ملامحُ ما بعد الطوفان: “إسرائيلُ” لن تتعافى
– المقاومةُ ثبتّت معادلةَ تحرير كافة الأسرى الفلسطينيين وأنهت كُـلَّ آمال “توسُّع” الاحتلال واستقراره
– “المحور” فرض حضورَه العسكري والسياسي في مشهد الصراع بشكل لا يمكنُ تجاوزُه
المسيرة | خاص
مع استمرارِ تخبُّطِ الكيانِ الصهيوني وعجزِه عن التغطية على الهزيمة التأريخية المدوية التي تعرَّضَ لها مع انطلاق “طوفان الأقصى”، وثبوتِ استحالةِ نجاحِه في تجاوُزِها، وفي ظِلِّ ثباتِ الشعبِ الفلسطيني ومقاومته واستمرارهم بمراكمة الإنجازات على وَقْعِ الالتفاف الجماهيري العالمي الذي كسر كُـلَّ حواجز التضليل والقمع الغربية، بدأت ملامحُ مرحلة “ما بعد الطوفان” تبرُزُ بشكل واضح على المشهد، وهي مرحلةٌ عنوانُها الأوضحُ هو انتهاءُ كُـلّ آمال وأحلام كيان العدوّ بالتوسع والاستقرار، وبدءُ هرولته نحو سقوط تأريخي سيجُرُّ فيه معه أدواتِه وحلفاءَه.
انهيارُ سقف آمال العدو:
مع مرور الوقت تبرز بشكل أوضح حقيقةٌ ميدانية مهمة هي أن المقاومة الفلسطينية قد حسمت هذه الجولة من المواجهة مع الكيان الصهيوني في أول يوم لعملية “طوفان الأقصى” من خلال الاجتياح الخاطف للمستوطنات وقتل وأسر وإصابة الآلاف من الصهاينة، وكل ما حدث بعد ذلك وإلى الآن ليس سوى محاولات فاشلة من كيان الاحتلال للتغطية على تلك الضربة بالتوحش.
أما على الميدان، فَــإنَّ “الرد العملياتي الرئيسي” الذي ما انفك العدوّ يتوعَّدُ به لإلغاء انتصار المقاومة، أَو حتى موازنته، والمتمثل باحتياج قطاع غزة والقضاء على المجاهدين فيه وتهجير سكانه؛ فلا يزالُ حتى الآن مُجَـرّدَ عنوان إعلامي، بل إنه ومع مرور الوقت يتضحُ بشكل جلي أن العدوّ لا يملك أية خطة قابلة للتنفيذ في غزة سوى ارتكاب المجازر بحق الأبرياء، وهي ليست خطة، بل مُجَـرّد توحُّشٍ إجرامي، وهو لا يساعدُ كيانَ الاحتلال بل يضاعفُ الخطرَ الذي يواجهُه.
هذا ما أشَارَت إليه أَيْـضاً صحيفةُ “نيويورك تايمز” التي نقلت هذا الأسبوعَ عن مسؤولين أمريكيين قولهم: إنَّ “إسرائيل أوقفت خططَ غزو واسعِ النطاق لغزة، واستبدلتها بتوغُّلات برية محدودة، بناءً على توصيات من الولايات المتحدة الأمريكية”، موضحة أن “المسؤولين الأمريكيين استعرضوا مع الصهاينة الدروسَ التي استخلصتها واشنطن من “حروب الاستنزاف” التي خاضتها في العراق وأفغانستان، وحذّروهم من تكرار نفس التجارب”.
وتؤكّـد هذه المعلومات أن السقف العالي الذي وضعه العدوّ لنفسه قد بدأ ينهار على رأسه، وأن عنوان “التوغل المحدود” أَيْـضاً لن يختلفَ كَثيراً عن عنوان الاجتياح في الوصول إلى نفس الطريق المسدود.
وقد أكّـد وزيرُ الدفاع الإسرائيلي السابق، أفيغدور ليبرمان، في هذا السياق أَيْـضاً أن “من يتحدث عن أشهر طويلة من الحرب لا يعيش الواقع”.
ووفقًا لذلك، يمكن القول إن “طُوفان الأقصى” قد فرض نفسَه كواقعٍ جديدٍ لا مجالَ للتغطية عليه فضلًا عن إلغائه؛ وهو ما يعني ضرورةَ التعامل مع معطيات هذا الواقع والاعتراف بمعادلاته الجديدة.
تحريرُ كافة الأسرى:
يمكنُ مقاربةُ بعض ملامح ومعادلات واقع ما بعد “طوفان الأقصى” من خلال الأهداف الرئيسية التي يضعُها كيانُ العدوّ لنفسه في هذه المرحلة، والتي تقول صحيفة “يديعوت أحرنوت” العبرية إنها تتمثَّلُ في “إعادة الأسرى، وإزالة حماس من غزة، وردع باقي الأعداء في المنطقة” مضيفة أنه “من المشكوك فيه أن تتمكّن إسرائيل من تحقيق هذه الأهداف”.
ففيما يتعلق بمِلف الأسرى، لا مبالغة في القول إن حديث جيش الاحتلال عن “تحرير” أسراه بالقوة من خلال الاجتياح البري أصبح مُجَـرّد دعاية بالكامل؛ نظرًا لعجزه عن تنفيذ هذا الاجتياح أوَّلًا، ثم ضآلة احتمالات نجاحه في تحرير جميع الأسرى أَو حتى عدد كبير منهم، على فرض أنه قام بالاجتياح، بل إن الإقدامَ على دخول غزةَ قد يضاعفُ عددَ الأسرى الصهاينة بدلًا عن تحرير الأسرى الموجودين، ناهيك عن التداعيات الإقليمية التي لا زالت ترتبط بهذه الخطوة.
