البُعدُ الأخلاقي في زمن ما بعد الحداثة.. بقلم/ عبدالرحمن مراد
لا يظن ظانٌّ أن المسلمين بمنأىً عن حركة التفاعلات التي تحدث في العالم المحيط حولنا، فالغرب يمثل اليوم الثقافة الغالبة بما وصل إليه من مستوى حضاري وتقني ومن سيطرة على الشركات الكبرى التي تعمل على التحكم بالموجهات العامة للمجتمع الإنساني؛ فالعالم من حولنا أضحى قرية صغيرة تتحكم بموجهاته الأجهزة الاستخبارية العالمية وبما يخدم مصالحها في الكرة الأرضية، على اعتبار أن النظام العالمي الرأسمالي الذي تفرد بحكم العالم بعد انهيار المنظومة الشرقية عام 1990م هو من يرسم الخطوط العريضة للموجهات العامة، وهو اليوم يعيد صوغ نظم جديدة تتسق مع زمن ما بعد الحداثة.
وزمن ما بعد الحداثة في المفهوم الغربي “هو حركة فكرية واسعة نشأت في النصف الثاني من القرن العشرين كردة فعل على ادِّعاءات المعرفة القديمة المنتهية والمرتبطة بحداثة عصر النهضة ولإنهاء الافتراضات المزعوم وجودها في الأفكار الفلسفية الحداثية المتعلقة بالأفكار والثقافة والهُــوِيَّة والتاريخ، وتحطيم السرديات الكبرى وأحادية الوجود واليقين المعرفي وتبحث في أهميّة علاقات القوة، والشخصنة أَو إضفاء الطابع الشخصي، والخطاب داخل بُنية الحقيقة والرؤى الشمولية، وينطلق العديد من مفكري ما بعد الحداثة من إنكار وجود واقع موضوعي ومن إنكار وجود قيم أخلاقية موضوعية، والتشكيك في السرديات الكبرى والبحث عن خيارات جديدة وتشمل الأهداف المشتركة لنقد ما بعد الحداثة الأفكار العالمية للواقع الموضوعي والأخلاق والحقيقة والطبيعة البشرية والعقل والعلم واللغة والتقدم الاجتماعي، وفقًا لذلك، يتميز الفكر ما بعد الحداثي على نطاق واسع بالميل إلى الوعي الذاتي، والإحالة الذاتية، والنسبية المعرفية والأخلاقية، والتعددية، وعدم الاحترام.
ونحن اليوم نتعامل مع هذا التوجّـه الفلسفي والفكري ولا بُـدَّ لنا من الوعي به، ومعرفة أبعاده وأنساقه حتى نتمكّن من السيطرة على قيم المجتمع العربي المسلم من الانهيار والتفسخ القيمي، وعلينا أن ندرك أن التقدم المُستمرّ للعلوم والتقنيات، وثورة التكنولوجيا -التي نصحو كُـلّ يوم على جديد في عالمها- قد أدخل إلى الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية عوامل جديدة للتغير والتبدل من طور إلى طور، مما ساهم في انهيار المعايير والقيم الثقافية والأخلاقية للمجتمعات، فنحن نعيش عصر العولمة وذوبان الثقافات والهُــوِيَّات في بوتقة واحدة، وهذا الانهيار يخدم في نهاية المطاف مصالح النظام الرأسمالي، حَيثُ تحدّد الحرية الفردية القدرة ونمط المصالح المتبادلة، وفي ظل هذه الصيرورة الاجتماعية بمختلف اتّجاهاتها تحدّد السياق العام “لمفهوم الحداثة بوصفه ممارسة اجتماعية ونمطاً من الحياة يقوم على أَسَاسي التغيير والابتكار.
