الحُسَين -عليه السلام- في منازلِ الحب
المسيرة – د. محمد البحيصي*
ليست هناك قيمةٌ للحياة ولا معنى بدون الحب.. وهل الدِّين إلَّا الحب.. وهل الدينُ إلّا الأخلاق، لدرجة أن رسولَ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حَصَرَ وقَصَرَ بعثتَه الكريمةَ، وجعل من الأخلاق روحَ تعاليمه وسلوكه بقوله: “إنّما بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاق”، وحتى خاطبه اللهُ سبحانه بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}القلم:4.
وشتّانَ ما بين من يتشدّق بالأخلاق ولا يعمل بها من قوى الاستكبار وبين مدرسة الإسلام الأصيلة المنبعثة من تعاليم القرآن وتعاليم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين، حَيثُ الأخلاقُ جوهرُ كُـلِّ الرسالات السماوية والأَسَاس الذي قامت عليه رسالة نبيّنا الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) في بعدها الاجتماعي والإنساني.
وبقدر ما كانت نهضة الإمَـام الحُسَين (عليه السلام) نهضةً إصلاحيةً تقويميةً للجماعة المسلمة، فَـإنَّها كانت نهضة أخلاقية أراد من خلالها تجسيد الرسالة وإحلالها في واقع الأُمَّــة بعد حركة التزييف التي تولّى كِبَرَها معاويةُ بن أبي سفيان؛ وبهذا تكونُ نهضةُ الإمَـام الحُسَين (عليه السلام) نهضةً أخلاقيةً ترتكزُ على الحب في الله والبُغض في الله وتلك هي أوثق عرى الإيمان.
وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، وليشخص العاملون، وليشمِّر المتسابقون.. إلى منازل بروح نسيمها تروِّحُ العابدون، واقتاتت قلوب العارفين، وتغذّت أرواحهم، وقرّت عيونهم.. وهي الحياة التي مَن حرمها فهو من جملة الأموات، والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات، والشفاء الذي من أضلّه حلّت بقلبه جميعُ الأسقام، واللّذة التي من حرمها كانت أيّامه كلها آلام.
وهي علامةُ الطائفة المهاجرة إلى ربّها، المسافرة إلى معادها بتجريد التوحيد وقد وقفت على الحقائق واكتفى سواها بالرسوم.
هي المحبة.. روحُ الإيمان والأعمال، والمقامات والأحوال، ما خلا منها جسد إلّا مات، ولولاها لما استطاع القاصدون السالكون الوصول؛ إذ هي حاملة أثقالهم، وغاسلة أوزارهم حتى توصلهم إلى ديار لم يكونوا بدونها أبداً بالغيها، وتبوؤهم من مقاعد الصدق والمقامات العلا لم يكونوا لولاها داخليها..
وهي مطايا القوم التي مسراهم على ظهورِها دوماً إلى الحبيب، وطريقُهم الأقومُ الذي يُعيدُهم إلى منازلهم الأولى.
تاللهِ لقد ذهب أهلُها بشرف الدنيا والآخرة؛ إذ هم من معيّة محبوبهم أوفرُ نصيب، وقد قضى اللهُ يومَ قدّر مقاديرَ الخلائق بحكمته البالغة “أن المرء مع من أحب” فيا لها من نعمة على المحبين سابغة.
بدمِ المُحِبِّ يباعُ وصلُهم فمَن الذي يبتاعُ بالثمن؟
وواللهِ ما هزلت فيستامها المفلسون، ولا كسدت فيبيعُها بالنسيئة المعسرون، لقد أقيمت للعرض في سوق من يزيد، فلم يرضَ لها بثمن دون بذل النفوس، فتأخّر البطّالون، وقام المحبّون ينظرون، أيُّهم أصلحُ أن يكون ثمناً، فدارت السلعة بينهم، ووقعت في يد {… فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ…} المائدة54
لما كَثُرَ أدعياءُ المحبّة، طولبوا بإقامة البيّنة على صحّة الدعوى؛ فلو يعطى الناس بدعواهم لادّعى الخلي حرقة الشجي، فتنوع المدّعون في الشهود، فقيل لا تقبل هذه الدعوى إلّا ببيّنة {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ…} آل عمران31
فتأخّر أكثر الخلق، وثبت أتباع الحبيب في أفعاله وأقواله وأخلاقه، فطولبوا بعدالة البيّنة بتزكية: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ…} فتأخّر أكثرُ المحبين، وقام المجاهدون، فقيل لهم: إنّ نفوس المحبّين وأبناءَهم وأموالَهم ليست لهم فهلمُّوا إلى بيعة: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أنفسهُمْ وَأموالهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ…} التوبة111 وشرط: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأموال اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ…} التوبة24، فانبرى من عرف قدر السلعة، فرأوا من الغبن أن يبيعوها لغيره، فعقدوا معه بيعة الرضوان وقالوا: “هيهات منّا الذلّة.. والله لا نقيلك ولا نستقيلك”.