وقد أوضحت المقاومةُ الفلسطينية أن مِلَفَّ الأسرى أصبح يخضعُ لمعادلة جديدة فرضتها معركة “طوفان الأقصى” ولم يعد بالإمْكَان تجاوُزُها، حَيثُ أكّـد الناطق باسم كتائب القسام أبو عبيدة في كلمته الأخيرة أن الثمنَ الوحيدَ لإطلاق “العدد الكبير” من أسرى العدوّ، هو “تبييضُ السجون الصهيونية من كُـلّ الأسرى الفلسطينيين”، مؤكّـداً الاستعدادَ لإجراء تبادل شامل، أَو جزئي في هذا السياق.
معادلةٌ أكّـدها أَيْـضاً قائدُ حركة حماس في قطاع غزة، يحيى السنوار، الذي دعا هذا الأسبوع “الهيئاتِ والمؤسّساتِ العاملة بمجال الأسرى لاعتبار نفسِها في حالة انعقاد دائم وإعداد قوائم بأسماء الأسرى والأسيرات لدى الاحتلال دون استثناء تحضيراً لمستجدات المرحلة القادمة”.
وبالتالي، فَــإنَّ أولَ ملامح واقع مع بعد “طُوفان الأقصى” هو تحريرُ كافة الأسرى الفلسطينيين من سُجُونِ الاحتلال الذي لا شك أنه سيحاولُ الالتفافَ على هذه المعادلة كَثيراً، لكنه لن يستطيعَ إيجادَ ثغرة لتجاوزها، وهذه المعادلة بحد ذاتها تمثل انتصارًا تاريخيًّا كَبيراً سيعطي دفعةً غير مسبوقة لكل مسارات النضال الفلسطيني.
“إسرائيلُ” لن تتعافى:
وفيما يتعلَّقُ بالهدفِ الثاني الذي يسعى كيانُ العدوّ لتحقيقه والمتمثل في “القضاء على المقاومة”، فَــإنَّ وقائعَ المعركة اليوم وهي تقتربُ من إتمام شهر كامل، تؤكّـد أن هذا الهدفَ لا يقل استحالةً عن تحرير الأسرى بالقوة؛ فبرغم حملة القصف المجنونة التي يشنها العدوّ على كُـلّ مكان في قطاع غزة، وبرغم الدعم الغربي الاستخباراتي والعسكري اللا محدود، لا زالت المقاومة تتمتع بكامل جاهزيتها وقدراتها، ولم تنقص مخاوف جيش الاحتلال من التعرض لمحرقة داخل القطاع في حال قرّر اقتحامه، بل تزداد هذه المخاوف يوماً بعد يوم مع إثبات مقاتلي المقاومة جدارتَهم ومهارتَهم في التعامل مع المتغيرات في ظروف مستحيلة.
ونظرًا إلى حقيقة أن خطةَ “اجتياح غزة” لم تعد ذات ملامحَ واضحة لكثرة التعديلات والمخاوف التي تحيط بها، فَــإنَّ الحديث عن “القضاء على المقاومة” أصبح هو الآخرُ مُجَـرّدَ دعاية إسرائيليةٍ؛ لرفع معنويات جيش الاحتلال والمستوطنين، لا أكثر.
هذا يعني بالمقابل، أن المقاومةَ الفلسطينيةَ قد ألقت بالعدوّ فجأةً إلى واقع جديد تمتلك فيه هي زمام المبادرة في فرض المتغيرات العسكرية وتثبيتها على الواقع بشكل كامل، وحرمان العدوّ من كُـلّ الفوائد الميدانية لـ “تفوقه” المادي ونفوذه العالمي، الأمر الذي يشكل “كارثة” حقيقية بالنسبة لتل أبيب؛ لأَنَّ ذلك يعني أن وجودها كله أصبح رهن قرار تتخذه قيادة المقاومة بتنفيذ عملية أُخرى كـ “طُوفان الأقصى”.
وقد أشار ليبرمان إلى هذه المعادلة بوضوح بقوله إن “أكثر من 200 ألف مستوطن تحولوا إلى لاجئين ولن يعود أحد منهم” وهو ما يعني عنوان “القضاء على المقاومة” ليس سوى محاولة للهروب من الواقع الذي قضت فيه المقاومة على أمن الكيان ومستوطنيه ودفعتهم بسرعة مفاجئة نحو مصيرهم النهائي وهو المغادرة والرحيل.
فلسطين ليست وحدها:
الأمر نفسه بالنسبة للهدف الثالث المتمثل في “ردع أعداء إسرائيل في المنطقة” فمعطيات معركة “طوفان الأقصى” أثبتت بشكل جلي أن الخطر الإقليمي الذي يواجهه كيان الاحتلال وحلفاؤه كبير جِـدًّا، وَإذَا كان ردود فعل محور المقاومة وتهديداته قد أصبحت قيمة رئيسية في حسابات العدوّ بشأن فلسطين، فَــإنَّ الحديث عن القيام بردع هذا المحور هو أَيْـضاً مُجَـرّد دعاية أُخرى لرفع المعنويات لا أكثر.
وقد أثبتت معركة “طُوفان الأقصى” أن استراتيجية “التطبيع” التي يعول عليها كيان الاحتلال كَثيراً في ضمان أمنه واستقرار والتخلص من التهديدات الإقليمية، لم تعد بنفع كبير على تل أبيب، بل جعلت الأنظمة المطبِّعة في مواجهة سخط جماهيري كبير ستكون له تداعيات مستقبلية مهمة.