السلامُ الأمريكي دينامو الدفع نحو خيارات صنعاء الضاغطة.. بقلم/ محمد عبدالحميد الزبيدي
بعيدًا عن السلام بمفهومه العام المتعارَف عليه عالميًّا، هناك ما يُعرف بـ “السلام الأمريكي” أَو “السلام على الطريقة الأمريكية”؛ وهو تعبيرٌ عن حالة شذوذ سياسي -إن صَحَّتِ العبارة- تقومُ به أمريكا دوناً عن العالم كله، وهو تفرُّدٌ تُبدِيه أمريكا في طرحِها وفرضِها للسلام بمقاييسها الخَاصَّة وبطريقتها المعبِّرة عن سلام يخلو من أية روح للسلام بحقيقته المعهودة والمعبِّرة عن حالة سكون واستقرار وأمن وأمان.
أمريكا -بنزعتها العدوانية والاستعلائية الاستعمارية- لا ترى في السلام الحقيقي غيرَ صورة مخيفة تنسفُ كُـلَّ أحلامها وتوجّـهاتها وتحطم مشاريعها؛ وهي لأجل ذلك تتعامل مع السلام كوسيلة وأدَاة لاستكمال الرؤية والمشروع الذي تتحَرّك فيه، وبلا شك هو مشروعٌ نقيضٌ تماماً عن فكرة السلام بمفهومه الحقيقي.
من هنا جاء مفهومُ السلام الأمريكي كتعبيرٍ عن مصطلح منفصلٍ ومعزولٍ عن مصطلح السلام بمعناه الحقيقي، هذا التجلي الواضحُ في مفهوم السلام الأمريكي يمكِّنُنا من استيعابِ كيف تفكِّرُ أمريكا تجاه السلام؟ ودعواتها للسلام وعن أي سلام تتكلم، ونعي تماماً توجُّـهاتِها وماهيةَ سياساتها تجاه موضوع ما ومِلَفِّ ما كمِلَفِّ اليمن مثلًا.
هنا لنا أن نتصوَّرَ المشهدَ في اليمن والذي تحكمُه عقليةُ القابع في البيت الأبيض، والذي جاء بعدوانه حاملًا جُملةً من الأهداف الاستراتيجية يتصدَّرُها عنوانٌ أَسَاسيٌّ يتمثَّلُ في الهيمنة الشاملة والاحتلال لهذا البلد، وبات الحديث عن طرف سعوديّ فاعل ومؤثر في المشهد التفاوضي ضربًا من الخبل؛ لسبب جوهري هو استحالةُ انفكاكه عن الهيمنة والخنوع للأمريكي، وبالتالي واختصارًا للمسافات بِتنا أمامَ فاعلٍ أَسَاسي في المشهد السياسي والعسكري وهو الأمريكي، والذي كما يبدو لي بات في مرحلةِ الظهور في المواجهة وتجاوز مرحلة التخفّي، واتخذ قرارَه في خلع كُـلِّ القفازات.
كُلُّ حالاتِ المَدِّ والجزر والأخذ والرد فيما يخُصُّ الهُدنة الهُلامية، إذَا ما أخذنا سلوكَ وأداءَ طرف العدوان معها، كُـلُّ تلك الحالات لا تعدو عن محطاتٍ لشراء الوقت، وفق رغبة وإرادَة أمريكية تتداخلُ فيها جُملةُ تحديات تواجهُ الأمريكي بالإطار الدولي، وانعكست على توجُّـهاتِه تجاه اليمن بمزيدٍ من الإصرارِ في السيطرة والهيمنة على هذا البلد.
أمريكا تدركُ تماماً مدى ما وصلت له صنعاءُ من قدراتٍ خَاصَّةٍ على صعيد أسلحة الردع، ولعلَّ أهمَّ من تلك الأسلحة وهو أكثر ما تخشاه واشنطن هو سلاحُ القرار السيادي الوطني والجُرأةُ والتحدي في المواجهة، وهذا عينُ ما تملِكُ صنعاءُ وتعبِّرُ عنه في كُـلّ محطاتِ المواجهة والتصدي.
وأمامَ مشهدٍ في خلاصاته تعبيرٌ عن طرفَينِ أَسَاسيَّين، هما:
الطرفُ الأمريكي كرأسِ حَربة في العدوان يأتي للمشهد حاملًا رؤيةً واحدةً يقدِّمُها بعدةِ أُطُرٍ، ويغلِّفُها بأكثرَ من غلاف، لكنها تظل في عمقها وكينونتها رؤيةً واحدةً؛ هي رؤية عدوانية شيطانية تنطلقُ من حالة استعمارية احتلاليةٍ، هدفُها الجوهري والأَسَاسُ هو الهيمنةُ والسيطرةُ الشاملةُ والكاملة.
وطرفٌ آخرُ هو اليمنُ بثلاثيته “القائد والشعب والجيش”، وينطلقون برؤىً مبعثُها الصدقُ والواقعيةُ والقوةُ والثبات، وبتعبير مختصَر، مسالمون في السلم ومحاربون أشداء في الحرب، وهدفُهم استقلالي تحرُّري يناقِضُ التوجُّـهَ الأمريكي تماماً.
ما لا بدَّ من قوله: إن القيادةَ الثوريةَ في صنعاء ليست تعبيراً عن حالة اعتيادية في سُلَّمِ القادة الثوريين، بل هي استثناء يعبر عن حالة نادرة جامعة لكل ما يقدم تفسيرات وإجابات عن كُـلّ الأسئلة التي قد تدور في أذهاننا، من شاكلة لماذا هذا الصبر الطويل على تطاولهم وألاعيبهم؟ وما الحكمةُ من التعامل مع هكذا هدنة؟ وكيف نفهم كُـلّ هذا الكم من التهديدات والتحذيرات البعيدة عن الإطار العملي حتى الآن على الأقل؟
ليس صعباً أن نفهمَ السلامَ الذي يريده الأمريكي؛ فلمُجَـرّد المفارقة بين قول الأمريكي وسلوكه ندرك فحوى السلام الذي يقصده، وهذا واضح جِـدًّا في اليمن، ففي الوقت الذي ينادي فيه بالسلام ويعلن عن حرصه على السلام، هو في ذات الوقت يحشد عسكريًّا في البحر وفي المناطق المحتلّة، ويحرك أدواته الإقليمية بمزيد من التسعير للمناطق المحتلّة وإثارة المزيد من الفوضى وإغراق تلك المحافظات بكل أشكال الموت والدمار.
الأمريكيُّ بسلامه المزعوم والهُلامي يضعُ صنعاءَ أمامَ خياراتها الضاغطة؛ وهو بهذا السلام يفرضُ على صنعاءَ الذهابَ نحو خيارات تضعُ السلامَ على السكة الصحيحة؛ وهو من يرى في السلام الحقيقي خطراً، وفي الجهود الساعية لتحقيق السلام العادل جهوداً عدائيةً له تهدّد مصالحه، كُـلُّ هذا يصوِّبُ النظرةَ لدينا، ويخفِّفُ علينا جهدَ الفهم للمشهد والتحليل للأحداث، أضف إلى ذلك أنه امتدادٌ يتناغمُ كليًّا مع تسليمنا بأحد أهمِّ الحتميات وهي حتمية الصراع، بما يعنيه أننا أمام مرحلةٍ هي مرحلة تصعيد، وعودةٌ للخيار العسكري، وهي مرحلةُ استكمال حتمية للتحرير الشامل والكامل.