الهجرةُ بين الاختيار والاستبشار.. بقلم/ زينب الحسن
عادت بنا ذكرى الهجرة الشريفة إلى ظِلال العطاء الوارف، والفداء الصادق، والبذل السخي، والتضحية الكبيرة، عادت لتذكرنا بالموقف الأصعب لرسول الله، تذكرنا بالهجرة من غربة الوطن، إلى موطن الأمن والأمان الألفة والاطمئنان، تذكرنا بالهجرة من ضيق السعة، إلى رحاب القلوب، تذكرنا بالهجرة من غلظة وفظاظة الأهل، إلى منبع اللين وحنايا المحبين، إلى حَيثُ تسكن الروح، ويأنس الفؤاد، وتطيب المشاعر.
وعادت ذكرى القرار الصعب، قرار الرحيل عن الوطن، بعد أن استفحل الظلم، واشتد الأذى، وتوسع التعذيب، ووصل الكيد ذروته، وبلغ المكر أشده، وازدادت المؤامرات وتعمق القهر، وتطاول المجرمون عليه وعلى أصحابه.
فتعرضوا جميعهم للقهر، فمنهم من تعرض للضرب المبرح الممزوج بألوان الوحشية والعذاب، ومنهم من أُحرق في رمضاء الصحراء، وحمل الصخور على جسده الممزق بالأوجاع، المحروق بلهيب الجرم وقسوته، ومنهم من تكبل بسلاسل القهر والحرمان تحت لسعات السياط، إيغالاً في الإجرام، ومبالغةً في الخبث والطغيان، حَيثُ وقد طغى الجور، وبلغ الصبر والمصابرة كماله وتمامه، ووصل انتظار الفرج ذروته.
أذن الله لرسوله -صلوات الله عليه وآله- بالهجرة في قوله تعالى: ((وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْـمَاكِرِينَ)).
فاختار المدينة كهفاً آمناً يأوي إليها روحه، ومركز يقيم فيها دولته، ومنطلقاً لتبليغ رسالته، وحصناً لحمايته، ودرعاً لمناصرته.
أطلت ذكرى الهجرة النبوية؛ لتروي لنا المعاناة التي واجهها رسول الرحمة -صلوات الله عليه وآله- من قومه، من قريش، وتذكرنا بالجانب الآخر من هجرته، الجانب المشرق من نتائج هذا القرار، جانب الأنصار الأوس والخزرج القبيلتين اليمنيتين؛ لتوضح لنا من هذا الجانب ثمرة وعظمة التوفيق الإلهي، الذي عاد بالخير على رسول الله من جانب، وعلى أنصاره من جانبٍ آخر.
فكان اختياره لهم اصطفاء مقدسًا؛ لحملِ راية الجهاد والدفاع عن رسالة الله ورسوله، وشاهد صدق على صدق إيمانهم وإخلاصهم، اختارهم عن غيرهم فتشربوا هواه تسليماً وطاعةً وحباً، فتسندست يثرب بخُضرة البشرى، وتنفست أنسام اللقاء، وتلونت ببشاشة الفرحة وطيف السعادة، واستقبلوه بترتيل الشوق، ومعزوفة التفاني والفداء، حفاوةً ووداً.
سبقوا الدنيا شرفاً وفضلاً بهذا المقام العظيم، وطاولوا الفرقدين معزةً وفخراً، فسابقتهم قلوبهم لاستضافة سيد المرسلين إخلاصاً وصدقاً، حَيثُ شدو رحالهم إليه قبل وصوله، وبايعوه قبل قومه، فكرموه، وعظموه، وعزروه، ووقروه، فكانت لهم كرامة الإيواء وسام شرفٍ وقدرٍ، وفي تاريخهم أيقونة مجدٍ لا تخفُتُ أبداً.
ونحن اليوم لا زلنا الأنصار، أنصار الحق، أنصار الدين، أنصار الآل والقرآن كأسلافنا تماماً، أسد الوغى، وأُباة الضيم، أولوا قوةٍ وأولوا بأسٍ شديد، كلنا عشاق شهادة وأبطال فداء، وأرق قلوباً وألين أفئدة، لن تتغير مواقفنا بتغير الزمان، ولن يزعزعنا البغي والعدوان، أنصار من أنصار.