الروحُ المعنوية والهدفُ العسكري الذي اتخذهُ الإمامُ الحسين (ع) يوم عاشوراء.. بقلم/ عبدالله الزعكري
في معركة كربلاء اتخذ الإمامُ الحسين -عليه السلام- هدفاً عسكريًّا أراد من خلاله إظهارَ عجز العدوّ ذي الامتيَازات العسكرية الضخمة وكثرة العدد وصنوف الجيش وتشكيلاته، أثناء مواجهته عليه السلام مع مجموعة من الرجال تفوق هذه الجيوش روحاً معنوية وعقيدة قتالية، منطلقًا في هذه الاستراتيجية من القرآن الكريم الذي أسَّس للهدف المعنوي قبل الهدف العسكري، بل جعل القرآن الهدف العسكري نافذة على تحقيق الهدف المعنوي فقال سبحانه وتعالى:
1 – {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ}.
2 – وقوله تعالى:
{مِنْ أجل ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسرائيل أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَو فَسَادٍ فِي الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جميعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جميعاً وَلَقَدْ جَاءَ تْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأرض لَمُسْرِفُونَ}.
ولعل الرجوع إلى القرآن والكتب السماوية وحياة الأنبياء عليهم السلام التي قادت بعض المواجهات بين أتباعها وأعدائها يقدم لنا صورة واضحة عن الهدف المعنوي الذي كان غاية الأنبياء والرسالات.
من هنا: كان التباين واضحًا في مدرسة عاشوراء بين الهدف العسكري والهدف المعنوي الذي سعى لأجل إثباته الإمام الحسين عليه السلام، وذلك من خلال مجموعة من الأسس والخطوات النظرية والعملية، منذ تحَرّكه من مكة متوجّـهاً إلى كربلاء فكتب رسالة إلى أخيه محمد بن علي بن أبي طالب عليه السلام وبني هاشم خَاصَّة دون غيرهم من المسلمين مستناً بذلك بما أمر الله تعالى به رسوله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم عند بدء الدعوة إلى الإسلام، فقال سبحانه مخاطباً نبيه الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}.
ولذا: كان خطاب الإمام الحسين عليه السلام عند خروجه من مكة إلى كربلاء مخصصاً إلى بني هاشم خَاصَّة؛ لأَنَّهم هم المعنيون بالدرجة الأولى في الإنذار والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فكان الكتاب يحمل الهدف المعنوي قبل الهدف العسكري وهو المنهج الذي اعتمده سيد الشهداء -صلوات الله وسلامه عليه- في مسيره إلى العراق.
فعن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام قال: «كتب الحسين بن علي من مكة إلى محمد بن علي: “بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن علي إلى محمد بن علي ومن قبله من بني هاشم، أما بعد: فَــإنَّ من لحق بي استشهد، ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح والسلام”.
ولا شك أن الذين لحقوا به عليه الصلاة والسلام قد استشهدوا جميعاً وهم الوحيدون الذين أدركوا الفتح فبهم تم التأسيس لعقيدة ما تسلح بها أحد من الناس إلاّ وقد فتح عليه النصر؛ فبهذه العقيدة أزيلت طواغيت وقامت دول فضلاً عن كونها ملهماً للأحرار في العالم حينما يقرأون عاشوراء.
وهو ما سنحاول الوقوف عنده وفهمه عبر دراسة الاستراتيجية الحربية لمعركة عاشوراء علنا نستطيع أن نوصل رؤية واضحة للمهتمين بالاستراتيجية البنائية للنفس الإنسانية؛ فضلاً عن الاستراتيجية العسكرية، أَو فلنقل بالمعنى الأعم الاستراتيجية الحربية فما زال الإنسان في صراع مع ذاته وهو بحاجة إلى وضع مجموعة من الاستراتيجيات للوصول إلى الهدف المنشود وهو الانتصار على الذات وهو ما زخرت به عاشوراء منذ أن خرج الإمام الحسين عليه السلام من المدينة إلى اللحظات الأخيرة له على أرض كربلاء، من شعارات في نطاق الحكمة النظرية والحكمة العملية.