فلم يمضِ يومُهم حتى كانوا عند سدرة المنتهى لا يحجبهم عن محبوبهم حجاب {… إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ…} فاطر10 فكان الحسين (عليه السلام) هو الكَلِمَ الطيبَ والعملَ الصالحَ.
تعريفُ المحبة:
كُـلّ التعاريف لا تزيد المحبّة إلّا خفاءً.. فتعريفها وجودها، ولا توصف المحبّة بوصف أظهر من “المحبّة”، مثل الألم، ومثل الحزن، ومثل الفرح، ومثل السعادة… كُـلّ تعريفاتها تصغر أمام الشعور بها، وإنّما يتكلّم الناس في أسبابها وموجباتها وعلاماتها وشواهدها، وثمراتها، وأحكامها، فحدودهم ورسومهم دارت على هذه الستّة.. وتنوعت بهم العبارات، وكثرت الإشارات، بحسب إدراك الشخص وحاله، وتمكّنه من العبارة..
وهذه العبارة “المحبة” تدور في اللغة على خمسة أشياء:
- أحدها: الصفاء والبياض. ومنه: قولهم لبياض الأسنان ونضارتها: حبب الأسنان.
- الثاني: العلوُّ والظهورُ. ومنه: حبب الماء، وحبابه؛ وهو ما يعلو عند المطرِ الشديد ومنه حبب الكأس.
- الثالث: اللّزوم والثبات. ومنه: حبّ البعير وأحبّ، إذَا برك ولم يقم.
- الرابع: اللّب. ومنه: حبّة القلب، للُبُّه وداخلُه، ومنه: الحبّةُ لواحدة الحبوب؛ إذ هي أصل الشيء ومادّته وقوامه.
- الخامس: الحفظ والإمساك. ومنه: حِبُّ الماء للوعاء الذي يحفظ فيه ويمسكه، وفيه معنى الثبوت أَيْـضاً.
وهنا نعود إلى مقصودِنا لنرى كُـلَّ ما ذكرناه عن المحبّة في سيّد الشهداء، وسيّد شباب أهل الجنة الإمَـام الحُسَين (عليه السلام)، وكيف كان (عليه السلام) ترجماناً أميناً ومصداقاً واسعَ الطيف وراسخَ الحضور في كُـلّ ميادين المحبّة وساحات اختبارها، والتي توجّـها في العاشر من محرّم يوم اللقاء الأعظم مع الأحبّة.
لقد تحقّق الإمَـامُ الحُسَينُ (عليه السلام) من قوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}، وأنّ محبةَ العبد لربّه فوقَ كُـلّ محبّة ولا نسبة لسائر المَحَابِّ إليها، وأنها حقيقةُ “لا إله إلّا الله”.
ولو بَطُلَت مسألةُ المحبّة لبَطُلَت جميعُ مقامات الإيمان والإحسان، ولتعطّلت منازل السير إلى الله، فَـإنَّها روح كُـلّ مقام ومنزلة كُـلّ عمل، فإنْ خلا منها فهو ميتٌ لا روحَ فيه، ونسبتها إلى الأعمال كنسبة الإخلاص إليها، بل هي حقيقة الإخلاص، بل هي نفس الإسلام، فَـإنَّه الاستسلام بالذلّ والحبّ والطاعة لله، فمن لا محبّة له لا إسلام له البتّة، بل هي حقيقة شهادة أن لا إله إلّا الله، فَـإنَّ “الإله” هو الذي يؤلهه العباد حبّاً وذلّاً، وخوفاً ورجاء، وتعظيماً وطاعة له بمعنى “مألوه” وهو الذي تألهه القلوب؛ أي تحبّه وتُذل له.
والعقولُ تحكُمُ بموجب تقديم محبّة الله على محبّة النفس والأهل والمال والولد، وكل ما سواه، وإنما جاء الرسل (صلوات الله عليهم) بتقرير ما في الفطر والعقول.
