“طوفانُ الأقصى”.. الاستحقاق الإلهي وتجسيدُ الفِطرة البشرية
إبراهيم محمد الهمداني
لم يكن فعلُ المقاومة الفلسطينية المتنامي -عبر تاريخها الممتد إلى الآن- خارجًا عن الأُطُرِ القانونية، والاستحقاقات الإنسانية، المكفولة في جميع القوانين والدساتير والتشريعات السماوية والوضعية، ورغم جدلية الصراع بين نزعة الاستبداد ونزعة الحرية، إلا أن خطاب الهيمنة والتسلط لم يفلح يوماً في تغييب ثقافة الثورة، وقتل الفعل الثوري، في الوعي الجمعي للمجتمعات الإنسانية؛ ولذلك كانت الثورات -وما تزالُ- هي المحطات الأكثر إشراقًا وإيجابيةً، في مسيرة التحولات التاريخية، والفاعل الأقوى حضورًا في عمليات التطور الحضاري والتقدم الإنساني، ومن ذلك المنظور الفلسفي الإنساني، الذي لا خلافَ عليه، يمكن النظرُ إلى فعل المقاومة الفلسطينية، في مسيرتها التصاعدية، ورصيدها النضالي التراكمي، الذي سطّره المجاهدون الفلسطينيون، عبر الأجيال، وما زالوا، يسطرون أورع الملاحم والبطولات الأُسطورية، ضد آلة القتل والإجرام والدمار والتوحش الصهيوني، الذي طالما أمعن في تحقيق معادلة وجوده، وتموضعه القَسْري الطارئِ على الأرض الفلسطينية، بممارسة كُـلِّ وسائل القوة والإجرام والتوحش، ومجازر الإبادة الجماعية الشاملة، بحق أصحاب الأرض والشرعية الحقيقية، من أبناء الشعب الفلسطيني الأعزل، ومقاومته الباسلة، ومجاهديه الأبطال، الذين لم يتوانوا لحظةً واحدةً، عن اجتراح كُـلّ مظاهر الفعل الثوري المقاوم، الرافض لوجود وهيمنة الاحتلال الصهيوني، رغم محدودية الإمْكَانات والقدرات، وفارق التسليح الهائل، وخِذلان المجتمع الدولي للقضية الفلسطينية، والتواطؤ العالمي الهادف إلى تصفية القضية، من خلال ممارسة استراتيجية المساواة بين الضحية والجلاد، والحرص على إيقاف الفعل الثوري المقاوم، بتوجيهه نحو متاهةِ المفاوضات اللانهائية، من ناحية، والسماح لآلة القتل الصهيوني الإجرامية، باحتلال المزيدِ من الأراضي الفلسطينية، وتهجير وقتل وإبادة ومحو جميع سكانها، من ناحية ثانية.
جاءت عملية “طوفان الأقصى” بوصفها استحقاقا إنسانيًّا، مكفولًا في كُـلّ الشرائع السماوية، ونتيجةً طبيعيةً للرد على جرائم ومجازر الكيان الصهيوني الغاصب، وتعبيرًا إنسانيًّا عن نزعة الحرية، في طبيعة الفطرة الإنسانية، وقد امتازت هذه العملية بميزات فارقة، في مسيرة المقاومة ورصيدها النضالي، حَيثُ شكلت في مضمونها وصورتها، نقلة نوعية كبيرة، ومنعطفا استراتيجيا هائلا، في تاريخ المنطقة العربية والعالم، ورسمت مسار التحول التاريخي العالمي، وأسقطت -بتداعياتها المتوالية، وفاعليتها المُستمرّة- أقنعة الحرية وحقوق الإنسان والمشروع الحضاري، التي طالما غلّفت حقيقة قُبح القوى الاستعمارية الكبرى، التي سارعت بكل جرأة وانحطاط وعنصرية، إلى إعلانِ وقوفها الكامل، ودعمها المطلق، للكيان الصهيوني الغاصب، ومشاركتها العلنية كُـلّ جرائمه ومجازره، التي ينفِّذُها بشكل جنوني وهيستيري، بحق الفلسطينيين المدنيين الأبرياء العزل، بعد عجزه عن ردعِ أبطال المقاومة الفلسطينية، في ميادين المواجهة، فلجأ إلى تنفيذِ عمليات انتقامية وإبادات جماعية، على مرأى ومسمع من العالم، في محاولة يائسة لتغطية هزيمته النكراء، وللضغط على فصائل الجهاد الفلسطينية؛ لإيقاف عملياتها وإعلان استسلامها، والتخلي عن مكاسبها المادية -ممثلة في سيطرتها الجغرافية على غلاف غزة وما بعده- ومكاسبها المعنوية -ممثلة في قدرتها على تثبيت معادلات القوة والنصر ووحدة الفصائل والمحور- وهي تدخُلُ يومها التاسع، وما زالت حتى اللحظة، في كامل عنفوانها وقدرتها وسيطرتها، وامتلاكها لزمام المعركة ميدانيًّا وإعلاميا.
يمكن القول إن يوم السبت، 7 أُكتوبر 2023م، أحدث نقلةً نوعيةً، في مسار التاريخ السياسي والجيواستراتيجي العالمي، سواء من حَيثُ إعادة صياغة خارطة التحالفات الإقليمية والعالمية، أَو من حَيثُ إعادةِ صياغة بِنية الوعي الجمعي العالمي، لحقيقة المفاهيم والحقوق الإنسانية، وتهيئته لتبنيها، في تموضُعِه الشعبي، وتحريرها من مزايدات، طاولة قمار الأنظمة الاستعمارية، بما تمثِّلُه تلك المظاهراتُ، والخروجُ الشعبي المُستمرُّ، بذلك المستوى العالي من الزخم الجماهيري المتعاظم، والرفض الجمعي المطلق، لموقف القوى الاستعمارية الكبرى، المساندة للكيان الصهيوني المحتلّ مطلقًا، والالتفاف الشعبي الجمعي الواسع، حول فلسطين أرضًا وإنسانًا، والمقاومة الفلسطينية خَاصَّةً، ومحور الجهاد والمقاومة عامةً؛ كونه يمثل قيمة الحرية، بوصفها حقًّا إلهيًّا وإنسانيًّا وحضاريًّا خالصًا، لا يمكنُ إخضاعُه لمعطيات المصالح الاستعمارية الأنانية، ولا يقبلُ الكَيلَ بمكيالَينِ إطلاقًا.