ومن الملاحظ أن الحداثة في التجربة العربية لا تحيد عن طابع التقليد والمحاكاة الجوفاء لمظاهر التمدن الغربي ونماذجه الثقافية والحضارية، فالعرب أتباع كُـلّ ناعق لا يبتكرون واقعاً حضارياً يشير إلى وجودهم وهُــوِيَّتهم ولكنهم يصرون على تمثل التجارب الغربية، وفي الغالب فالثقافة الغالبة أَو ثقافة الأقوياء تفرض وجودها على وعي المجتمعات، وهذا أمر من المسلَّمات التي لا جدال فيها فهي متواترة في النسق الاجتماعي والثقافي التاريخي.
وغالبًا ما يظهر أن هذه النماذج الحضارية تتعارض مع النسق الحضاري العربي في أصوله وتجلياته الذاتية، وهذا يعني أن استجلاب مظاهر الحداثة من الغرب قد يؤدي إلى مزيد من الضياع والاحتضار، وقد يعني ذلك -وهذه هي الحالة على الأغلب في عالمنا العربي- تعايش منظومتين اجتماعيتين متنافرتين في آنٍ واحد هما: مجتمع تقليدي يمارس حياته وفق معايير وقيم تقليدية، ومجتمع حداثي يعيش وفق أحدث المعايير العصرية دون أن يتمثل روح هذه المعايير ويتشرب من تدفقاتها الذاتية، ووفقاً لهذا التصور فَــإنَّ التحديث العربي في التاريخ المعاصر يأخذ صورة متناقضة مع الحداثة الحقيقة.
وهذا يعني بأننا نعيش قشور المدنية وأن الروح الحقيقية للمجتمع المدني لم تستطع أن تأخذ مكانها في بنية الحياة الاجتماعية والروحية في المجتمع العربي.
فنحن نعيش على قشور المدنية وتتأصل فينا البداوة الشرسة التي تغيب معها القيم الإنسانية الأصيلة التي تضع الإنسان في صدارة غاياتها، رغم أن الغاية الكبرى للإسلام هي القيم والبنية الأخلاقية التي تعمل على ترتيب نسق الحياة وبما يتسق مع مضامين الرسالة المحمدية وغايتها المثلى.
مشكلتنا اليوم أننا وقعنا في عمق الأزمات المعقدة، ولم نستطع حَـلّ قضايا حقيقية ومعقدة ومتكاملة ومرتبطة ببعضها مثل الحداثة وفكرة الحرية وفكرة الاستقلال، وفكرة تطوير المجتمع، وتحديث قانون حركة التغيير في الطبيعة والمجتمع.
فلا يمكن اختزال حركة الثقافة في المجتمعات إلى “نمطية مماثلة” كونها ليست جامدة أَو ميكانيكية، وبالتالي فالتيار النظري والمنهجي الذي يعتمد مقاربة ثقافية دينامية، ينظر إلى الفرد بوصفه فاعلًا اجتماعيًا، يؤثر ويتأثر، وينفعل ويتفاعل، في بيئة اجتماعية وثقافية محدّدة، لتصبح التشكيلات الاجتماعية، كخيارات الولاء والانتماء، معطًى يشارك الأفراد في تكوينه.
ومع هذا التصور الدينامي للثقافة، تكون الهُــوِيَّة بحد ذاتها كجدل إنساني واجتماعي، وتكون في ضوء هذه المقاربة صيرورةً تكوّن نسقًا ذا معنى عند الفرد الذي يتفاعل مع آخرين، بالوقت نفسه الذي يتفاعل فيه مع النسق الرمزي بشقيه الموروث والسائد، حَيثُ يتطورون معًا.
ومثل ذلك من القضايا التي يجب الوقوف أمامها وإعادة تعريفها وبما يحفظ مضمون الرسالة القيمي والأخلاقي في زمن ما بعد الحداثة الذي ينذرنا بانهيار قيمي وانحطاط اجتماعي ومؤشرات الواقع في توجّـهات النظام الدولي معلنة اليوم وهي جزء من حربه معنا وإن لم نستنفر طاقاتنا الفكرية والفلسفية والثقافية وبما يخدم مشروعنا الإسلامي فَــإنَّنا سوف نصبح لعبة في يد مصالحه.