواجه صعوبات هذه الحياة، وما فيها من التحديات، والمحن، بطريقة صحيحة، بطريقة إيجابية تفيدك ويكون لها ثمرتها، ونتائجها الطيبة في واقع حياتك، والإنسان يمكنه ذلك أن يوطِّن نفسه على الصبر، وأن يروض نفسه على الصبر والتحمل، يمكنه ذلك ويمكنه أن يرتقي في ذلك، ولكن لا بُـدَّ له من الاعتماد على الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، كما يقول الله “جَلَّ شَأنُهُ”: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ}[النحل: من الآية 127]، وطِّن نفسك على الصبر، واعزم على ذلك، وفي نفس الوقت ارجع إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والتجئ إليه، واطلب منه حتى أن يُفرِغ عليك الصبر. من الأدعية القرآنية المهمة: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا}[البقرة: من الآية 250]، أطلب من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أن يُمِدَّك بالصبر، أن يعينك، أن ييسر لك ذلك، أن يمدك في واقعك النفسي بما يساعدك على التحمل، ومع التحمل، مع القرار، والعزم، والتوطين للنفس على التحمل، يمكن للإنسان أن يتحمل الأشياء الكثيرة مع معونة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ولذلك يقول أمير المؤمنين “عَلَيهِ السَّلَامُ”، فيما روي عنه من الشعر:
هي النفسُ ما حمَّلتَها تتحمَّلُ ولِلدَّهرِ أَيَّـامٌ تَجورُ وتَعدِلُ
وعاقِبَةُ الصَّبرِ الجَميلِ جَميلةٌ وأحسَنُ أخلاق الرِّجالِ التَّحمُّلُ
الإنسانُ إذَا وطَّن نفسه على التحمل والصبر، مع اعتماده على الله، مع التجائه إلى الله، مع استعانته بالله، فيمكن له أن يتحمل الأشياء الكثيرة في واقعه النفسي، وأن يتجاوز الكثير من الصعوبات، والمحن من خلال ذلك، فلا تنكسر نفسه أمام ما يرِدُه من الهموم، بل يطرحها عنه، وما أجمل قول الشاعر وهو يتحدث عن مسألة الصبر إلى أرقى مستوى:
سَأصبِرُ حتى يَعجَزَ الصَّبرُ عَن صَبري وأصبِرَ حتى يَنظُرَ اللهُ في أمري
وأصــــبِرَ حتى يَعلَمَ الصــــبرُ أنَّني صَبَرتُ عَلَى شَيءٍ أَمَرَّ مِن الصَّبرِ
فالإنسانُ يمكنُه أن يوطِّنَ نفسَه على الصبر، وأن يعزم على ذلك، وأن يتروض ويتعود على الصبر. صَبَرَ في محن، في ظروف، في معاناة، أمام هموم معينة، فاكتسب من خلال تعوُّده على الصبر، وتروِّضه عليه، امتلك ملَكةً قوية في التحمل، في التعود؛ حتى أصبحت الكثير من الأمور التي قد تؤثر على غيره، وتصبح مشكلةً كبيرة على غيره، بالنسبة له أمورًا اعتاد عليها، وتروض عليها، ولم تعد ذات مشكلة كبيرة على نفسه، تُسبب له الهم الشديد. فهذه مسألةٌ مهمةٌ جِـدًّا في التعامل مع الهموم التي تؤثر على الكثير من الناس، أولًا بعزائم الصبر، ((اطْرَحْ عَنْكَ وَارِدَاتِ الْهُمُومِ بِعَزَائِمِ الصَّبْرِ وَحُسْنِ الْيَقِينِ))، مع الصبر لا بُـدَّ لك من حُسن اليقين، اليقين الحسن، بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، بأنه مدبِّر الأمور “جَلَّ شَأنُهُ”، اليقين بوعده الصادق، الذي وعد به عباده الملتجئين إليه، وهذه مسألة في غاية الأهميّة؛ لأَنَّ مما يسبب أن يكبر الهمُّ في نفسك، وأن يكون ضغطه عليك ضغطًا شديدًا، قد يصل بك إلى حَــدّ الانهيار النفسي، عندما تواجه الأمور والهموم على أَسَاس أنك تواجهها بنفسك فحسب، بإمْكَاناتك، بقدراتك الشخصية، أَو بما في يدك، وتراه شيئاً ليس في مستوى ذلك الذي تهمه من الأمور، أحداث معينة، مشاكل معينة، تحديات، ترى فيها تحديات كبيرة، ضاغطة عليك، فوق مستوى قدراتك، فوق مستوى إمْكَاناتك، وبالتالي تتأثر تجاهها.
فعندما يكون يقينك بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” وبوعده، وأنت ملتجئٌ إليه، معتمدٌ عليه، مهتدٍ بهديه، ملتزم بتوجيهاته “جَلَّ شَأنُهُ”، ثم يكون أملك ورجاؤك فيه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” وفيما وعدك به، وأنه “جَلَّ شَأنُهُ” {وَهُوَ عَلَى كُـلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[المائدة: من الآية 120]، من يصنع المتغيرات، هو الذي سيُفرِّج همك، ويكشف غمك، فهذا سيفيدك، هذا سيجعلك قويًّا، في مواجهة تلك الهموم، يطرحها عنك؛ لأَنَّك لم تعد تواجهها فقط، بحدود إمْكَاناتك، وواقعك الشخصي، وما بيدك، أنت تنظر إلى المسألة من منظورٍ أوسع وأكبر، أنت تلتجئ إلى الله، وتثق به، تعتمد عليه، وتوقن أنه الذي يصنع المتغيرات، وأنه الذي يجعل بعد العسر يسرًا، كما قال “جَلَّ شَأنُهُ”: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}[الطلاق: من الآية 7]، بل هو القائل “جَلَّ شَأنُهُ”: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}[الشرح: 5]، والإنسان في مسيرة حياته يُجرِّب هذه المتغيرات، فهو قد يعيش العسر، وبالتالي يضيق منه، يمثل همًّا كَبيراً ضاغطًا على نفسه، يشغل باله، ونفسه، وتفكيره، ويشغل واقعه به، ثم يلحظ كيف غيَّر الله ذلك العسر.
قد يواجه الإنسان تحديًا معينًا، أَو مشكلةً معينة، أَو قضيةً معينة، مزعجةً له جِـدًّا، يصاب منها بالهم الكبير والغم الشديد، فيرى نفسه في وضعية متعِبة، يتعب نفسيًّا وهو يواجه ذلك الهم، ثم يرى كيف غيَّر الله ذلك، كيف فرَّج الله عنه، كيف تغير الأمر تماماً وانتقل إلى حالٍ آخر.
