اليمن بين جمهوريتين.. (1) من جمهورية لم تمتلك حتى نشيدها الوطني.. إلى جمهورية حقّقت السيادةَ بكل معانيها
إبراهيم محمد الهمداني
مما لا شك فيه أن التغييرَ سُنَّةٌ إلهية حتمية، في حياة المجتمعات البشرية، وتعد الثورات أهم وأكثر الطرق الموصلة إلى التغيير المنشود، الذي لا يمكن أن تحقّقَه الصدفُ، أَو الرغبةُ الشخصية والأهواء الذاتية، أَو الرغبة في محاكاة وتقليد الآخرين، وإنما يجب أن يكون التغيير محكوما بتوفر شرطيه؛ الذاتي والموضوعي، حَيثُ يجب أن يكون صادرًا عن رغبة ذاتية، في الانعتاق من سلطة الجمود، إلى فضاءات التغيير وصنع المستقبل، كما يجب أن تكون الظروف الموضوعية المحيطة، مهيأة ومساعدة للقيام بعملية التغيير، وبتضافر الشرطَين معًا، يصبح التغيير فرض الواقع وفعل الضرورة، الذي يتطلب -مِن أجل نجاحه- منهج ثوري شعبي ريادي، وقيادة ثورية حكيمة معطاءة، وبهذا تمتلك الثورة عوامل قوتها ونجاحها، وضمان استمراريتها ومرونتها، وقدرتها على استيعاب المتغيرات والتحولات المفاجئة، وتكريس رؤيتها ومشروعها المستقبلي، بينما فقدان الفعل الثوري التغييري، لأحد عوامل قوته أَو مقومات نجاحه، يحكم عليه بالفشل والانكسار، ويترتب عليه نتائج سلبية ملموسة، في حياة الشعوب.
من خلال الطرح السابق، يمكن النظر إلى الحدث التغييري، المسمى ثورة 26 سبتمبر 1962م، من حَيثُ روافده التي تشكل منها، وأنساغه التي امتد إليها، وبغض النظر عن المرجعية الفكرية، لتنظيم الضباط الأحرار، واتصالهم بتنظيم أخوان مصر وباكستان، بالإضافة إلى المصير الغامض، الذي اكتنف حياة أُولئك الضباط، بعد الثورة مباشرة، كما لا ننسى دور الزبيري ورفاقه، الذين يمثلون الجانب المدني في الثورة، واضمحلال دورهم إلى حَــدّ التلاشي، وصراع أجنحة القوى الثورية الجديدة، حتى تحولت الثورة إلى أربع ثورات، تغيرت معها المبادئ والأولويات، وفي الوقت ذاته، تحول الشعب من حاضنة سياسية وقوة ضامنة، إلى مجاميع مسلحة تتقاتل فيما بينها، بدافع الولاء القبلي أَو المصلحة المادية، تحت قيادة تلك القوى السياسية المتصارعة، سواء على المستوى الجمهوري/ الملكي، أَو على المستوى الجمهوري/ الجمهوري، كما حدث فيما بعد، من صراعات بين أقطابه، وصلت بثورة سبتمبر إلى نسختها الرابعة، كما يقول البردوني، في كتابه “اليمن الجمهوري”، وفيه يؤكّـد على تأثر الثورة بالقوى الخارجية، ودور الوجود المصري، في الهيمنة والسيطرة الفعلية، على تلك الثورة، عسكريًّا وسياسيًّا وثقافيًّا، بحجّـة حمايتها من الأخطار والتهديدات المحدقة بها، حتى أن رئيس الجمهورية – آنذاك – عبدالله السلال، قد بدا مسلوب الصلاحيات فاقد الفاعلية، عاجز عن إخراج متهم من أحد أقسام الشرطة، الذي يديره ضابط مصري، حتى بعد أن قدم ضمانته الشخصية الحضورية، على ذلك المتهم، وقد فشلت كُـلّ الجهود والوساطات، التي قام بها الرئيس السلال، لاستنقاذ أحد مواطنيه ورعاياه من السجن ظلما، إلى أن وصل به الأمر، التوسل للضابط المصري، بالسماح له باستخدام الهاتف، والاتصال بمكتب الرئيس جمال عبدالناصر في القاهرة، طالبا منهم أن يكلموا سعادة الرئيس بطلبه، وعندها فقط تم تلبية طلبه، وقبول ضمانته.