وأصل “التأله” التعبُّد، و”التعبّد” آخر مراتب الحب، ويقال: “عبَّده الحب وتيَّمه” إذَا ملكه وذلَّــله لمحبوبه؛ فالمحبّة حقيقة العبودية.
وهل الصبرُ في الحقيقة إلّا صبر المحبّين؟ وكذلك “الزهد” في الحقيقة: هو زهد المحبّين، فَـإنَّهم يزهدون في محبّة ما سوى محبوبهم لمحبته.. وكذلك “الفقر” فَـإنَّه في الحقيقة فقر الأرواح إلى محبوبها، وهو أعلى أنواع الفقر، فَـإنَّه لا فقرَ أتم من فقر القلب إلى من يحبّه، لا سِـيَّـما إذَا وحَّدَه في الحب، ولم يجد منه عوضاً سواه..
وكذلك “الغنى” فهو غنى القلب بحصولِ محبوبه… وهكذا.
حُبُّ الحُسَين (عليه السلام) خيارٌ أم واجب؟
أن تُحِبَّ أَو لا تُحِبُّ، يذهب البعضُ إلى أنها مسألةٌ ذاتيةٌ تَخُصُّ الشخصَ وترتبط بخياراته، أَو حسبما تقتضيه ظروفه ومصالحه تجاه هذا الأمر أَو ذاك، وهذا إنّما يصح في الأمور التي يترك فيها للإنسان أن ينساق وراء عواطفه وغرائزه المرتبطة بنظامه التكويني، وأحياناً يجدُ المرءُ نفسَه محبّاً لأمرٍ أَو لشخص دون أن يعرفَ سبباً محدَّداً لهذا الحب، ويعزى ذلك إلى تعارف الأرواح في مرتبة النشأة الأولى في عالم الذر كما جاء في الحديث: “الأرواح جنودٌ مجنّدة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف”..
وأمّا في النظام التشريعي؛ فالأمر غير ذلك، والله سبحانه وتعالى لم يترك الناس دون أن يضع لهم علامات على طريق حياتهم، ولم يخلِّ بينهم وبين أهوائهم دون أن يقيمَ عليهم الحُجّـةَ البالغةَ؛ ليتحملوا مسؤوليةَ اختيارهم دونما إكراهٍ أَو قهر.
ومن هذه الأمور التشريعية التي بيّنها اللهُ سبحانه وتعالى للناس أمرُ الموالاة والمُعَادَاة أَو الولاء والبراء، والتي يدخُلُ تحتها أمرُ الحُب والبُغض؛ وهو الأمر الذي جعله الله من الأمور الفرقانية التي تكشف عن حقيقة الموقف من أولياء الرحمن وأولياء الشيطان..
قال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} القلم 35-36
{أم حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} الجاثية21 ومن الأعلام التي نصبها الشرع دالّةً على من نحب هو أن الله سبحانه أحبَّ أشياءَ وكره أشياء، وأحب أشخاصًا وكره آخرين.. فمن أحبّه الله وجبت علينا محبّته، ومن أبغضه الله وجب علينا بغضه تماماً، كمن أمرنا الله بطاعته وولايته وجب علينا أن نطيعه ونتولّاه، ومن أمرنا الله بعصيانه ومخالفته وعداوته وجب علينا عصيانُه وعداوتُه وعدمُ طاعتهِ.
وقد ضرب خليلُ الرحمن إبراهيمُ (عليه السلام) المَثَلَ الأعلى في الحبّ لله سبحانه حين حدّد هذا المحبوب وهو في رحلة البرهان لقومه، حَيثُ قال: {لا أُحِبُّ الآفِلِينَ}الأنعام:76 وكل نافد في هذه النشأة لا يستحقُّ كاملَ الحب وأمّا ما كان لله سبحانه فهو الباقي {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ}النحل:96 هذا ما عبّر عنه الإمَـام الحُسَين (عليه السلام) يوم عاشوراء حين قال: “ولقد هوَن عليّ ما نزل بي أنّه بعين الله”، يريد أنّه باقٍ ببقاء الله سبحانه، بل إنّ الخلّة في هذه الدنيا وهي مرتبة من مراتب المحبّة، إن كانت لأجل الدنيا فَـإنَّها تأتي يوم القيامة وتكون سبباً في العداوة لا في المحبّة لقوله تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}الزخرف67.