كقوله:
- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصلاح بين الناس لقوله: «إنما خرجت لطلب الإصلاح في أُمَّـة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب».
- عدالة القائد لقوله: «ما الإمام إلا العامل بالكتاب، والآخذ بالقسط، والدائن بالحق، والحابس نفسه على ذات الله».
- الخوف من يوم القيامة لقوله: «لا محيصَ عن يوم خط بالقلم».
- حب الاستشهاد لقوله: «إلا من كان فينا باذلاً مهجتَه موطناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا».
- الإيمَـان بقضاء الله مادام على الحق لقوله: «إن حال القضاء دون الرجاء فلم يعتد من كان الحق نيته والتقوى سريرته».
- الرجاء في الخير لقوله: «أما والله إني لأرجو أن يكون خيراً ما أراد الله بنا قتلنا أم ظفرنا».
- معرفة الرجال عند الشدائد لقوله: «الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درت معايشهم، فإذا محصوا بالبلاء، قلّ الديانون».
- ضرورة جهاد الظالمين لقوله: «فَــإنَّي لا أرى الموتَ إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما».
- عدم المداهنة للفاسدين لقوله: «لا أفلح قوم اشتروا مرضاة المخلوق بسخط الخالق».
- رفض الخنوع والفرار عند مجابهة الظالمين لقوله: «لا والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفر فرار العبيد».
- رفض الذل والخضوع للمستكبرين؛ لأَنَّ الذل والعار لا يرضى به الله ولا رسوله ولا المؤمنون ولا أي حر في أي زمن يرضى بالذل والهوان لقوله: «هيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت وأنوف حمية ونفوس أبية في أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام».
- الحرية لا يجب التنازل عنها لقوله: «كونوا أحراراً في دنياكم».
وغيرها الكثير من المبادئ والأسس مما روي عنه عليه السلام في يوم عاشوراء وقبله فهذه الأسس في الاستراتيجية البنائية للنفس البشرية وغيرها مما نطقت به الألسن والأيدي في كربلاء لكثيرة جِـدًّا وكلها جديرة بالتأمل والدراسة والبحث إلا أننا سنحاول الوقوف عند كثير منها علنا نوفق في الوصول إلى حضارة الحياة وتجنيد الفكر قبل تفكير الجند في الحسم العسكري وهذا أرقى أساليب مواجهة العدوّ بالقلة مقابل الكثرة.
إن الأسس في نظرية الهدف العسكري تكاد تكون موحدة عند معظم القادة العسكرين الذين يطمحون للحسم العسكري في حروبهم مستفيدين من المعركة بكونها الوسيلة التي تحقّق الهدف العسكري.
وهو ما نطقت به صنوف جيش عُمَرَ بن سعد في كربلاء فقد كانت الكثرة العددية وصفوف الجيش وتنوع العدة القتالية والإصرار على قتل جميع أفراد الخصم وإن كانوا قلة قليلة هو الهدف الأوحد لدى خصوم الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء.
وفي المقابل لم يكن الإمام الحسين -عليه السلام- في غفلة عن هذه التوجّـهات والطموحات في تحقيق الهدف العسكري الذي يسعى إليه عدوه، لذا: عزم على وضع استراتيجية معقدة على المستوى العسكري في ذراعَي المعركة؛ أي الهجوم والدفاع، وتكبيد العدوّ خسائر عظيمة فضلاً عن تأسيسه لمنظومة استراتيجية (هجومية دفاعية) لكل من أراد أن ينهل من علوم مدرسة كربلاء ويوم عاشوراء.
وفي الأخير نسأل من الله أن يجعل من هذا فائدة للإخوة العسكريين في تطبيق هذه المبادئ السامية، والعاقبة للمتقين.