وهكذا في مسيرة الحياة ما يفيد الإنسان، ما يُكسِبه المزيد من اليقين، من الثقة بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، من الوعي بظروف هذه الحياة المختلفة فلا يستمر فيها يسرٌ دائمٌ، ولا عسرٌ دائمٌ. وَإذَا واجه الإنسان كربًا معينًا أَو همًّا معينًا، يمكنه أن ينتقل منه، ولكن قد يردهُ همٌّ آخر، فإذا ورد له همٌّ آخر، يكون قد استفاد من تجربته السابقة. وهذه مسألة مهمة جِـدًّا، الإنسان في مواجهة الهموم إذَا انطلق من منطلَق الثقة بالله، والاعتماد على الله، والالتجَاء إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، فسيشعر بالاطمئنان، وسيقلُّ عنه ذلك الهم الكبير، الذي كان ينظر إليه من منظور واقعه الشخصي وإمْكَاناته وما بيده؛ وهو شيءٌ محدود، لكن عندما تتعامل مع المسألة من خلال الالتجَاء إلى الله، وتستفيد حتى ليس فقط من تجربتك الشخصية، بل يمكنك أن تستفيد من سير الأنبياء والرسل “صَلَوَاتُ الله عَلَيهِم”، وما واجهوه مما ذكره الله في سيرهم وقَصصهم في القرآن الكريم، وعلى لسان نبيه “صَلَوَاتُ الله عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”، ما واجهوه من الهم والمحن، وكيف تجاوزوا ذلك، كيف تعاملوا معه، بالالتجَاء إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وظروف متنوعة، وهموم متنوعة ومختلفة.
نبي الله يعقوب ماذا قال؟ {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إلى اللَّهِ}[يوسف: من الآية 87]، هكذا نتعلم من سيرتهم، من حياتهم، من طريقتهم فيما واجهوه من محن هذه الحياة، من آلامها، من همومها، نتعلم منهم أولًا الالتجَاء إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والصبر، ماذا قال نبي الله يعقوب في محنته من بدايتها: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}[يوسف: من الآية 18].
فنوطِّن أنفسنا على الصبر، ونلتجئ إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وندرك أن واقع هذه الحياة يواجه الإنسان فيه أصلًا الكثير من الهموم المتنوعة المختلفة، ولكن بالتجائه إلى الله، وبتوطينه نفسَه على الصبر، وعزمه على الصبر، وممارسته للصبر بشكل عملي، يتجاوز الإنسان الكثير من الهموم والمحن، ويكون أمله في الله كَبيراً، يحسن ظنه بالله “جَلَّ شَأنُهُ”. في الحديث عن الرسول “صَلَوَاتُ الله عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”: ((اِشتدِّي أزمة تَنفَرِجِي))، أحياناً يأتي الفرج عندما تصل إلى منتهاها، في نظرة الإنسان، في تحمُّله، على مستوى ذروتها في الشدة، تشتد إلى الذروة ثم تنفرج، ويكون بعد العسر، وبعد الضيق، وبعد الهم الكبير، يأتي الفرج الكبير.
عسى الهمٌّ الذي أمسيتَ فيهِ يكـــونُ وراءَهُ فَـَـرجٌ كــــبيرُ
أحياناً يكون الكرب قد وصل والهمُّ إلى مستوى كبير جِـدًّا، والإنسان يذكِّر نفسه في مثل تلك الأحوال، يذكر نفسه من خلال القرآن الكريم، من خلال قصص الأنبياء “عَلَيهِم السَّلَامُ”، قصص أولياء الله، قصص ووقائع من هذه الحياة، عن هموم ومشاكل ومحن، حصل بعدها فرَج، ومتغيرات كبيرة، وأحوال مختلفة، وهذا يفيد الإنسان بشكلٍ كبير، ويُكثر من ذكر الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.
((مَنْ تَرَكَ الْقَصْدَ جَارَ))، على الإنسان في اتّجاهه في هذه الحياة، في مواقفه، في مسيرته: أن يتجه الاتّجاه الصحيح، على أَسَاس من العدل والحق، وأن يكون متوازنًا في اتّجاهه: بدون إفراط ولا تفريط، التفريط فيه نقص، والإفراط فيه تجاوز، فيتجه بالمستوى الصحيح الذي ينبغي، ويتجه على أَسَاس ذلك، فإذا حصل اختلال عند الإنسان، إما بالإفراط، أَو بالتفريط، فهو يميل، يميل عن الاتّجاه الصحيح ويخرج عن الطريق، ولذلك ينبغي أن يحرص الإنسان: أن يكون اتّجاههُ اتّجاها صحيحًا؛ في مواقفك، في أعمالك، في توجّـهك، في هذه الحياة على أَسَاس من انتمائك الإيماني، أن يكون اتّجاها صحيحًا، ثم أن تحرص على الاستقامة في ذلك، وأن تحذر من الإفراط والتجاوز؛ لأَنَّ هذا يميل بك، يميل بك عن طريق الحق، يخرجك من الصراط السوي، أَو التفريط كذلك الذي يؤثر ويَنقُص بك عن أن تتجه كما ينبغي.
((وَالْهَوَى شَرِيكُ الْعَمَى))، الهوى: عندما ينطلق الإنسان بناءً على رغباته النفسية، رغباته الشخصية، ما تهواه نفسه وترغب به وتميل إليه، دون الرجوع إلى مسألة الحَقِّ، إلى مسألة العدل، إلى الحكمة، إلى مسألة الصواب والصحيح، الشيء الصواب، الشيء الصحيح، لا تحول اتّجاهك بناءً على ما ترغب به نفسك وتهواه نفسك؛ فهذه حالة خطيرة جِـدًّا على الإنسان، إلى درجةٍ لا تستفيدُ معها حتى من وعيك، ولا تستفيد معها حتى من معرفتك بالحق؛ لأَنَّك أَسَاسًا لم تعد تنطلق في مواقفك، أَو في عملك ذلك على أَسَاس من الحق، ومن الاتِّباع للحق، ومن التمسك بالحق، ومن الاستقامة على الحق، أنت أصبحت تتجه وراء هوى النفس، وهوى النفس وما ترغب به في أكثره: يميل بك عن الحق، ويخرجك عن الحق، وهي حالة خطيرة جِـدًّا، ولهذا حذّر الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” كَثيراً في القرآن من الاتباع لهوى النفس، إلى درجة أنه خاطب نبيه داود “عَلَيهِ السَّلَامُ”، وقال له ليقول لكل الناس: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}[ص: من الآية 26]، اتباع الهوى يُضلّ الإنسان عن سبيل الله، عن طريق الله، عن نهج الله.