ولقد أوجب اللهُ سبحانه مودّةَ أهل البيت، وجعل ذلك فرضاً على المسلمين وأجراً لرسالته كما في قوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} الشورى23
أي: لا أطلُبُ منكم أجراً إلّا محبتكم الدائمة والثابتة قرابتي أهل بيتي، وقد أجمع المسلمون على أنّ أهل البيت في الحدّ الأضيق هم: (علي وفاطمة وابناهما).
وقد ورد في حديث رجاله كلهم ثقات عن ابن عبّاس قال: لما نزلت {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} قالوا: يا رسول الله: من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم؟ قال: “علي وفاطمة وابناهما”؛ أي حسن وحسين (عليهم السلام).
وعن جابر بن عبد الله الأنصاري (رضي الله عنه)، قال: جاء أعرابي إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال: يا محمد أعرض عليَّ الإسلامَ. فقال: “تشهدُ أن لا إله إلّا اللهُ وحدَه لا شريك له، وأنّ محمداً عبده ورسوله” قال: تسألني عليه أجراً، قال: “لا، إلّا المودّة في القربى” قال: قرباي أَو قرباك؟ قال: “قرباي” قال: هاتِ أبايعك؛ فعلى من لا يحبّك ويحب قرباك لعنة الله، قال صلى الله عليه وآله وسلم: “آمين”.
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: “وفينا (آلَ حم) إنّه لا يحفظ مودّتنا إلّا كُـلّ مؤمن” ثم قرأ (عليه السلام) {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}..
وعن جرير بن عبد الله البجليّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “من مات على حبِّ آل محمد مات شهيداً.. ألا من مات على حبّ آل محمد مات مؤمناً مستكمل الإيمان…، إلى قوله: أَلَا ومن مات على بغض آل محمد لم يشم رائحة الجنّة”.
وهذا الواجبُ في حب آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم أقرّ به الإمام الشافعي (رحمه الله)، حَيثُ يقول:
يا أهلَ بيتِ رسولِ الله حُبُّكُمُ فرضٌ من الله في القرآنِ أنزلَهُ
كفاكم من عظيمِ القدرِ أنَّكُمُ مَنْ لم يصلِّ عليكم لا صلاةَ لهُ
وحبّ أهل بيت النبوّة إنّما هو مظهر من مظاهر حب الرسول صلى الله عليه وآله والذي هو مظهر لحبِّ الله سبحانه، ولذا فمن كان محبّاً صادقاً لله كان بالتّبع واللزوم محبّاً صادقاً لرسول الله ولأهل بيته، ذلك أن من لوازم حبِّ الله أن تكون محبّاً لمن أحبّه الله، وأولى الناس بهذا هو رسول الله وأهل بيته.
بل إنّ من لوازم حُبِّ المؤمن لنفسه أن يكون محبّاً لله ولرسوله، كيف لا والله وليّ المؤمنين ورسوله أولى بالمؤمنين من أنفسهم {النَّبِيُّ أولى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أنفسهِمْ} الأحزاب6
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “أحبّوا الله لما يغذوكم به من نعمة، وأحبّوني لحبّ الله، وأحبّوا أهل بيتي لحبّي”.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: “مَن أحبَّ عليّاً فقد أحبّني، ومن أبغض عليّاً فقد أبغضني”.
وأخرج الحاكم بسنده إلى أبي هريرة، قال: خرج علينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومعه الحسن والحسين هذا على عاتقه، وهذا على عاتقه، وهو يلثم هذا مرّة وهذا مرّة، حتى انتهى إلينا فقال له رجل: يا رسولَ الله إنك تحبهما، فقال: “نعم، من أحبّهما فقد أحبّني، ومن أبغضهما فقد أبغضني”.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: “اللهم إنّي أحبهما فأحبهما”.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: “هذان ابناي وابنا ابنتي، اللهم إنّي أحبهما فأحبهما، وأحبّ من يحبّهما”.
وبهذا يظهر أن محبّة الحسين (عليه السلام) ليست خياراً من شاء أخذه ومن شاء رفضه ولا إثم عليه بل هي واجب وفريضة ولازمة تستلزم الثبات والدوام عليها كسائر العبادات، وهي لا تقف عند حَــدِّ المودّة والحبّ، بل تتعداه لتجعل منه طريقاً إلى اتباع نهج المحبوب، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} آل عمران31
وهذا ما نستشعره من جهات ثلاث:
- الأولى: من الواضح أنّ المودّة وُضعت هي والرسالة في كفَّتَي الميزان، حَيثُ جعلت المودّة معادِلاً موضوعياً للرسالة وأجراً لها، وهذا أمر عظيم لا نراه بحكم الوجدان يتوقف على إرادَة المحبّة وحدها، وإن كانت مطلوبة لذاتها؛ فالمحبّة المُجَـرّدة لا تكون عدلاً لتبليغ الرسالة، إلّا إذَا كانت كاشفة عن سبيل قويم إلى مرضاة الله تعالى، تتجسّد فيه كُـلّ أهداف وغايات الرسالة.
