عن صناعةِ المعرفة وتنظيمها.. بقلم/ عبدالرحمن مراد
المعرفة مفتاح الصناعة لأي مستوى حضاري يريد الإنسان بلوغه في وقتنا الحاضر، لذلك يحرص النظام الدولي على تسطيح الوعي من خلال مجموعة من التطبيقات، جعل منها بدائل للمعرفة أَو حالة قادرة على السيطرة على الوعي الجمعي، وقد تقوم بوظائف الفنون من التكثيف والخروج من الجزئيات إلى الكليات ومن الفرديات إلى الشعور بعمق التجارب من خلال مشاركة الآخرين حيواتهم وتجاربهم، ونحن نرى اليوم سيطرة التطبيقات على وعي الناس إلى درجة أن تقيل في ديوان فتشعر بالصمت المريب وانكفاء كُـلّ فرد على هاتفه دون الشعور بأحد من حوله، وتلك ظاهرة غريبة جاءت على كتف الكتاب الذي أصبح مهجوراً بعد أن كان يشكل مادة للتثاقف في الكثير من المقايل.
لقد مال الإنسان العربي إلى الكسل والتراخي وأصبح يتقبل كُـلّ شيء جاهزاً دون فحص وقراءة وتمحيص وبحث ودراسة، فالخوف من الآخر ليس مبرّراً كافياً حتى تضع القيود والمحاذير، بل أرى ذلك تبريراً للعجز الذي نحن عليه في صناعة واقع جديد أَو صناعة مستوى حضاري يليق بالعرب والمسلمين، في عالم يتكالب عليهم ويصر على الحد من قدراتهم ووضعهم في قائمة القوى التي تهدّد الحضارة المعاصرة التي وصل إليها الإنسان المعاصر.
فكل الظواهر التي نلحظ اليوم -وهي خارج النظام العام والطبيعي للمجتمع- دالة على اشتغال الأعداء في بناءات المجتمع، وفي أسسه العامة، وفي قيمه ومبادئه وعلائقه وروابطه، وهو اشتغال دال على استراتيجيات واضحة المعالم تضع المقدمات وهي تعرف النتائج منها، ولذلك فعدم اليقظة تجاه هذا الاشتغال يجعلنا في دائرة التيه والضياع، وقد يجد العدوّ من خلال الشقوق ومساحات الفراغ التي يحدثها في البناءات بيئة ملائمة للاشتغال، قد تبدو ضيقة في بدايتها لكنها مع الوقت تتسع حتى يتعذر على الراقع الرتق، ونحن في سياق معركة عدونا فيها ليس واحداً بل أكثر من واحد وأكثر من توجّـه وأكثر مما نتصور، ولذلك فالمستويات كلها ذات مقاصد وغايات وتوجّـهات متعددة، وذات مصالح متناغمة ومتقاطعة، كما أن تدفق المال في ظل حالة الفقر والعوز التي عليها شعبنا قد تجعل المهام صعبة، فالفقر مطية كُـلّ المصائب التي تحدث في المجتمعات؛ ولذلك يتركز الخطاب الإعلامي للعدو على هذه الزاوية -أي زاوية الفقر– ويشتغل على فكرة منع المساعدات الإنسانية، وبين ثنايا التناولات تحريض واضح ضد صنعاء وسلطاتها، وتكريس مثل هذا الخطاب واضح الدلالة والأثر لمن ألقى السمع أَو كان بصيراً.
ولا يبدو أن التحالف صادق النوايا تجاه الهدنة التي أعلنت واستمرت دون أن يتم الاتّفاق على تجديدها أَو التمديد لها، فكل المؤشرات تقول إن التحالف يحاول الاستفادة من الوقت للقيام ببعض المهام والترتيبات داخل المجتمع اليمني، ولعل مؤشرات الواقع الاجتماعي الوطني بدأ يفرز ظواهر اجتماعية لم تكن معهودة وهي تصب في تفكيك النظام العام والطبيعي الذي كان سائداً في المجتمع، ومن خلال حالة التفكيك مع شيوع الفقر والعوز قد يصل إلى حالة الانقسام التي ظل يعمل عليها طوال سنوات عدوانه، فكل الظواهر التي تبرز اليوم على سطح التداول ليست عفوية مطلقاً ولكنها تشبه تلك الظواهر التي بدأت بمن صب على نفسه الزيت وأحرقها، ثم توالت حوادث سفك الدم إلى درجة اليقين أن انتصار الثورات الاجتماعية لا يتحقّق إلا بكثرة سفك الدماء، ومثل ذلك مدخل عقائدي يهودي يرى أن الدماء التي تراق هي من تسرع بخروج المخلص الذي يحكم بين النيل والفرات وفق بعض مرجعياتهم الثقافية.
فالقوة اليوم ذات أبعاد متعددة، وتكمن في قوة الوعي، والفكر، والطريق، والمنهج، والمشروع السياسي والثقافي والاجتماعي الواضح المعالم، وفي القوة الاقتصادية، فالمرء كلما كان مكتفياً ومصنعاً وغير معتمد على سواه كلما شعر بالقوة، يؤازر ذلك العقيدة العسكرية، والهُــوِيَّة الوطنية القادرة على الصمود أمام العواصف والأنواء، وبمثل ذلك تصبح المعادلة ذات قيمة في البناء الدولي، فصاحب الحاجة مستعبد، والسيد من ملك قرار نفسه، وحقّق لشعبه كُـلّ متطلبات العيش الكريم.
وعلينا أن نعي أن الجيل الجديد الذي نشأ في زمن الاضطرابات والحروب والقلاقل في المنطقة غادر مربع المعتقدات وأصبح يشك في كُـلّ شيء، وكاد الكثير منهم أن يصل إلى مراحل الكفر الصريح، فالنماذج التي أمامه، نماذج غير سوية، ولا يرى مثالاً إلا في الغرب الذي يحترم إنسانية الإنسان، ويسعى إلى تحقيق طرق ووسائل الرفاه بغض النظر عن معتقده وقناعاته الفكرية والثقافية، وقد أضحى الجيل الجديد ضحية لكل المستويات الأخلاقية والثقافية النشاز في واقعنا، مع سيطرة وسائل التواصل الاجتماعي على مفردات وعيه وترميزها للنماذج غير السوية أخلاقاً وفكراً وثقافة وهذا أمر يجب معالجته.
لذلك نقول إننا اليوم مطالبون بالقيام بثورة ثقافية وأخلاقية واعية ذات بصيرة وقدرة على صياغة واقع جديد، وهذه الثورة لا تعني الجمود والثبات بل تعني مناقشة الظواهر والقراءة والنقد والتفكيك وصناعة البدائل القادرة على الثبات، ما لم تحدث الثورة الثقافية والأخلاقية فَــإنَّنا سائرون إلى مصائر الفناء والموت والضياع والتيه، فالأمة اليوم على وجه العموم واليمن على وجه الخصوص على مفترق الطرق.