عرضُ العيد الـ9 لثورة الـ21 من سبتمبر: اليمنُ القوي
المسيرة | ضرار الطيب:
تصدَّرتِ الذكرى التاسعةُ لثورة الحادي والعشرين من سبتمبر المجيدة، والتي وافقت يومَ الخميس المنصرم، واجهةَ المشهد اليمني، مختزلةً كُـلَّ تفاصيله؛ إذ مثَّلت محطةً تاريخيةً مرجعيةً وأَسَاسيةً؛ لفهم وتقييم وتحليل الوضع الراهن والمستقبلي والماضي، بما تضمنته من عرضٍ عسكري هو الأكبرُ في تاريخ البلد تخللته وسبقته وأعقبته رسائلُ ذات أبعاد شاملة، رسمت صورةً واضحةً لطبيعة الموقف الوطني وجذوره وسقفِه سِلْمًا وحَرْبًا، وبرغم أن معركة مواجهة العدوان كانت هي الإطارَ الأبرزَ لتلك الرسائل، بحكم أولويتها القصوى، فَــإنَّ الإطار الأوسع كان هو مشروع الثورة الذي تمثل هذه المعركة جُزءًا منه، وخلاصةُ هذا الإطار هو أن اليمن من بعد 21 سبتمبر، يمضي ليكون قوة جديدة متكاملة لا سبيل لكسرها أَو تقييد خياراتها وطموحاتها أَو عرقلة مساراتها المُستمرّة.
الهُــوِيَّةُ الجامعةُ كإطار لمشروع يمن 21 سبتمبر:
العرضُ العسكري الذي مثَّل الاحتفالَ الرئيسي بذكرى الثورة، لم يكن مُجَـرّد مهرجان عادي لاستعراض تفاصيل ذات دلالات لحظية، بل كان تثبيتًا عمليًّا لمعادلات سياسية وعسكرية شاملة وثابتة ولمسار تأريخي جديد ترتبط به هُــوِيَّة الدولة اليمنية التي تبنيها قيادة الثورة وجنودها؛ ولهذا فَــإنَّ العرض تضمن العديد من المظاهر المتعلقة بطبيعة منهج ومرجعية الثورة والدولة، وأهمها التمسك بالهُــوِيَّة اليمنية الجامعة وكافة عناصرها، وعلى رأسها الدين الذي بات اليوم معيارًا محوريًّا لفرز الاصطفافات والمواقف الدولية، مع تصاعد الحرب المباشرة والواضحة التي يشُنُّها الغربُ على الإسلام، والتي ترتبطُ مباشرةً بتفاصيلِ الصراعات التي تشهدُها المنطقةُ حَـاليًّا كالصراعِ مع العدوِّ الصهيوني.
ولهذا يمكنُ القولُ إن العرضَ العسكريَّ ومن حَيثُ كونه الحدثَ الذي تم اختيارُهُ كفعالية رئيسية لعيد الثورة، قد وجّه -بتأكيد الدفاع عن المصحفِ الشريف- رسالةً واضحةً تفيدُ بأن يمن الحادي والعشرين من سبتمبر، سيلتزم دائماً بهذه الهُــوِيَّة كإطار رسمي لعلاقاته ومواقفه وتحالفاته سِلْمًا وحربًا، وأنه لن يكون جُزءًا من أي مشروع يخدم مصالح القوى المعادية للإسلام أَو التي تهدف لإخراج اليمن إطار الهُــوِيَّة الجامعة التي يشترك أبناؤه مع بعضهم، كما يشتركون فيها مع المحيط الإسلامي والعربي، وما تتضمنه هذه الهُــوِيَّة من سيادة واستقلال وحُرِّيَّة، بل سيقفُ في المعسكر المقابل بدور فاعل وبقوة عسكرية مؤثِّرة.
رسائلُ القوة والحسم:
فيما يتعلق بالمعركة مع العدوان، فقد مثّل العرضُ تجسيدًا هو الأوضحُ على الإطلاق لمعادلة الحرب والسلام الرئيسية، التي تمثل جوهرَ الموقف الوطني، وإطار السياسة العامة الثابتة في التعامل مع الصراع الذي يشهده البلد مع القوى الإقليمية والدولية وأدواتها المحلية.
هذه المعادلة، كما هو واضح، تحمل شِقَّينِ رئيسيَّين: الأولُ جسّده العرضُ العسكري بشكل مباشر من خلال حجم القوة البشرية، وحجم ونوعية الترسانة التي تم استعراضُها، وفي هذا الشق أكّـد العرض العسكري بوضوح أن بناء القوة وتطويرها إلى أقصى حَــدٍّ ممكن، هو بالنسبة لصنعاء أولويةٌ مقدَّسةٌ وضرورة وجودية؛ مِن أجل مواجهة أي تهديد ضد البلد والتغلب عليه بالشكل المطلوب الذي لا يترك أية ثغرة مفتوحة أمام الأعداء، وبالتالي فَــإنَّ العرض حمل رسالة واضحة بأنه لا توجد في حسابات صنعاء مساومةٌ على ثوابت الاستقلال وتحرير الأرض ونَيل الحقوق كاملة وغير منقوصة، وأن هذه القوةَ البشرية والمادية المتعاظمة بُنِيَتْ لتحقيق هدف رئيسي هو تحقيق النصر، في حال رفض الأعداء أن يتراجعوا بشكل كامل عن مواقفهم، وليس لممارسة “ضغوط” تدفعُهم نحو تخفيف حدة عدائهم قليلًا.