- الثانية: عندما تكون المودّة والمحبّة طريقاً للاقتدَاء بالمحبوب الذي من خلاله نضع أقدامنا على الصراط المستقيم، فَـإنَّ ذلك يشكّل جزءاً من الدعوة، عندها نكون قد ارتقينا بطلب المودّة إلى مستوى من الهدفية والحكمة بما ينسجم وروح وغاية رسالة السماء.
- الثالثة: جرت العادة بأنّ الإنسان إذَا أحبّ شيئاً أحبّ جميع شؤونه؛ فتراه يتبعها ويتودّدها ويتمناها، ويتخذ ممن أحبّ قُدوة وأسوة، وهذا ما نراه كُـلّ يومٍ في حياتنا.
وفي هذا المعنى يقول القاضي عياض في الفصل الذي عقده في علاقة محبّة النبي صلى الله عليه وآله، قال: “اعْلَمْ أنّ من أحبَّ شيئاً أحبَّ أثرَه وآثرَ موافقته، وإلّا لم يكن صادقاً في حبّه، وكان مدّعياً، فالصادق في حبّ النبي من تظهر علامة ذلك عليه وأولها: الاقتدَاء به واستعمال سنّته، واتباع أقواله وأفعاله، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، والتأدب بآدابه في عسره ويسره، ومنشطه ومكرهه، وشاهد هذا قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} ([1]).
وفي هذا يقول الإمام الصادق (عليه السلام): “ما أحبَّ اللهُ عز وجلّ من عصاه”؛ يعني الحبّ الحقيقي الكامل، ثم تمثّل فقال:
تعصي الإلهَ وأنت تُظهِرُ حُبَّهُ هذا محالٌ في الفعالِ بديعُ
لو كان حبُّكَ صادقاً لأطعته إنّ المُحِبَّ لمَن أحبَّ مطيعُ
وإذا كان ما ذكرناه يشمل أهل البيت فَـإنَّ للحسين (عليه السلام) أوفر نصيب منه، ويكفى هنا أن نذكر قول رسول الله (صلى الله عليه وآله): “حسين منّي وأنا من حسين، أحبّ الله من أحبّ حسيناً”.
كما قال (صلى الله عليه وآله): “فاطمة بضعةٌ منّي يرضيني ما يرضيها، ويؤذيني ما يؤذيها”.
والسِّرُّ كُلُّهُ في هذه المِنيّة التي تعطي للجزء حُكمَ الكل، وما هذه العاطفة التي تسري في قلوب المؤمنين عند ذكر الحسين إلّا مصداقاً لهذه المِنيّة، وهي غير قابلة للانطفاء؛ لأَنَّها من حرارة شعاع قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي سكن فيه الحسين، وما هذه الدموعُ التي تفيضُ من ذكر الحسين إلّا بعضاً من دموع جدّه الأكرم عليه، وما هذا التعلّق بالحسين حتى من غير المؤمنين المسلمين إلّا دليلاً على عالمية الرسالة التي نهض الحسين لإصلاحها من الزّيف والتضليل الذي ألحقه بها المنافقون ومرضى القلوب.
ثورةُ الحسين (عليه السلام) محبّة:
“إني لا أرى الموت إلّا سعادة، والحياة مع الظالمين إلّا برما”
أيّ امتلاء بالمحبّة كان يغمر ذلك الكيان الحسيني، وهو يقف بين الموت والحياة.. وهو الذي لم يمُتْ أصلاً فهو الشهيدُ بل هو سيّد الشهداء السعداء.. وكما قال عبد الرزاق عبد الواحد:
لقد قلتُ للنفس هذا طريـــــــــــــــــــقُك لاقي به الموتَ كي تسلمي
وخُضت وقد ضُفر الموت ضفراً فما فيه للروح من مخــــرم
وما دار حــــــــــولك بل أنت درت على الموت في زردٍ محكم
من الرفض.. والكبرياء العظيمة حتى بصُرت، وحتى عمي
فمسّك من دون قصدٍ فمـــــــــــــات وأبقـــــــــاك نجماً من الأنجم
نعم.. فعاشوراء ليست مدرسةً للكراهية، والحقد والثأر والبغضاء وإثارة الغرائز.. بل هي مدرسة المعاني السامية والقيم النبيلة والمُثل العليا، مدرسة الحب والعشق الإلهي.