يقول أَيْـضاً عن الكافرين: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأنفس}[النجم: من الآية 23]، يتَّبعون أهواءَهم، {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ}[القصص: من الآية 50]، الإنسان إذَا أصبح متَّبعًا لهوى نفسه، ومتجهًا وفق ما ترغب به نفسه، وتميل إليه نفسه، وتشتهيه نفسه، فالنفس في أغلب الأحوال: هي أمَّارةٌ بالسوء، فهو سيخرج عن طريق الحق، ولو كان إنسانا واعيًا، ولو كان إنسانا متعلمًا أَو عالمًا، ولو كان إنسانا يفهم حتى في ذلك الموضوع، أَو في تلك القضية ما هو الحق فيها، فهو إذَا اتبع هواه كان كالأعمى، كالإنسان الذي لا يدرك شيئاً، لا يبصر شيئاً، لا يعرف من الحق شيئاً، فـ ((الْهَوَى شَرِيكُ الْعَمَى))، الهواء يصرفك عن الحق، ويبعدك عنه، كما لو كنت أعمى، لا تعرف الحق، ولا تهتدي إليه، كما لو لم يكن لك بصيره، ولا معرفة بالأمور؛ فهو حالة خطيرة على الإنسان.
((وَمِنْ اَلتَّوْفِيقِ اَلْوُقُوفِ عِنْدَ اَلْحَيْرَةِ))، الإنسانُ عليه أن يسيرَ على بصيرة على معرفة، على فهم صحيح، على يقين تجاه ما يقف فيه من مواقفَ، أَو يتحَرّك فيه من عمل، وَإذَا واجه الإنسان الحيرة تجاه أمرٍ ما، أَو قضية معينة، فلا يدخل ويتورط ويُقحِم نفسه بدون بصيره، وهو في حالة حيرة، بل يتوقف ويسعى إلى أن يكتسب البصيرة، أن يحصل على البصيرة تجاه ذلك، أن يعي ما هو الحق تجاه ذلك، قبل أن يتهور ويدخل فيما لا بصيرة له فيه، ولا فهم صحيح له عنه، ولا ينطلق على أَسَاس من رؤية حقيقية، رؤية صحيحة، يستند فيها إلى أُسس صحيحة.
((وَطَارِدُ اَلْهَمِّ اَلْيَقِينِ))، مثلما سبق في ((وَاطْرَحْ عَنْكَ وَارِدَاتُ اَلْهُمُومِ بِعَزَائِمِ اَلصَّبْرِ وَحُسْنَ اَلْيَقِينِ))، فيقينك هو عاملٌ مساعد على أن تخفف عن نفسك الهموم، فلا تَكثُر على نفسك؛ لأَنَّك بيقينك بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وبوعده، وأنه مدبِّر شؤون السماوات والأرض، وأنه الذي يصنع المتغيرات، ويحقّق النتائج العظيمة؛ إذَا أخذتَ بأسبابها بشكلٍ صحيح، فهذا يطرد همومك؛ لأَنَّك تلتجئ إلى الله، وتحسب حساب معونته ورعايته، وما يحقّقه، وما يهيئُ له، وإلا كبرت الأمور على نفسك، وعظم همها عليك، وبالتالي يؤثر عليك.
((وَالصَّاحِبُ مُنَاسِبٌ، وَالصَّدِيقُ مَنْ صَدَقَ غَيْبُهُ))، في علاقتك بالناس، هناك من هم أصحاب لك، تربطهم بك صلة قوية، من الصحبة، من الرفقة، من الأخوَّة، من التعاون، إلى درجةٍ ترقى أحياناً مع البعض وكأنه قريبٌ لك من النسب، في مستوى اهتمامه بك، في مستوى تدخُّله معك في إعانتك في الأمور المهمة، ومواجهة التحديات والصعوبات أَو المحن، فكأنه قريب لك من النسب، يعني فهو يستحق منك وهو الصاحب لك الذي يعينك، الذي يقف معك، الذي يهتم لأمرك، الذي يواسيك، يستحق منك أن تتعامل معه وأن تهتم به كما لو كان قريبًا لك من النسب.
((وَالصَّدِيقُ مَنْ صَدَقَ غَيْبُهُ))، الصديقُ الحقيقي: هو الذي هو صادقٌ معك، في اهتمامه بأمرك، في مواساته، سواءً كان غائبًا عنك، أَو حاضرًا معك؛ لأَنَّ البعض من الناس صداقته في حدود أن يكون بَشوشًا معك، أن يكون محسنًا للتعامل معك، إذَا كان في حضرتك، أما إذَا غاب عنك، فلا يهمُّه شيءٌ من أمرك، ولا يبالي بك، ولا يبالي بما قيل عنك، ولا بما قيل فيك، ولا بما جرى لك، وليس مباليًا بك، هو صدوقٌ في حضرتك فقط، صديقٌ في حضرتك فقط، أما في حال الغياب عنك فلا شأن له بك أبدًا.
وَ((رُبَّ بَعِيدٍ أَقْرَبُ مِنْ قَرِيبٍ، وَقَرِيبٍ أَبْعَدُ مِنْ بَعِيدٍ))، وتلك الجملة هي تبين لك: مَن الذي ينبغي أن ترى فيه صديقًا لك؟ فهو الصادق معك في مختلف الأحوال، في مختلف الظروف؛ لأَنَّ من الأصدقاء من هم أصدقاء لك في حالة اليسر، والظروف المتحسنة، لكن فيما لو واجهت ظروفًا مختلفة، نفِدَتْ صداقتهم، لو واجهت العسر انتهت صداقتهم، لو واجهت الظروف الصعبة التي تحتاج فيها إلى شيء منهم، إلى معونة منهم، لن يفعلوا لك أي شيء، لو قيل عنك ما قيل في مغيبك، أَو جرى ما جرى، لا يبالون بك، ولا يكترثون لحالك، فالعلاقة بهم لا ترقى إلى مستوى أصدقاء.