وهنا لنا أن نتساءلَ: هل كانت تلك الثورة شعبيّة أم نخبوية؟ هل كانت بإرادَة ذاتية أم بتوجيه خارجي، أم بدافع التقليد والمحاكاة لعاصفة الثورات التي ألهبت المحيط العربي آنذاك؟، وما السبب في تحولها من إرادَة تغيير وتحرّر، إلى تبعية الاستلاب والعبودية المنمقة؟، وكيف استطاعت الوصاية المصرية، فرض أجندتها وسيطرتها على الواقع اليمني، حتى وصلت بالمجتمع حَــدّ الاستلاب المطلق، وكيف تقبل المجتمع اليمني – الحالم بمستقبل أفضل – قيودَ تلك الهيمنة سياسيًّا وعسكريًّا وثقافيًّا، حتى وصل به الأمر، إلى تغييب ذاته في تقليد ومحاكاة، كُـلّ تفاصيل حياة المجتمع المصري المحتلّ، سواء على المستوى الاجتماعي، أَو المستوى السياسي النخبوي، أَو المستوى الثقافي الفني، الذي أنتج أغنية “يا حلوة فكي لي الباب”، وغيرها من النتاجات الشعرية والإبداعية والفكرية، التي كانت وما زالت شاهدًا حَيًّا، على هول ذلك الاستلاب والتبعية المطلقة؟!
وهنا يمكن أن نتساءل:- ما الذي حقّقته ثورة 26 سبتمبر 1962م؟ وكيف الجمهورية إلى جمهوريات، وما الذي جعل الوصاية المصرية، تفرض أبويتها الاستعلائية على اليمن – ثورة وأرضا وإنسانا – دون أدنى مراعاة لمسمى الثورة، أَو ذرة خوف من الفكر الثوري وفكر الثورة؟؛ وبعيدًا عن سيل الأسئلة اللانهائية، يمكن القول إن التغيير المنشود تعرض لعملية إجهاض مبكرة، أصابت المولود الثوري بالتشوهات والإعاقات الدائمة، وبذلك لا يمكن الجزم بحقيقة حدوث تغيير جذري، بين، أمس الشعب وغد الثورة، حَيثُ ظلت حياة المجتمع اليمني كما كانت عليه من قبل، في معظم جوانبها وتفاصيلها، حَيثُ افتقرت إلى التغييرات الجذرية العميقة، ولم ينعم المجتمع بحالة التنوير والتحول الشامل، وكان أقصى ما جادت به الثورة على الشعب، هو النشيد الوطني، والأهداف الثورية الستة، التي لا تعدو كونها نسخة طبق الأصل، من نظيرتها في الثورة المصرية، وَإذَا ما تغاضينا عن ذلك التقليد الفج، بحجّـة أن تلك الأهداف تعبر عن الروح الجمعية وأسمى الغايات الإنسانية، وبذلك لا ضير أن اجتمعت ثورتان أَو أكثر على ذات الأهداف، فَــإنَّنا لا يمكن أن نتغاضى عن النشيد الوطني الجمهوري، الذي كان منتجًا مصريًّا محضًا، تم استيراده أَو فرضه كممثل لهُــوِيَّة وثقافة وفكر الجمهورية اليمنية والشعب اليمني، وهو عبارة عن أغنية أَو انشودة للمطرب المصري، محمد عبدالوهَّـاب، بعنوان “يا إلهي انتصرنا بقدرتك”، ليكون هو السلام الجمهوري المعتمد في اليمن، لمدة ثمانية عشر عاماً، حسب ما أورده أكثر المؤرخين والمهتمين، في هذا الشأن، ومنهم على سبيل المثال، الأُستاذ محمد حسين العمري، في قناته الوثائقية على منصة يوتيوب، وهذا يحتم علينا العودة إلى أهداف الثورة، لنرى ما الذي تحقّق منها؟.