وقد أفصح الإمَـام الحُسَين عن حبّه لله سبحانه ولرسوله (صلى الله عليه وآله) وللإسلام وللناس بلسان حاله ولسان مقاله منذ اللحظة الأولى التي رفض فيها بيعة الظالمين، وهو موقِنٌ بأنّ موقفَه هذا سيتركُه وحيداً يجدِّفُ ضد التيار، بعد أن جرف هذا التيار الكثيرين من الصف الأول من الصحابة الذين آثروا سلامة النفس على سلامة الرسالة والأمة، وجرى استيعابهم في مجراه رغبة أَو رهبة، ولم يكن غير الحسين من يقدر على الوقوف في وجه هذا التيار، مجدّدًا بذلك موقف أبيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) يوم الخندق حين جعل رسول الله صلى الله عليه وآله ضربته تعدل عبادة الثقلين، وحين وصفه بالإيمان كلّه الذي خرج للكفر كلّه..
في يوم الخندق اجتمع الإيمان في أمير المؤمنين، وفي مواجهة طغيان وفساد سلطة يزيد اجتمع الإيمان كلّه في الحسين، ومن غير الحسين يستطيع حمل هذا التكليف وهذه الأمانة وهذه الرسالة؟
جاء في أخبار عشيّة الخميس ليلة عاشوراء أنّ الإمَـام الحُسَين (عليه السلام) قال لأخيه أبي الفضل العبّاس: “ارجع إلى القوم فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى الغد وتدفعهم عنّا العشيّة لعلّنا نصلّي لربنا الليلة وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أنّي أحبّ الصلاة وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار”.
وهنا يندهش المرء من موقف الإمام (عليه السلام)، وهو على هذه الحالة التي تنخلع فيها قلوب صناديد الرجال، والقتل أدنى إليه من شراك نعله، وهمّه الأكبر كيف يؤجّل المعركة ليومٍ أَو بعض يوم، لا خوفاً من بارقة السيوف ولا مقارعة الفرسان، ولكن شوقاً إلى ركعات يؤديها بين يدَيْ الله يدعوه ويستغفره ويتلو كتابه… أي قلب هذا الذي كان يسكن ويطمئن في صدر الحسين، وأيّ شوق إلى مناجاة الله وهو سيّد المناجين، وسيّد الخاشعين، وسيّد العارفين، وسيّد العابدين في زمانه.. وأيّة قرّة عين كان الحسين يراها ويعيشها في الصلاة، تماماً كجدّه صلى الله عليه وآله الذي قال: “وجعل قرّة عيني في الصلاة”.. وكأنّه أراد أن يجعل من الصلاة والذكر والاستغفار آخر ما يفعله بين يدي دمائه التي تتهيّأ لتروي أرض كربلاء، ليلقى الله سبحانه، ويلقى جدّه رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويلقى أباه علي (عليه السلام) ويلقى أمّه الزهراء (عليها السلام) ويلقى أخاه حسناً (سلام الله عليه).
ومن مظاهر حبّه لأصحابه وأهل بيته تلك الليلة أنّه جمعَهم وسمح لهم في خطبته أن ينطلقوا جميعاً في رحاب الأرض ويتركوه وحده ليلقى مصيره المحتوم من الشهادة في سبيل الله التي قد وطّن نفسه المقدّسة عليها عسى أن يتمتّعوا بالحياة بعده ببعض العمر، وجاء ردّ القوم يعلنون اختيار الطريق الذي يسلكه، ولا يختارون غير منهجه، فانبروا جميعاً قائلين: لم نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك، لا أرانا الله ذلك.
حبٌّ ووفاء وإيثار، يقابله حبٌّ ووفاء وإيثار كيف لا وأصحاب الحسين هم خير الأصحاب وأوفى الأصحاب وأبر وأوصل أهل بيت.
