“طوفان الأقصى”.. بضعُ دقائق ما زالت تربك العالم
إبراهيم محمد الهمداني
شكَّلت عملية طوفان الأقصى، نقطة تحول جذري عميق، بشكل دوائر تصاعدية، تتسع آثارُها وتداعياتها، كلما ابتعدت حلقاتها عن نقطة المركز، بوصفها مصدرَ إنتاج التغيير والتحول الجذري، في طبيعته التفاعلية الدينامية المُستمرّة، وُصُـولاً إلى تحقيق صياغة جديدة، في بنية المسار السياسي العالمي، والمواقف والرؤى والسياسات والتحالفات والاستقطابات العالمية، وبالتالي سقوط أنظمة وكيانات معينة، وصعود أنظمة وتحالفات أُخرى بديلة، ما يعني حدوث تغييرات وتحولات جذرية كبيرة جِـدًّا، في خارطة التموضعات السياسية والعسكرية والاقتصادية العالمية.
وفي هذا السياق لا بُـدَّ من تقديم توصيف عام، لهذه العملية العظيمة الكبرى، والإلمام – ولو سريعا – بطبيعة مسارها سياسيًّا وعسكريًّا واستخباريًّا، وآليات تنفيذها ميدانيًّا، وطريقة نقلها إعلاميا، وأبرز تداعياتها وآثارها، على كافة المستويات والأصعدة.
فهي عملية نوعية تاريخية وغير مسبوقة، حَيثُ استطاع مجاهدو فصائل الجهاد والمقاومة الفلسطينية، اختراق جدار الحماية الفاصل، بين أراضي قطاع غزة، والأراضي المحتلّة المعروفة باسم غلاف غزة، رغم أنظمة الحماية والمراقبة والاستشعار، وغيرها من الأنظمة المتقدمة، وأبراج المراقبة، وطبيعة التموضع العسكري والاستخباري، التي تجعل من حصول ذلك الاختراق، أمرا بالغ الصعوبة، أَو بالأصح مستحيلا، خَاصَّة في ظل حرص الكيان الصهيوني المحتلّ، على سلب مجاهدي الفصائل الفلسطينية عامة، والمقاومة في غزة خَاصَّة، من أية عوامل القوة، أَو أدنى إمْكَانية احتمال امتلاكها، وهذا ما يفسِّرُ حجم الصدمة الكبيرة، التي شلت كُـلّ قدرات الرد الصهيوني، بشقيه العسكري ممثلًا بجنوده وكتائبه النوعية، والاستيطاني ممثلًا بجماعات المستوطنين المسلحين، بوصفهم المكون الأكبر، في قوات جيش الاحتياط الصهيوني، الذين أُصيبوا هم أَيْـضاً بالرعب والهلع، والفرار الجماعي، والعجز عن إيقاف أبطال “طوفانِ الأقصى” أَو التنبؤ بذلك الهجوم الكاسح، إلا من بعض مواجهات، قصيرة الأمد، ويمكن القول إن هذه العملية، لم تربك كيان العدوّ الصهيوني المحتلّ، بكل فئاته ومكوناته، بل اربكت العالم بأكمله، سواء من حَيثُ التحضيرات التي سبقتها، أَو التفوق الاستخباراتي والعسكري والتكنولوجي، الذي صاحب تنفيذها، أَو من حَيثُ حجم مكاسبها الميدانية، في عدد القتلى والأسرى، والكفاءة العالية في التعاطي مع الأهداف النوعية، واقتحام عشرات المواقع العسكرية الاستراتيجية، وعشرات المستوطنات، ونوعية وكمية الأسلحة التي تم اغتنامها، وسرعة نقلها مع الأسرى، إلى مناطق آمنة في عمق قطاع غزة، والعودة بسرعة لمواصلة تحرير الأرض، واقتحام المواقع والمستوطنات، الواقعة في محيط غلاف غزة، بمسافة انتشارية تُقدَّر بـ 40 كم، تشمل ما يقرب من 50 مستوطنة، وعشرات المواقع العسكرية الاستراتيجية الهامة، مثل مقر قيادة فرقة غزة، في معسكر ريعيم