و ((رُبَّ بَعِيدٍ أَقْرَبُ مِنْ قَرِيبٍ، وَقَرِيبٍ أَبْعَدُ مِنْ بَعِيدٍ))، وهذا في الناس وفي الأمور أَيْـضاً، من الناس من هو بعيد في النسب، ولكنه في مستوى اهتمامه بك، وعنايته بشأنك، وعلاقته الوثيقة بك، واهتمامه بأمرك، أقرب إليك في ذلك ممن هم أقرباء لك من نسبك، ومن الأقرباء من النسب من هو بعيدٌ عنك كُـلّ البعد، في اهتمامه بأمرك، في بمواساته لك، في التفاته إلى ظروفك، في اهتمامه بشأنك، هو بعيدٌ عنك في كُـلّ ذلك، بل البعض قد يصل به الحال إلى أن يكون مباينًا لك، أَو مسيئًا إليك، أَو ظالمًا لك، ففي الواقع هناك روابط قوية تربط بينك وبين الآخرين، أقواها، وأمتنها، وأعظمها، هو رابطة الأخوَّة الإيمانية، الأخوَّة في طريق الحق: هي رابطةٌ وثيقةٌ، وعظيمةٌ، ومهمة. في الأمور كذلك، هناك من الأمور ما يستقربها الإنسان وهي بعيدة، وهناك ما يستبعده الإنسان من الأمور وهو قريب، إذَا لم يكن عند الإنسان وعي عن حيثيات الأمور، عن الأسباب، عن النتائج.
((وَالْغَرِيبُ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَبِيبٌ))، الغريب الذي هو في غربة أشد ممن نأى عن دياره، وسافر عن بلده: من لم يكن له حبيب حتى لو كان في بلده، في منزله، في قريته، أَو مدينته، فهو في الحال الذي هو فيه، ليس له أحبَّاء، يشعر بالغربة، يشعر بالعزلة، يشعر أنه لوحده، والأسباب تختلف في أن يكون واقع الإنسان بهذا الشكل، ليس له أحباء، ليس له أصدقاء، لا تربطه بالآخرين روابط قوية إلى درجة المحبة، والأخوَّة، والتعاون، والمواساة، فقد يكون السبب أحياناً يعود إلى الإنسان في أنانيته، في سوء خلقه، في سوء تعامله، البعض من الناس أناني جِـدًّا، لا يفكر إلا بنفسه، وبالتالي لا يستطيع أن يدخل في روابط وعلاقة قوية مع الآخرين؛ لأَنَّه يريد منهم هم أن يحبُّوه، أن يفعلوا له كُـلَّ شيء، أن يهتموا به في كُـلّ شيء، دون أن يقابلهم بمثل ذلك، يريد منهم أن يتعاملوا معه بالحفاوة، بالاحترام، بالتقدير، بالود، بالاهتمام، بالمواساة، لكن ولا يكون هو متعاملًا معهم بذلك الشكل، فلا يطيق أحد أن يستمر في علاقة معه، بل أُسلُـوبه مثلًا في الجفاء، والغلظة، والفضاضة، يؤثر على مسألة هذه الروابط.
فالأنانيةُ، وسُوءُ الخلق، وسوءُ التعامل، والجلافة، هي تصل بالإنسان أحياناً إلى ألَّا يبقى له أحباء، وألَّا تبقى له روابط -روابط المحبة بينه وبين الآخرين- إلا على سبيل المجاملة والتحمل إذَا كان هناك ضرورة تفرض ذلك، وإلا فلا يُطاق الإنسان لسوء خلقه، لجلافته، لسوء تعامله. فمثل هذه الحالة، على الإنسان أن يعالجها؛ عندما تكون الإشكالية منه، فالحالة التي هو فيها من حالة العزلة، والغربة، لا تربطه بالآخرين أي روابط، تؤثر على نفسه، والبعض من الناس قد يصل به الحال في التأثير السلبي على نفسه نتيجةً لذلك، إلى درجةٍ قد يصاب فيها إما بالمرض النفسي، أَو بالعقد الشديدة، يعيش إنسان معقدًا جِـدًّا في هذه الحياة.
أسباب أُخرى قد تكون أسباب ليست سلبية من جانب الإنسان، البعض من الناس مثلًا في ظروف حياته الاجتماعية، هو في بلد أَو في مجتمع، اتّجاهه خارجٌ عن طريق الحق، وعن نهج الحق، والإنسان ذلك: غريبٌ في موقفه الحق، في موقفه واتّجاهه الصحيح، في ظل وضعية مختلفة عنه تماماً، لكن يمكن أن يرتبط بهذه المحبة والأخوَّة بمن يتجهون الاتّجاه الحق، والاتّجاه الصحيح.
فعلى كُـلّ، إذَا فقد الإنسان روابط المحبة والإخاء مع الآخرين بشكلٍ تام، يشعر فعلًا بأنه غريب، أنه في غربة، أنه لوحده، لا يشعر بالأُنس ولا الاطمئنان، أما إذَا كان له أحباء، حتى لو كان نائيًا عن دياره وعن وطنه، فهو يشعر بالإنس، ويخفف ذلك الكثير عليه من الشعور بالغربة.
((مَنْ تَعَدَّى الْحَقَّ ضَاقَ مَذْهَبُهُ))، الحق: هو نور، وطريقه طريقٌ واضحة، الحق مبادئه واضحة، قيمه واضحة، طرقه واضحة، طريقه طريقٌ واضح وسوي، تنطلق فيه باطمئنان، بثقة، براحة بال، ولكن الإنسان إذَا تجاوز الحق: تاه وضل، وتخبط، واضطرب في أموره وخياراته، وحتى في أفكاره، فيصبح في حالة ضيقة، مهما برّر مواقفه يجد صعوبة في ذلك، يعيش حالة الاضطراب، في خيارات، في قراراته، في توجّـهاته، الاضطراب الكبير، يعيش وضعية مضطربة في كُـلّ أحواله، وهذه مسألة ملاحَظة في البعض من الناس؛ مثلًا يسير في طريق الحق، وهو الطريق الذي تنطلق فيه وأنت مرتاح البال، مطمئن النفس، وأنت واثق مما أنت عليه من الحق؛ لأَنَّها أمور واضحة، طريق واضحة، مواقف واضحة، ثم إذَا تجاوز الحق، وشط عنه، وخرج عنه، أصبح في حالةٍ من الاضطراب الكبير، ماذا يعمل؟ كيف يقول؟ ماذا يبرّر موقفه؟ ما الذي يعود إليه؟ ما الذي يتجه فيه؟ ويبقى في حالة من الاضطراب، والتناقضات الفكرية، من فكرة إلى فكرة أُخرى، من نظرة إلى نظرة أُخرى، في حالة من الاضطراب والتردّد، وتضيق عليه وجهته، مهما قدَّم من المبرّرات، مهما حاول أن يبرّر لنفسه، فهو يجد نفسه في ضيق من أموره، طرقه ضيقة، مضطربة، متباينة، أفكاره متناقضة، واقعه مضطرب، حتى نفسي مضطربة.
((وَمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى قَدْرِهِ كَانَ أَبْقَى لَهُ))، وهذه مسألة من أهم الأمور: أن تعرف قدرك، وأن تقتصر على أَسَاس من معرفتك بذلك، تقتصر في أمورك على معرفتك، بناءً على معرفتك بقدر نفسك. الإنسان قد ينظر أحياناً إلى نفسه نظرة المغرور، يرى نفسه فوق مستوى ما هو عليه، وبالتالي يفترض لنفسه في هذه الحياة، إما في موقعه، دوره في هذه الحياة، ما يقوم به أَو يتعامل معه من الأمور، بناءً على تلك النظرة المغلوطة، وأول ما يحتاج إليه الإنسان: أن يعرف قدر نفسه، مقدار ما أنت عليه من المؤهلات الفعلية الحقيقية، وليس بناءً على نظرة الغرور والانخداع. الإنسان إذَا نظر إلى نفسه نظرة المغرور، يرى نفسه فوق حجم نفسه، فوق مقدار ما هو عليه، فيما يمتلكه من مؤهلات فعلية، وبالتالي يفترض لنفسه دورًا أكبر من الدور الذي يناسبه، يتعاطى في الأمور ويدخل في قضايا معينة، أَو أعمال معينة، أَو يتعامل مع أمور معينة، وليس بمستواها، لا في مؤهلاته، ولا فيما يمتلكه من خلفية، تجاه ذلك، وهذا يسبب له الوقوع في كثيرٍ من الإشكالات، ويجلب له النظرة الممقوتة من الناس؛ لأَنَّ حاله يكون واضحًا، أنه يتعامل مع ما ليس في مستواه من الأمور، أَو القضايا، وبالتالي ينظر الناس إليه نظرةً ممقوتةً، هم يرون فيه إما أنه إنسان متكبر، أَو متغطرس، أَو مغرور، أَو معجبٌ بنفسه، إلى غير ذلك.
فعلى الإنسان أن يكون لديه نظرة صحيحة، وأن يعرف سوء التجاوز لقدر نفسه، ألا يتعامل مع الأمور فقط اتكالا على طموحاته، أحياناً تكون طموحات الإنسان أكبر من قدر نفسه، فيمكنه أن يسعى للارتقاء أولًا إلى مستوى تلك الطموح، الارتقاء في إيمانه، في وعيه، في المؤهلات اللازمة لذلك المستوى، وإلا فالإشكالية كبيرة، الذين لا يعرفون قدر أنفسهم، ويتعاملون بأكبر مما ينبغي، يدخلون في إشكالية الموقع والدور، هو يريد دورًا أكبر، موقعًا أكبر، أكبر من مستواه، أكبر من مؤهلاته، ويريد من الناس أن يستجيبوا له في ذلك، أن يبادروا معه إلى ذلك، وإلا فهو ذلك المتذمر منهم، المستاء منهم، الساخط عليهم، المتعقِّد عليهم، المسيء إليهم، والذي يحوِّل المسألة إلى مشكلة بينه وبينهم، أنه لماذا لا يعطوني ذلك الدور؟ لماذا لا أكون في ذلك الموقع أَو في ذلك المنصب؟ أَو لا أستلم أنا تلك المهمة؟ وهو لا يدرك أنه وإن كان في طموحه ورغبته الشخصية، وقد يكون أَيْـضاً في نظرته إلى نفسه؛ لأَنَّه لم ينظر من منظورٍ صحيح، لم ينظر إلى طبيعة تلك المسؤولية أَو ذلك الدور، وما يرتبط به من مؤهِّلات معينة.
كذلك على مستوى قضايا معينة، قد يتدخل في قضايا ليس له أي خلفية تؤهله للتدخل فيها، قد يجعل من نفسه قاضيًا ليقضي بين الناس، وهو لا يمتلك أي خلفية عن الأمور الشرعية والقضائية، وقد يجعل من نفسه متدخلًا في أمور أُخرى، أمور كبيرة، أمور وقضايا كبيرة، في أي مجال من المجالات، وهو لا يمتلك ما يؤهله لذلك أصلًا، وهذا دائماً ما يسبب الإشكالات؛ لأَنَّ الإنسان إذَا تعامل مع أمور ليس في مستوى التعامل معها، من حيثُ إنه لا خلفية له عن ذلك، ولا يمتلك المؤهلات الضرورية لذلك، فهو سيتصرف في كثيرٍ من الأمور بتصرفات خاطئة، ويفتح أبوابا من المشاكل، ويتعامل بطريقة تسيء إلى نفسه، وتسيء إلى غيره أَيْـضاً.
أيضًا فيما يطلبه الإنسان من الناس، إذَا كان ينظر إلى نفسه نظرةً مغرورة، نظرة المعجَب بنفسه، المغرور بنفسه لا يعرف قدر نفسه، فهو يفترض من الناس في تعاملهم معه، وفيما يفعلونه له، وفي أُسلُـوبهم معه، أن يتعاملوا معه بمستوى أكبر؛ لأَنَّه يرى نفسه أكبر من ذلك المستوى الذي هو فيه، الواقع الحقيقي له، يرى نفسَه أكبرَ بكثير؛ فهو بناءً على تلك النظرة يريد من الناس أن يتعاملوا معه في مستواها، ثم إذَا لم يفعلوا ذلك فهو ذلك أَيْـضاً الساخط عليهم، المستاء منهم، ومهما كان تعاملهم معه إيجابيًّا لا يقتنع بذلك، ويريد أكثر بكثير من ذلك منهم، ينتظر منهم من التعظيم والاهتمام، ما هو أكبر بكثير من طريقتهم في التعامل معه، حتى لو كان تعاملًا قائمًا على أَسَاس من الاحترام، لا يكفي ذلك، وهكذا يكون ساخطًا، مستاءً، وتكثر المشاكل بينه وبين الآخرين، على كُـلّ هذه الأمور، مشكلة؛ لأَنَّهم لم يقولوا له كذا، لم يفعلوا معه كذا، لم يتعاملوا معه كذا، فتكون نسبة المشاكل كثيرة جِـدًّا، وقد تصل بالإنسان أحياناً إلى مشاكل خطيرة جِـدًّا، قد يدخل مع البعض في مشاكل خطيرة عليه. بينما الإنسان إذَا عرف قدر نفسه، وتعامل وفقًا لذلك، يبقى في الأعمِّ الأغلب له قدره، التعامل المحترم معه، ويسلم من كثير من الإشكالات، ويسلم من كثير من الإساءَات، ويسلم من كثير مما كان سيحصل بناءً على اتّجاهه، من واقع المغرور بنفسه.
((وَمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى قَدْرِهِ كَانَ أَبْقَى لَهُ))، وأنجح أَيْـضاً؛ لأَنَّك تتعامل مع الأمور التي أنت في مستوى التعامل معها، هذا أضمن لنجاحك، أفضل لك، بل هذا ما يساعد الإنسان على الارتقاء أصلًا؛ لأَنَّ من يقفز إلى فوق مستوى قدره: هو كثير الفشل، كثير الأخطاء، كثير الإشكالات، أما الذي يتحَرّك بمستوى قدره، يتحمل من الأمور، يتحمل من المسؤوليات، يتعامل بناءً على ذلك المستوى، فهو أسلم حالًا، على مستوى ما يواجه من مشاكل في التعامل، أَو يواجه من إشكالات في الواقع، أَو أخطاء في العمل، أَو غير ذلك، كَثيراً من الناس لهم مشاكل كثيرة؛ بسَببِ أنهم لا يقتصرون على قدرهم.
((وَأوْثَقُ سَبَبٍ أخذتَ بِهِ: سَبَبٌ بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللهِ سُبْحَانَهُ))، الإنسان في مسيرة حياته، قد يُفكر ما هو السبب الذي اعتمِد عليه لصلاح حالي، ولضمان مستقبلي؟ البعض من الناس يقول التجارة مثلًا: [أسعى؛ لأَنَّ أكون تاجرًا، وأن أمتلك المال والإمْكَانات المادية، وهذا هو السبب الذي يكون أوثق الأسباب لصلاح حالي، ولضمان مستقبلي، هذا سيفيدني في أمور معيشتي، سيفيدني في علاقتي بالناس، في مشاكل هذه الحياة، والتصدي لها].. إلخ.
البعض من الناس قد يقول: [أوثق سبب وأضمن سبب هو المنصب، أن أحصل على منصب معين، أحصل من خلاله على النفوذ، على القدرة، على الأهميّة، على المال، على الموقع المحترم بين أوساط الناس]، فيرى في ذلك أنه أوثق سبب، يعتمد عليه لصلاح حاله، ولضمان مستقبله في هذه الحياة.
البعضُ من الناس قد يقول: [خِبرةٌ معينة اكتسبها، أَو مؤهل معين في مجال معين، أُحسِنه وأتقن فيه، وهذا سيفيدني ليكون أوثق وأضمن سبب اعتمد عليه لصلاح حالي، وضمان مستقبلي]، هكذا تختلف اتّجاهات الناس، ونظرتهم إلى هذه المسألة.
الأسباب مهما كانت أهميتها، ومهما كان أثرها على الإنسان في حياته، يبقى أثرها في مستوى معيَّن، ولا شيء منها بالنسبة لمثل تلك الأسباب، التي ذكرناها، من مال، أَو منصب، أَو وجاهة، أَو حرفة، أَو خبرة، أَو اكتساب مؤهل في مجال معيَّن، ليس شيءٌ منها في مستوى أن يكون أوثق سبب، بل الكثير منها يمكن أن يصل إلى درجة لا يفيدك أصلًا في كثير من الأمور، أَو في قضايا معينة، أَو أن تخسره، يمكن أن تكون تاجرًا ثم تُفلس، يمكن أن تكتسب خبرة في مجال معيَّن، ثم يحصل لك عائق يعيقك تماماً عنها، يمكن أن تكون في منصب معيَّن، وأصبحت مرتاحًا إلى أنك أصبحت في الموقع الذي ضمنت فيه مستقبلك، وأمَّنت فيه حاضرك، ثم تخسر ذلك المنصب ويزول عنك. كُـلّ الأسباب هذه يمكن إما أن تتلاشى أصلًا، أَو أن تكون مفيدة إلى حَــدّ ما، ولا تفيدك في أمور مهمة تواجهك في هذه الحياة، قد تسحقك، قد تؤثر عليك إلى درجةٍ كبيرة.
فما هو أوثق الأسباب الذي تعتمد عليه؟ وترى فيه بوعي، وبصيرة، ويقين؛ أنه أوثق سببٍ تتمسك به في هذه الحياة، تعتمدُ عليه في هذه الحياة، يقول أمير المؤمنين “عَلَيهِ السَّلَامُ”: ((وَأوْثَقُ سَبَبٍ أخذتَ بِهِ: سَبَبٌ بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللهِ سُبْحَانَهُ))، فهو أوثق وأضمن الأسباب، عندما تعتمد على الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، عندما يكون همُّك في هذه الحياة أن تحظى برضوانه، وأن تكون معه ويكون معك، كيف تكون مع الله ويكون الله معك، ما يحقّق لك هذه الصلة بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، هذا الارتباط؛ ليكون هو السبب الذي تعتمد عليه في حياتك، هذا هو أوثق الأسباب، هو السبب الذي يمكن أن تواجه به كُـلّ التحديات، كُـلّ الظروف، هو السبب الذي يُفيدك في الدنيا والآخرة، هو السبب المضمون، الذي لا يمكن أن يؤثر عليه زمن، ولا تؤثر فيه أحداث معينة أَو مشاكل معينة، ولا يمكن أن يكون قاصرًا على الاعتماد عليه في مواجهة تحديات معينة، أَو مخاطر معينة. السبب العظيم، السبب المهم. ولذلك يجب أن تبني واقعك على أَسَاس التمسك بهذا السبب بينك وبين الله.
من جعل كُـلّ آماله في دنيا معينة، أَو منصب معيَّن، أَو شيء معيَّن، إذَا فاته كانت صدمته كبيرة، الصدمة النفسية عليه كبيرة جِـدًّا؛ لأَنَّه علَّق كُـلّ آماله عليه، يقول: [أنا خسرت مستقبلي، أنا خسرت كُـلّ شيء]، يرى نفسه وكأنه قد خسر كُـلّ شيءٍ في هذه الحياة. لكن من كان أوثق الأسباب، الذي هو فعلًا أوثق الأسباب، قد أخذ به سبب بينه وبين الله، قد أخذ به، لو فاته منصب لا يؤثر عليه، لو فاتته دنيا لا تؤثر عليه، لو تضررت علاقاته بأحد من الناس لا تؤثر عليه. أي من الأسباب التي قد يراهن عليها الآخرون، ويعتمد عليها الآخرون كُـلّ الاعتماد، ويعلقون عليها كُـلّ الآمال، يمكن أن تضمحِل، يمكن أن تتلاشى، يمكن أن تنتهي، إلا السبب الذي بينك وبين الله، فلذلك هو الجدير بأن تعتمد عليه، وأن تأخذ به، وأن تعلق كُـلّ آمالك عليه، ولن تخسر ولن تندم، لن يتركك في لحظة صعبة، أَو في ظرفٍ عسير، أَو غير ذلك.