وزاد على ذلك حين أكّـد الإمَـام الحُسَين (عليه السلام) لأخته الحوراء زينب (عليها السلام) لمّا قالت له في تلك الليلة: أخي هل استعلمت من أصحابك نيّاتهم فإنّي أخشى أن يسلّموك عند الوثبة واصطكاك الأسنّة؟ فبكى الحسين (عليه السلام) وقال لها: “أما والله لقد لهزتهم وبلوتهم وليس فيهم الأشوس والأقعس يستأنسون بالمنيّة دوني استئناس الطفل بلبن أمّه”.
ولقد صدق على هؤلاء المحبّين الصادقين قول الله عز وجل: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} الأحزاب23 وإن كانت الآية قد نزلت في رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله يوم الأحزاب من الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله، والموفّين بعهدهم، إلّا أنّها تجري فيمن بعدهم ممّن كان على شاكلتهم في حبّ الله ورسوله، والإيمان والتضحية والوفاء بالعهد، وقد استشهد الحسين (عليه السلام) بهذه الآية الكريمة في موارد عديدة، ومن الموارد التي استشهد فيها بالآية الكريمة عندما وقف يوم عاشوراء على مصرع مسلم بن عوسجة (رضي الله عنه) وفيه رمق من الحياة فقال له: “رحمك الله يا مسلم” {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ}، فكان أول شهيد لله من أصحاب الحسين (عليه السلام)، وأول من شرى نفسه ابتغاء مرضات الله، بلغ به حبّه للإمَـام الحُسَين (عليه السلام) أن دنا منه حبيب بن مظاهر وهو من أصحاب أبي عبد الله (عليه السلام) وهو في الرمق الأخير فقال له: عزّ عليّ مصرعك يا مسلم، أبشر بالجنّة، فقال له مسلم قولاً ضعيفاً: بشّرك الله بالخير، فقال له حبيب: لولا أعلم أني في أثرك ولاحق بك من ساعتي هذه، لأحببت أن توصي إليّ بكل ما أهمّك حتى أحفظك في كُـلّ ذلك، بما أنت أهل من الدين والقرابة، فقال له مسلم: بل أوصيك بهذا رحمك الله (وأوما بيده إلى الحسين) أن تموت دونه، فقال حبيب له: أفعل وربّ الكعبة” ([2])
ومن هؤلاء المحبين الموفين بالعهد الذين لم يبدّلوا تبديلا الحبيب بن مظاهر (رضوان الله عليه) عندما جاءه موفداً من قبل عمر بن سعد ينصحه ويخذله عن نصرة الحسين (عليه السلام)، فردّ عليه من كلام طويل منه:
“ويلك إذَا كنت وأصحابك أجلافاً لا لدين تركنون، ولا لشيم تركبون، هب أنّا لا دين لنا، ولكن ما تقول الناس إذَا أسلمنا الحسين بن بنت رسول الله، وتلك الأطناب الممدودة على بنات فاطمة وعلى حرائر رسول الله (صلى الله عليه وآله) تتناهب رحالهم، وتهتك خدورهم عتاتكم، ثم سلّ سيفه من غمده وقال: لا وعزّ ديننا إنّ غيرة الإسلام تأبى لي ولأصحابي هؤلاء إلّا أن استبدل عن غمد سيفي رقابكم أَو تقطع عنقي وأعناق فتيان أنا أضعفهم عزماً، ثم قال: ألا وإن القتل مع الحق أقرّ لعيني من الحياة معكم على الباطل، ولا غضاضة أن أمسي المساء ونحن على ربّ كريم وافدون، وأنتم على سقر واردون” وهي ذات عبارة الحسين (عليه السلام): “إنّي لا أرى الموت إلّا سعادة، والحياة مع الظالمين إلّا برما”.
(خاتمة):
إنّ الحسينَ (عليه السلام) وعلى سيرةِ الأنبياء امتلك قلباً محبّاً، اتّسع ليستوعب هذا الوجود، ومن حبّه لهذه الأُمَّــة فقد رفض لها أن تنحدر من موقع الخيرية التي أرادها الله لها، وتتسافل في دركات الانحطاط والظلم والاستبداد الذي ركز لبناته الأولى أُولئك الذين جعلوا من الدنيا والسلطان أكبر همّهم ومبلغ علمهم، وأخذوا معهم خلائق قبلوا الدنيّة في دينهم، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأـنوا بها، وغفلوا عن الله، وعن آياته، وعن وظيفة هذه الرسالة المقّدسة، وعن وظيفتهم الحقيقية في هذه الحياة.