شمالي القطاع، وغيرها من المعسكرات والفرق والألوية، التي طالما تبجح بها قادة الكيان الصهيوني الغاصب، وتغنوا بتميزها وتفوقها النوعي تدريبا وتسليحا، جاعلين منها أُسطورة خَاصَّة، داخل أُسطورة الجيش الذي لا يقهر، لكنها سرعان ما سقطت، في غضون ست دقائق فقط، وتم أسر العشرات من كبار جنرالاتها وقاداتها – ناهيك عن المئات من جنودها – بتلك الصورة المهينة والمخزية، وقد شخصت أبصارهم، وخرست ألسنتهم، وخارت قواهم، وتملكهم الخوف الشديد والرعب القاتل، لهول الصدمة الكبيرة، والمفاجأة غير المتوقعة إطلاقا، حتى بلغ بهم الحال، الاعتقاد أنها القيامة، وقد ارتسمت على وجوههم صور الذلة والمسكنة والخزي والعار، وهم يجرون أذيال الهزيمة الساحقة النكراء، ترتفع أصواتهم وتنخفض – كجوقة من الحمقى – بالبكاء والعويل والنحيب والتحسر، على مرأى ومسمع من كُـلّ شعوب العالم، التي تابعت – باهتمام بالغ – من خلف الشاشات، كُـلّ تفاصيل تلك المشاهد الحية، المُفرج عنها من قبل الإعلام الحربي والعسكري، لمجاهدي الفصائل الفلسطينية الأبطال، ليرى العالم أجمع، كم هو هذا الكيان الصهيوني الغاصب، ضعيف وهش وزائف وعاجز وذليل، وأن نزعته الإجرامية، وممارساته الوحشية، ومجازره ومذابحه الإرهابية، التي بنى عليها تموضعه الاستيطاني الغاصب، لم تعد قادرة على ترويج أساطير قوته وتفوقه المزعوم، أَو انتشال صورته الاستكبارية، من مستنقعات السقوط المهين والهزيمة المدوية، خَاصَّة بعد هذه العملية المباركة، في (سبت) القيامة الأسود، الذي صنعه ثلة من أبطال فصائل الجهاد والمقاومة الفلسطينية، انطلاقا من الواجب الديني والإنساني، وقد تسلحوا بالإيمان بالله والثقة فيه والتوكل عليه، بالإضافة إلى بعض الأسلحة التقليدية البسيطة.
إن محاولة استقصاء محاور هذه العملية، تخطيطا وتنفيذا واستمرارية، أمر يستحيل القيام به، في مقام كهذا، كما إن إخضاعها لمعايير قياس الربح والخسارة، المتواضع عليها في العرف العسكري التقليدي، مجازفة تنم عن قصور في الوعي، نظرا لخصوصية العملية والمكان والزمان، وتفاوت القدرات والإمْكَانات، واختلاف الظروف الموضوعية الداخلية والمحيطة، ولاختلاف ومغايرة طبيعة هذه العملية عن غيرها، على كافة المستويات والأصعدة، علاوة على أن قدرتها على تثبيت معادلات القوة والسيطرة، مكنتها من الاستمرار في إنتاج مكاسب الانتصار العظيم، وامتلاك مقومات البقاء والاستمرارية الفاعلة، في تمريغ كيان العدوّ الصهيوني المحتلّ، في مستنقعات الهزيمة الدائمة، ورغم إمعانه في ارتكاب جرائم الإبادة والمجازر الجماعية الوحشية، بحق سكان قطاع غزة المدنيين الأبرياء، ومهما حظى بمساعدة ودعم أمريكا والغرب، إلا أن ذلك لن يعيد له هيبته المفقودة، ولا تسلطه وهيمنته الساقطة، ولن يزيده إلا سقوطا وزوالا متسارعا، مع عملائه المحليين والإقليميين، ورعاته وداعميه الإمبرياليين المستكبرين؛ لأَنَّ تلك سُنةٌ إلهية حتمية، استوفت شروطها ومعاييرها، ولن تجد لسنة الله تبديلا.