فلسطين جذوةٌ متَّقِدةٌ في وجه الأعاصير
غالب المقدم
ما يلاحظ من اصطفاف أمريكي، بريطاني، فرنسي، فج، لمساندة العدوّ الصهيوني، بارتكاب إرهابه ومجازره البشعة بحق أبناء غزة من المدنيين العزل، يدل بوضوح على الانحطاط الأخلاقي لما يسمونه الحضارة الغربية، بل هو تَجَلٍّ للقبح بكل معانيه.
في المقابل، لا تفوح على الضفة الأُخرى إلا رائحة مستنقعات التخاذل والعمالة والانبطاح الرسمي العربي والإسلامي، بمواقف وبيانات وتصريحات هزيلة، وتحَرّكات مخزية باستجداء العدوّ الصهيوني للسماح بدخول المساعدات الإنسانية لأبناء غزة الرازحين تحت النار، ولا ترقى للحدث العظيم الذي صنعه أبطال المقاومة في فلسطين.
وضح حجم الذل، وبانت هوة السقوط السحيق الذي وصلت إليه الأنظمة المهترئة، وبصرف النظر عما حقّقه العدوّ خلال السنوات الماضية من قضم للأراضي المحتلّة بفضل غطائه الدولي، وبيع للمواقف من تحت الطاولة من قبل حكام العرب حينها، وغض الطرف عن جرائمه على مر العقود الماضية منذ إعلان نشأته بالسلاح سنة 1948م، إلا أن الأرضَ تأبى إلا أن تكون لأصحابها، وليس بمقدور أية قوة على وجه الأرض انتزاعهم من فلسطين.
انكشفت عورة الأنظمة المرتهنة هذه المرة، ولم تستطع مداراة الموقف أَو غض الطرف عما يرتكبه العدوّ من جرائم حرب ضد الإنسانية، بل تعرت وفُضحت وبدت أكثر قبحًا وأشد سوءًا ووقاحة عما كانت عليه في السابق، بعد أن فضل نتنياهو وبايدن اللعب على المكشوف، والظهور بدل التواري خلف الأقنعة المزيفة، مُحرِجين معهم عملاءهم وأدواتهم في المنطقة التي بدت خجولة أمام وثبة الشعوب وخروجها الهادر للملايين في الأُمَّــة، نصرةً للأرض والعرض في فلسطين.
لغة العنف والسلاح قد تستطيع أن تنتزع حقًا من أصحابه، لكن إمْكَانية امتلاكه وحيازته تظل مؤقتة، ومرهونة بالوقت، ومصحوبة بالخوف والقلق والتوتر، حتى يحين الوقت، ويستعيد أصحاب الحق الأصليون ما أُخذ منهم بالقوة، وبذلك يتحول المغتصب الذي حاول إرهاب العالم بقوته وجبروته، إلى لقيطٍ، مشرد كما كان عليه أول مرة!
طال الطريق من كامب ديفيد إلى أوسلو، حتى ما تسمى صفقة القرن، لكنه انكمش هذه المرة، فتبخرت المشاريع الغربية بفعل التخطيط المحكم الأُسطوري لأبناء الأرض والحق (شعب الجبارين) في طوفان الأقصى؛ ما أربك كُـلّ التقديرات والمخطّطات الصهيونية، والغربية، في إمْكَانية الاستحواذ وفرض الهيمنة على المنطقة بفعل تواطؤ حكامها.
تهاوت خطط الغرب إزاء لملمة شتات الصهيونية في جغرافيا مستقرة، فقرّرت إدارة بايدن هذه المرة إدارتها للحرب على فلسطين لإنقاذ الصهيونية من الهزيمة على أيدي المقاومة، للتدليل على رعايتها، ومعها لندن، لهذا الكيان العنصري الغاصب للأرض، وَأَيْـضاً غضبها من فشل خطة تهجير الفلسطينيين إلى سيناء.
ما تحتاجه الأُمَّــة اليوم، مراجعة حقيقية للمواقف على امتداد الطريق الصعب، والشائك بالمؤامرات التي استهدفت تغييب القضية من داخل الواجدان العربي، قبل تصفيتها.
وما تواجهه فلسطين اليوم من جرائم وإبادة جماعية للشعب الفلسطيني بقطاع غزة، ليست وليدة اللحظة؛ وإنما كانت لها مؤشرات، ومقدمات، تستهدف العرب وحدهم قبل غيرهم، لما لهم من ارتباط وثيق -جغرافيًّا وتاريخيًّا ودينيًّا- بفلسطين، يصعب فك عروة الارتباط بالإجبار والقوة.
وبذلك انتقل العدوّ لمرحلة الترويض عبر الحروب الناعمة من خلال أدواتها المتعددة الأساليب والأشكال الرامية لطمس الهُــوِيَّة وغسل الذاكرة الجمعية للأُمَّـة العربية، والمؤدية للتطبيع العلني والمجاهرة به دون حياء، من قبل الأنظمة العربية، ثم الانتقال لمرحلة التهجير القسري والتصفية كما يحدث الآن، ولكن أعداء الحقيقة مهما ظنوا آثمين أن بمقدورهم اغتصاب الحقوق وحيازتها بقوة السلاح، لا يستطيعون تغيير حقائق الديموغرافيا والتاريخ، ولو أنفقوا مليارات الدنيا عليها.
وما الاستهداف الهستيري الذي نشاهده للأبرياء من النساء والأطفال في غزة اليوم، من قبل كيان الاحتلال الصهيوني، إلا دليل واضح على خوفه، وتخبطه، وارتباكه، وانتحار لمخطّطاته الرامية لتصفية القضية الفلسطينية، جذوة بقاء الأُمَّــة ومستقبلها.