وهذا الحرص الحسيني وهذه الرحمة والمحبّة الحسينية إنما هي فصل من فصول مدرسة محمد صلى الله عليه وآله الأخلاقية، وقبس من نوره {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أنفسكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} التوبة128
ولأجل أن تظلّ هذه الأُمَّــة قُدوة للأمم، وحارسة لآمال المستضعفين، ولأجل بعث الحياة فيها من جديد، وأيّ حبّ أعظم من حبِّ ذلك الذي يفتدي بحياته حياة الأُمَّــة، ويقدّم ولده وماله ونفسه وأصحابه رخيصة في سبيل أن لا يُقال أن هذه الأُمَّــة ركنت إلى الظالمين واستسلمت لأهواء المنحرفين، وسارت على خطى المنافقين..
ولقد عبّر الإمَـام الحُسَين (عليه السلام) عن حبّه العظيم هذا من خلال نهوضه بواجب وتكليف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو السلاح الواجب الذي أراد الظلمة والمستبدون والطغاة تغييبه من الساحة ليخلوا لهم الجو في أداء دور المستكبرين، وانتهاك حرمات الدين والناس؛ لأَنَّ هذه الفريضةَ التي جعلها الله في أيدي المؤمنين تعتبر المبدأ الوحيد الذي يضمن بقاء الإسلام أَو كما يقول الفقهاء هو “العلّة المبقية” التي لا وجود حقيقي للإسلام بدونها، بل ولا حتى أي دور للأُمَّـة بدونها، إذ أنّ تخلّيها عن هذا المبدأ يعني بالضرورة فقدانها لموقع ومرتبة الخيرية بين الأمم {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّـة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ..} آل عمران110 وتغييب هذه الفريضة وهذا المبدأ يعني تصفير عملية التغيير والتجديد في المجتمع، والتنصّل من مسؤولية مواجهة الظلم وكما وصفها أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: “والأمر بالمعروف مصلحة للعوام، والنهي عن المنكر ردعاً للسفهاء”.
إنّ حب الإمَـام الحُسَين لهذه الأُمَّــة ولدورها في الحياة، ولكي تحافظ على هذا الدور دفعه لاتِّخاذ الموقف الكفيل بتحقيق ذلك وإن طال الزمن، وهذه هي رسالة النهضة الحسينية المباركة، فهدف الإمَـام الحُسَين (عليه السلام) من وراء نهضته المقدّسة كان إصلاح هذه الأُمَّــة، والعمل على تغيير واقعها الذي بدأ ينحدر إلى السوء إلى واقع الإسلام المبارك الذي جاء ليخرج الناس من الظلمات إلى النور ومن الفرقة إلى الوحدة، ومن الضعف إلى القوة والاقتدار.
وهكذا مضى أبو عبد الله الحسين (عليه السلام) في يوم عاشوراء إلى حتفه مطمئناً، وراضياً مرضياً، عارفاً بمستقبله المشرق المضيء، وناظراً بيقين للآثار النورانية التي ستستنبتها دماؤه، والتي ستحصدها نهضته، معلناً بداية عصر جديد لحرية الإنسان، والتمرّد والرفض للطاغوت. لذلك فَـإنَّ التأكيد على البعد الأخلاقي في نهضة الإمَـام الحُسَين (عليه السلام) إنّما هو دعوة إلى التمسّك بالإسلام الأول الذي بُعث به محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى العالمين رحمة ومحبة وأخوّة وسلاما، وإحياء ذكرى الثورة الحسينية هو إحياء لروح الأُمَّــة، وهو وسيلة لمعالجة أزماتها، كما أنّه نهج قرآني، فقد أحيا الله تعالى ذكريات الشهداء السابقين لعهد الرسالة، فقال سبحانه: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}آل عمران:146، وهذا الدّور الإحيائي لنهضة الحسين الأخلاقية إنّما هو تجسيد وتفسير واستحضار لقوله تعالى مخاطباً وواصفاً رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم): {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}القلم:4
ومن أولى من الحسين (عليه السلام) بمقام جدّه العظيم الذي قال فيه: “حسين منّي وأنا من حسين، أحبَّ الله من أحبّ حسينا”.
* كاتب وباحث فلسطينيّ
([1]) الشفا بتعريف حقوق المصطفى – القاضي عياض : ج2 ص20
([2]) راجع ترجمة مسلم في (أبصار العين) للسماوي ص61 – وَ (ذخيرة الدارين) ص74 وغيرهما.