ثورتُنا مُستمرّة
جميل المقرمي
من رَحِمِ المعاناة ومن واقع الحاجة المُلِحَّة، وُلِدَت ثورةُ الحادي والعشرين من سبتمبر بعد أن كادت العواصفُ تعصِفُ باليمن نحو هوة سحيقة لا يدرك قعرها.
التآمر والوصاية التي لم تستثنِ شيئاً والتي جعلت من اليمن أشبه بفناء خلفي تلقي فيه مخلفاتها، ولم تتعامل معه حتى كحديقة خلفية فجعلت منه ساحة لتصفية الحسابات بعد أن جمعت إليه كُـلّ شذاذ الآفاق من القاعدة وداعش وأخواتها، وأصبحت تصول وتجول في مختلف المديريات والمحافظات دون رقيب أَو حسيب.
بل وصل الحال إلى حَــدّ كانت فيه تلك العصابات تتبوأ في أهم مفاصل الدولة، حَيثُ تشاء سواءً على الأجهزة الأمنية أَو العسكرية بعد أن هيئت الساحة لها، وقد شاهدنا آثار ذلك في العرض العسكري في السبعين ومستشفى العرضي في وزارة الدفاع وغيرها من الجرائم التي كانت تحظى برعاية أمريكية ودعم سعودي.
ورغم أن هذا الأمر ظهر في صيف عام 1994م وما بعدها حين تم استقدام ما كان يسمى آنذاك “بالمتطوعين للجهاد” في الشيشان وأفغانستان واستيعابهم ضمن قوات الجيش والأمن إلَّا أن هذه الحالة تفاقمت عقب ثورة الحادي عشر من فبراير، حَيثُ كانت الساحة تشهد انقسامات كبيرة سواءً في الأجهزة الأمنية أَو العسكرية؛ ما جعلها بيئة خصبة لتوسع هذه الجماعات التي بدأت تكثّـف نشاطها، خُصُوصاً في العاصمة صنعاء بعد أن عطل الدستور، وتم تفعيل المبادرة الخليجية والتي حدّدت ألا تتم عملية التغيير لأبسط مسؤول إلَّا بعد الرجوع لهذه الاتّفاقية وتوافق الأطراف المتنازعة والتوقيع عليها من قبل كُـلّ الأحزاب والمكونات والشخصيات الاجتماعية والأمنية والعسكرية ما عدا أنصار الله بالطبع، وذلك يعزى لكونهم الأكثر إدراكًا واستبصارًا لحجم المؤامرة التي تحيط بالبلد والأمة ككل ضمن القاعدة الإلهية التي ينظرون من خلالها إلى الأمور من منظور قرآني عين على القرآن وعين على الأحداث، مستمدين ذَلك من المشروع القرآني الذي خلفه الشهيد القائد حسين بن بدرالدين الحوثي، في ملزمة خطر دخول أمريكا اليمن في العام ٢٠٠٢م التي كان يعتبرها البعض أنها نسج من الخيال، وليس انتهاء بتوقيع وثيقة رفض التدخلات الأمريكية، وهو ما ضاعف من حالة الوعي لدى المجتمع الذي أصبح يدرك أكثر من أي وقت مضى، أنه لا بدَّ من التدخل العاجل لاستئصال هذا السرطان الخبيث الذي أصبح ينتشر كالنار في الهشيم.
من جهة أُخرى فَــإنَّ تلك المسرحيات الهزيلة التي أعقبت الثورة سواءً من حَيثُ منح الحصانة للقتلة والمجرمين أَو الانقلاب على الديمقراطية التي قدّمت نموذجاً سيئًا، ربما لأول مرة أن يتم انتخاب مرشح وحيد ينافس نفسه، في معركة أطلق عليها الديمقراطية والشرعية والغرض منها شرعنة العدوان، وكلّ ما يحصل من جرائم وانتهاكات ونهب للثروة وانتهاك للسيادة، بالإضافة إلى القفز على أهم نقطتين أَو محورين من محاور الحوار الوطني والالتفاف عليهم، وهما: قضية صعدة والقضية الجنوبية بالإضافة إلى ممارسة عملية الاغتيالات والإرهاب الفكري، قدم فيها الأنصار كوكبة من خيار رجالته الفكرية أمثال الخيواني والدكتور شرف الدين وجدبان، هنا كان لا بُـدَّ من التحَرّك لإنقاذ ما تبقى من الوطن بواسطة هذا المكون الوحيد الذي لم يكن طرفاً في هذه المبادرة الخليجية ولا مشاركاً في الانتخابات الهزيلة، فالتف حوله الكثير من العلماء والسياسيين والمثاقفين من مختلف أطياف الشعب والانضمام إلى هذه الثورة التي لم تأتِ مغلفة من الخارج كما يحصل كُـلّ مرة.
ولأنها ثورة خالصة بقيادة قائدٍ حكيم لم تكن انتقامية ولم تمارس أي شكل من أشكال الانتقام، بل دعت جميع أبناء الشعب إلى الالتفاف والتوحد ونبذ الفرقة والحفاظ على الوطن وأطلقت وثيقة السلم والشراكة، والتي لاقت ترحيبًا كبيرًا لدى مختلف الأحزاب اليمنية وتم التوقيع عليها، إلَّا أن هذا الأمر لم يقبل به من كانوا يعتبرون أن هذا يعتبر خروجاً لليمن من تحت العباءة، فشنوا عدوانَهم الظالم الخاسر ودمّـروا كُـلّ البنى التحتية وسيطروا على كُـلّ الموارد على أمل تطويعه وكسر إرادته، إلَّا أن ذلك قوبل بصمود شعبي ومجتمعي التحم فيه الأحرار في مختلف الميادين من جيش ولجان شعبيّة أمام هذا التجبر الطغياني ووقع ما كانوا منه على مدى عقودٍ يحذّرون.
وبرغم حجم آلة الحرب والحصار إلَّا أنهم استطاعوا من واقع الصبر والمعاناة أن يبنوا ترسانة عسكرية يضرب الأعداء لها اليوم ألف حساب وحقّقوا إنجازات هي أشبه بالمعجزات، داخلياً تقلصت نسبة الجرائم إلى حَــدٍّ كَبير جِـدًّا، استتب الأمن في مختلف المناطق التي يسيطرون عليها، ويعلم الجميع أننا لم تعرف الأمن والاستقرار مثلما الحالة عليه اليوم، وأصبح ذلك مضربَ المثل، على المستوى الاقتصادي اتسعت رقعة المساحات الزراعية بشكل متسارع نحو الاكتفاء وبدأت خطوط الإنتاج الصناعي بالظهور بشكل ملفت في كُـلّ القطاعات المدنية وزاد مستوى الالتحام والاصطفاف الشعبي والمجتمعي خلف مؤسّسات الدولة، وتفعلت حدود وفروض كانت تشكو التعطيل لعقود خلت، فرأينا ورأى العالم الأعراس والمبادرات الجماعية التي شكلت سابقة بين شعوب العالمين، وبالطبع فَــإنَّ الأيّام القادمة حبلى بالمفاجآت والإنجازات رغم العدوان والحصار.
والله مع المحسنين..