((مَن أعْتَبَََكَ فَهُوَ مِنكَ، وَمَنْ لَمْ يُبَالِكَ فَهُوَ عَدُوُّكَ))، من أعتبكَ: من سعى لاسترضائك وإنصافك تجاه ما بدر منه إليك، فهو منك، هو إنسان رعى حقك، تعاملْ معه بإيجابية؛ فهو أنصفك وسعى؛ لأَنَّ يسترضيك، لا تقابل ذلك تجاهه بتعاملٍ سيء، بطريقة سلبية، أَو تُصنِّفه وكأنه عدوٌّ؛ لأَنَّه قد قال لك كذا، أَو حصل منه كذا، ولا ينفع أنه قد حاول أن يسترضيك، عمل على أن يُنصفك، حاول أن يعوِّضَ إساءتَه إليك بصدقٍ وجدٍّ، فقابلْ أنت موقفَه بإيجابية. أما من لم يُبالِ بك، ولا يكترث ولم يكترث لك، وهو قد أساء إليك وصدر منه ما يوجب عليه أن يعتذر منك، أَو يسترضيك وينصفك، فهو يتعامل معك بمعاملة العدوّ، عندما يعتدي عليك، يُسيء إليك، يظلمك، يتعامل معك بعيدًا عن الإنصاف، ومع ذلك لا يُبالي بك أصلًا، ولا يعطي لك ولا يعيرك أي اهتمام، فيما صدر منه من إساءة إليك، وتعدٍّ عليك، أَو ظلم لك، ويتعامل معك بُعدًا عن الإنصاف.
((قَدْ يَكُونُ الْيَأْسُ إِدْرَاكًا، إذَا كَانَ الطَّمَعُ هَلَاكًا))، الطمع آفة خطيرة على الإنسان، ومن أسوأ ما يمكن أن يؤثر على الإنسان، عندما يكون الإنسان طامعًا في هذه الدنيا، في الحصول على الأموال والماديات، أَو المناصب والأمور المعنوية الأُخرى، التي تعود إلى أمور هذه الحياة الدنيا إلى أطماعه في نُفوذ مثلًا، ومال، وغير ذلك. الطمع آفة خطيرة على الإنسان، ومن أسوأ ما يؤثر على الإنسان تأثيرًا سيئًا، وهو وراء الكثير من الجرائم والذنوب، أحياناً قد يكون الطمع في خطورته على الإنسان؛ ليس فقط خطرًا عليك في مستوى محدود، بل قد يكون سببًا لهلاكك، في دينك وفي حياتك، البعض من الناس يودي به الطمع إلى أن يغامر فيما فيه هلاكه؛ إما هلاكه في دينه، وإما أَيْـضاً مع دينه هلاك حياته. ولذلك في مثل هذه الحالة اليأس خيرٌ من الطمع؛ لأَنَّ في اليأس بقاؤك، وسلامتك، وفي الطمع: هلاكك، وخسرانك، وشقاؤك. والإنسان يمكن له بدلًا من الطمع أن يكون متوازنًا، في اتّجاهه في هذه الحياة، تجاه مادِّياتها ومتطلباتها، وقنوعًا أَيْـضاً.
((لَيْسَ كُـلّ عَوْرَةٍ تَظْهَرُ، وَلَا كُـلّ فُرْصَةٍ تُصَابُ، فرُبَّمَا أَخْطَأَ الْبَصِيرُ قَصْدَهُ، وَأَصَابَ الَاعْمَى رُشْدَهُ))، في مسيرة هذه الحياة لا تظهر أحياناً كُـلّ السلبيات، أَو كُـلّ الثغرات، ولا تُصاب كُـلّ الفرص، فالبصير أحياناً الذي يعتمد في أموره على التحَرّك ببصيرة، قد تخفى عليه بعض الثغرات، أَو بعض السلبيات، أَو بعض الإشكالات، فيخطئ في بعض الأمور، لا يحقّق النتيجة التي سعى لتحقيقها. وأحياناً قد يُصيب الأعمى رشده، فهو الذي يسير دون بصيرة، ولا يستند إلى شيء، في بعض الحالات النادرة قد يُصيب؛ لأَنَّه صادف مثلًا أن اعتمد في ذلك الأمر على سببٍ ناجح، لكنها حالة نادرة. على مستوى الفرص كذلك، ما كُـلّ فرصةٍ تُصاب، أحياناً يكون هناك عوائق معينة، أَو يفوت الإنسان الفهم لشيءٍ من أسباب تلك الفرص، لشيءٍ مما يُعرِّفه بأنها فرصة حقيقية، وأحياناً واقع الإنسان لا يرقى إلى مستوى الاستفادة من تلك الفرصة، وهنا عدة نقاط نستفيدها:
أوَّلًا: على الإنسان ألَّا يُصابَ بالإحباط ولا اليأس؛ لأَنَّه لم ينجحْ في كُـلّ الأمور. الإنسان لو افترض لنفسه أن ينجح في كُـلّ الأمور؛ لأَنَّه أصبح عنده اهتمام أن يتحَرّك في كُـلّ شيء، ببصيرة، ووعي، وفهم، وأخذ بأسباب النجاح، ولكنه فشل في موضوع معيَّن، أَو قضية معينة، فالبعض من الناس قد يتحطم، قد يصل به الحال إلى اليأس، وهذا خطأٌ فادح. في ظروف الإنسان ومسيرة حياته حتى لو كان يعتمد على أسباب النجاح، ويتحَرّك ببصيرة في كُـلّ أموره، وبوعي، فقد يُخطئ في بعض الأمور، يحصل هذا للإنسان، واقع الإنسان هو على هذا النحو. فليأخذ تجربةً من خطأه، وليحذر اليأس، وليحذر الإحباط. وكذلك الآخرون في النظرة والتقييم، لما يكون الخطأ نادرًا في أداء الإنسان، فلا ينبغي الحكم عليه كذلك الذي هو كثير الأخطاء، هو بعيدٌ عن البصيرة، عن الوعي.
أو أن الحالةَ التي يصيب الأعمى فيها رشدَه؛ لأَنَّه أخذ على سبيل الصدفة في أمرٍ ما؛ بسَببِ من أسباب النجاح، فيُنظَر إليه وكأنه أصبح بصيرًا بكل شيء، قد تكون هذه مشكلة عندما يوثق به، ويعتمَد عليه في كُـلّ شيء، لنجاح في مسألة واحدة على سبيل الصدفة، مسألة تكون مبنية على تقييم صحيح، ونظرة صحيحة. ويحذر الإنسان حالة اليأس، وحالة الإحباط. ثم على مستوى الفرص، أحياناً يحتاج الناس إلى اهتمام بواقعهم العملي، ليرقى إلى مستوى اغتنام الفرص، والاستفادة منها؛ لأَنَّ العائق أحياناً أمامهم الذي أثر عليهم، وأضعفهم عن مدى اهتمامهم، أَو استفادتهم من فرص معينة: هو نقص وخلل في واقعهم العملي، أَو الواقع العملي للإنسان نفسه كشخص.