هذا ما أكّـدته تصريحاتُ وزير الدفاع وناطق القوات المسلحة خلال العرض، حَيثُ أكّـد الوزير العاطفي بشكل واضح على أن “اليمن قوي ويستطيع فرض وجود على الساحة العالمية” وأنه بهذه القوة “يمثل ركيزة للاستقرار الإقليمي والدولي” بالشكل الذي يجعل استمرارَ الحصار تهديدًا لهذا الاستقرار.
وعلى ضوء ذلك هذا وجّه اللواء العاطفي رسالةً تفصيلية واضحة لدول العدوان بأن “الكلمة العليا والمسموعة” بشأن سيادة الجزر اليمنية ومضيق باب المندب ستكون لليمن “شاء من شاء وأبى من أبى” وأن “القوات الأجنبية المتواجدة في المناطق المحتلّة ستكون على موعدٍ مع براكين الغضب اليمني إذَا لم ترحل”؛ وهذا يعني بوضوحٍ أن صنعاء لن تمنحَ دول العدوان أيةَ مساحة للمساومة على استمرار الاحتلال، وأن الدبلوماسية لن تستطيع أبدًا أن تحولَ دون تحرير المناطق والجزر المحتلّة عسكريًّا، إلا من خلال سحب القوى الغازية بشكل سلمي.
ناطقُ القوات المسلحة، العميد يحيى سريع، عزّز أَيْـضاً هذه الرسالة، من خلال التأكيد على الجاهزية “لخوض المعارك في حال لم يلتزم العدوّ بمتطلبات السلام المشرف” وأنه “لا سلام بدون تحقيق مطالب الشعب اليمني كافة”، وَأَيْـضاً من خلال الإعلان عن “مضاعفة الجاهزية القتالية خلال الفترة القادمة ضمن الاستجابة العملية للتعامل الحازم مع أية تطورات”.
وَأَضَـافَ سريع أن “الشعب اليمني يؤمن بأن السلام لم ولن يتحقّق إلا بفرض معادلات عسكرية رادعة تجبر العدوّ على الخضوع لكافة المطالب المشروعة والعادلة” في رسالة أُخرى تؤكّـد للعدو أن دبلوماسيته المزيَّفة لم تغيِّرْ حقيقةَ استمرار الحرب، والتي تقتضي السعي نحو حسم المعركة.
والمميَّز في هذه الرسائل والتأكيدات طبعًا أنها وُجِّهت من أمام حشد عسكري غير مسبوق وُلد وتدرَّب في قلب المعركة وبات يألفها بشكل كامل، وأسلحة فتاكة متنوعة الفئات والأغراض والمديات، وكلها متطورة ومصنوعة بمواصفات ظروف استثنائية؛ وهو ما يعني أن هذه القوة مهيأة ذهنيًّا وبدنيًّا وتقنيًّا؛ لتغطية كُـلّ متطلبات حسم المواجهة برًّا وبحرًّا وجوًّا، داخل البلد وخارجه؛ الأمر الذي لم يكن يمتلكه العدوّ يوماً ما، فضلًا عن أنه الآن يواجهُ تحدياتٍ أكثرَ صعوبةً من أي وقت مضى داخل معسكره.
ويمكن القول إن العرضَ العسكري قد وضع تحالفَ العدوان أمام حقيقة قُدرةِ صنعاء على حسم المواجهة عسكريًّا في كُـلّ المجالات، وهو حسمٌ لا يتضمَّنُ فقط بعثرةَ آمال العدوّ وطموحاته الاستعمارية في اليمن، بل يتضمن إمْكَانية ميزان القوى في المنطقة بصورة تاريخية؛ لأَنَّ عودةَ صنعاء إلى المعركة بتلك القوة، واستخدام الأسلحة البحرية التي تم استعراضها والصواريخ والطائرات الجديدة ذات المديات البعيدة، سيترتب عليه فرضُ معادلات ذات تأثير إقليمي ودولي، وخُصُوصاً فيما يتعلق بالجبهة البحرية.
رسائلُ السلام العادل:
الشقُّ الثاني من معادلة الحرب والسلام الرئيسية التي جسّدها العرض العسكري بمناسبة العيد التاسع لثورة 21 سبتمبر: هو ذلك المتعلق بالموقف التفاوضي الوطني وسقفه وطبيعته؛ فالعرض جاء بعدَ يومَينِ من انتهاء جولة المفاوضات التي عقدها الوفدُ الوطني والوسطاء في الرياض، وعودتهم إلى صنعاء للتشاور مع القيادة حول “البدائل والخيارات التي تم بحثُها في السعوديّ؛ لتجاوز الخلافات” بحسب تصريح رئيس الوفد الوطني محمد عبد السلام.
وقد سبق العرضَ خطابُ للرئيس المشاط قال إنه بديلٌ عن خطاب آخر كان قد أعده، وتمنى “عدم العودة إليه” في إشارة إلى أنه كان سيتضمن إعلان موقف حازم إزاء تعنت ومماطلة دول العدوان، لكن الرئيس أَيْـضاً وصف نتائج مشاورات الرياض بـ”الإيجابية من الناحية النظرية” مؤكّـداً الترحيب بها “بشرط سرعة وضعها موضع التنفيذ”، وأرفق ذلك بتأكيدات إضافية على الاستعداد “لمعالجة مخاوف السعوديّة بقدر استعدادِها لمعالجة مخاوف اليمنيين” داعياً المرتزِقة إلى الخروج من الوصاية الخارجية، والمجتمع الدولي إلى تغيير مواقفه واصطفافه.
هذه التصريحاتُ لم تتناقضْ مع ما تضمنه العرض العسكري لاحقًا من رسائل قوة وحسم، بل إن العرض أسهم في توضيح الإطار الذي تتجاوب فيه صنعاء مع جهود السلام؛ إذ أكّـدت أن إيجابية البحث عن تفاهمات تأتي فقط في إطار تحقيق نفس الأهداف لكن بطريقة سلمية.
بعبارة أُخرى: لقد وضع العرضُ العسكري دولَ العدوان أمام الخيار البديل الذي تعده صنعاء، في حال فشل تحقّق مطالب الشعب اليمني عبر المفاوضات، وطبيعة ومستوى وقوة هذا الخيار البديل تؤكّـدُ بوضوح أن صنعاء ليست مضطَرَّةً لتقديم أية “تنازلات” يطمع العدوّ في الحصول عليها من خلال المراوغة والمماطلة؛ لأَنَّ المسألة ليست مسألة مساومة أصلًا، والمساحة المتاحة للعدو ليست مخصَّصةً للبحث عن حلول غير حاسمة تمنحُه فرصةً أُخرى لترتيب أوراقه، بل لإنقاذ نفسه بشكل نهائي من العواقب المترتِّبة على عودة التصعيد، والتي جسَّدها بوضوح العرض العسكري، سواء من خلال الحشد البشري الهائل، أَو من خلال القدرات التي وصف النظامُ السعوديّ تأثيراتِها -عندما كانت في مستوى أدنى مما هي عليه الآن- بأنها “أكبرُ رُعب شهدته المملكة”.
تاريخٌ جديد:
معركةُ مواجهة العدوان كانت الموضوع الرئيسي لمعظم رسائل العرض العسكري، لكنها لم تكن الموضوع الوحيد، فالعرض العسكري الذي اختير ليكون فعالية الاحتفال الرسمية بعيد الثورة، ترجم أَيْـضاً أمورًا مهمة أُخرى تتعلق بالثورة نفسها وبمشروعها النهضوي الذي تمثل القوة العسكرية نموذجًا لنجاحاته ولما يستطيع تحقيقه، وقد سلّط وزير الدفاع الضوء على هذه النقطة في كلمته خلال العرض، حَيثُ أشار إلى أن “القيادةَ التي استطاعت بناء القوات المسلحة بهذا المستوى العالي في زمن قياسي وبأقل الإمْكَانيات، قادرةٌ على بناء مختلف مؤسّسات الدولة والنهوض باليمن في مختلف المجالات”، موضحًا أن المشروع يتعلق بصناعة “تاريخ جديد للشعب اليمني والمنطقة”.
هذا ما أكّـده أَيْـضاً قائد الثورة السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي نفسه، والذي أوضح في خطابه عقبَ العرض العسكري، أنه وبرغم الظروف الصعبة والتركيز الضروري على أولوية مواجهة العدوان فَــإنَّ مسار الإصلاح والبناء الذي تتبناه ثورةُ 21 سبتمبر على مستوى مؤسّسات الدولة يمثل أولويةً أُخرى لن يتم تجاهلها، بل سيتم التعاطي معها؛ باعتبارها مطلَبًا شعبيًّا ضروريًّا، وذلك من خلال “تغييرات جذرية” أعلن أنه سيكشفُ عن مرحلتِها الأولى في يوم ذكرى المولد النبوي الشريف.
وقد أوضح أن هذه التغييرات ستأتي على أَسَاس تحقيق التحول الشامل الذي انطلقت ثورة 21 سبتمبر لصناعته؛ مِن أجل الخروج من مرحلة الجمود والتدهور التي عاشها البلد في ظل أنظمة الحكم السابقة، وكتابة مسار جديد نحو نجاحات فعلية، يمثل العرض العسكري نموذجًا عاليًا لها ولإمْكَانية تحقيقها حتى في ظل الظروف الصعبة.