((أَخِّر الشَّرَّ، فَإِنَّكَ إذَا شِئْتَ تَعَجَّلْتَهُ))، هذه حكمة مهمة جِـدًّا، الكثير من الناس فيهم تسرُّع للتعامل مع الأمور، أَو مع مشاكل معينة، أَو مع قضايا معينة بالشر، فيكون الشر هو أول إجراء، أَو أول أُسلُـوب يتعاملون به مع مشكلة معينة، أَو قضية معينة، وهذه مشكلة كبيرة يعني نرى نتائجها في الواقع، ما أكثر المشاكل التي كان سببها التعجل في فعل الشر، التعاجل بالتعامل مع قضية معينة بالشر، أَو مشكلة معينة بالشر، فالبعض مثلًا: لأبسط قضية قد يدخل في عراك أَو قتال، أَو في إساءَات كبيرة، أَو في إجراءات فيها مباينة وعداوة، وهذا أُسلُـوب خاطئ يتعجل به الكثير من الناس، ولذلك تكثر المشاكل بين الناس، وفي كثير منها تكون العاقبة: الندم. يتضح للإنسان أمام قضية معينة أنه كان بالإمْكَان أن يتعامل معها بطريقة صحيحة، ويصل إلى نتيجة، ويتضح له أنه فتح على نفسه بالشر مشكلة أكبر من المشكلة نفسها، ولو نأتي إلى واقع الناس على المستوى الشخصي، أَو على المستوى الاجتماعي، في النظر إلى مشاكلهم التي فيها شر، كيف كان الشر الذي تعجلوا به في أكثر قضاياهم تحول إلى مشكلة أكبر من المشكلة نفسها، كان النزاع أحياناً على مبلغ مالي بسيط، لما دخل الشر فتح بابًا لمشاكل أكبر، أحياناً قتل وقتال، أحياناً اعتداءات وجروح نفسية، وأحياناً جروح جسدية، أحياناً كلمات وقطع للأواصر والقرابات. أشياء كثيرة تحصل نتيجة للشر فتكون هي مشكلة أكبر من المشكلة نفسها التي تعاملوا معها بالشر، بل أحياناً إلى درجة الغرابة؛ قضية تافهة جِـدًّا، تحولت إلى مشكلة بين قبيلة وقبيلة أُخرى، أَو أسرة وأسرة أُخرى، أَو مجتمع ومجتمع آخر، وسبَّب لسفك الدماء، وسبَّب لإثارة الخوف، والتكاليف المادية الهائلة، والخسائر الكبيرة، إلى غير ذلك، وكم هناك من تفاصيل تدخل في نطاق هذا العنوان.
في موقع المسؤولية المسألة كذلك كبيرة وحساسة، البعض من الناس في موقع مسؤولية أمنية، ثم يكون مثلًا: أول إجراء يتعجل به هو: الشر، إما حملات أمنية، أَو إجراءات قاسية، تفتح أبواب الشر منذ اللحظة الأولى، بينما أغلب القضايا يمكن حلها بدون ذلك، بدون الحاجة إلى ذلك. وهكذا في بقية مجالات العمل، من يكون أُسلُـوبه وطريقته التعجل بالشر، فهذا يعود إلى مشكلة نفسية لديه، أحياناً عُقَد لدى الإنسان، إذَا كان لدى الإنسان عقد، أَو كان عنده نقص في الحكمة، في الرشد، في التوازن النفسي، البعض مثلًا: يعاني من الانفعال الحاد، فهو يتعامل وفق انفعاله، لكن إذَا كنت في مسؤولية؛ فأول ما تتعلم وأول ما تحرص عليه: ألا تتعامل وفق مزاجك الشخصي، حاول أن تسيطر على أعصابك، حاول أن تسيطر على غضبك، حاول أن تتعامل برشد مع الأمور، عندما تكون في موقع مسؤولية فالأمر أخطر؛ لأَنَّك قد تظلم، قد تتورط في مشاكل لها تبعات كثيرة.
ومسألة التعجل بالشر: هي مسألة سهلة على الكل؛ كُـلّ الناس، أن يفتح له مشكلة. وكثيرٌ من المشاكل يسهل فتحها، ويصعُب حلها وإغلاقها، ولهذا بعض المشاكل -نتيجةً للشر- تتعقد وتطول إلى خمسين عاماً، إلى عشرين عاماً، إلى ثلاثين عاماً، ولا يمكن إغلاقها إلا بعناء، وجهد، وتكاليف كبيرة، وجهود مضنية؛ فالتعجُّلُ بالشر: طريقة خاطئة، والبعض من الناس سريع الاستفزاز، سريع الغضب، سريع الموقف الخاطئ، يتعجل فيطلق إما كلامًا سيئًا جِـدًّا، أَو يتعجل في إجراءات خاطئة، في تصرفات خاطئة، فيها تهور، هي منطلقة من حالة الشر في نفسه، وَإذَا ساء حال الإنسان وأصبح في نفسه يحمل الشر ويتعجله، فهذا سيفتح الكثير من المشاكل، ويؤثر على الإنسان في دينه، في أخلاقه، في علاقته بالناس، في ظروف حياته؛ لأَنَّه يحمِّله الكثير من المشاكل.
الشر يعني: التعامل مثلًا بقسوة مع الأمور، أَو بإجراء، إجراء حازم، هو يبقى خيارًا أخيرا، خيارًا أخيرا، قبله كم هناك من الخيارات التي يمكن أن يُستفاد منها في معالجة الكثير من القضايا، بل بعض القضايا لا تحتاج فيها إلى الشر أصلًا، لا تحتاج فيها إلى أن تقاتل، ولا إلى أن تفتح مشكلة معينة، يكفيك أن تعاملها أَو تتعامل معها بطريقة صحيحة وحكيمة.
نكتفي بهذا المقدار.
وَنَسْأَلُ اللَّهَ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أن يُوَفِّقَنَا وَإيَّاكُمْ لمِا يُرضِيهِ عَنَّا، وأَنْ يَرْحَمَ شُهَدَاءَنَا الأَبرَارَ، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسْرَانَا، وَأَنْ يَنصُرنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.
وَالسَّــــلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَــــةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتـــُه.