التطبيعُ مع العدوّ الصهيوني والآثارُ المترتِّبةُ على القضية الفلسطينية.. المقاوَمةُ المُنقِذُ الأخير
المسيرة: محمد يحيى السياني
على وَقْعِ عمليةِ “طُوفان الأقصى” واحتدامِ وتصاعُدِ المعركة العسكرية بين العدوِّ الإسرائيلي، والمقاومة الإسلامية في فلسطين ومحور المقاومة، وما تمخض عنها من تطورات ونتائجَ أضفت على المشهد الفلسطيني، والعالمَين العربي والإسلامي والعالم، تداعياتٍ كبيرةً ومؤثِّرة، ألقت بظلالها على الكثيرِ من الردود والتعاطي السياسي إقليمياً ودوليًّا، مع ما حدث ويحدُثُ اليومَ في غزة، فضلاً عن التطوُّرات المتصاعدة عسكريًّا، بعد دخولِ حزبِ الله والمقاومة العراقية والقوات المسلحة اليمنية، خَطَّ المواجهة ضد العدوّ الإسرائيلي، يحضُرُ اليوم أكثر من تساؤل ويُطرح في إطار زخم المعركة الساخنة مع العدوّ الإسرائيلي، عن أبعاد الصراع في المنطقة وعن أسبابه وتداعياته وآثاره، التي كان لها انعكاسات وتجاذبات على القضية الفلسطينية وعلى خارطة الصراع برمته إقليمياً وعالميًّا.
الصراع له أبعادٌ وجذور تاريخية عميقة تمتد بشكل رئيسي إلى تلك البذرة الخبيثة للكيان الصهيوني التي زرعت في قلب المنطقة بأرض فلسطين العربية منذ أكثر من 75 عاماً، هذه الجذور التاريخية للصراع، بين المحتلّ المعتدي الغاصب، وبين الشعب الفلسطيني المظلوم الذي تُرك لعقود طويلة وحيداً ليواجه مصيره أمام اليهود الصهاينة، المدعومين بقوة من أمريكا والدول الغربية منذ إنشائه وإلى اليوم، والذي لا يزال زخم هذا الدعم مُستمرًّا في صورة تشهد وتكشف حقيقة التواطؤ الأمريكي الغربي مع العدوّ الإسرائيلي المحتلّ، ضد الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة المحقة.
لقد عانى الشعب الفلسطيني طويلاً من هكذا وضعية فرضها عليه واقع الاحتلال الصهيوني لأرضه ومصادرة أبسط حقوقه الإنسانية، وقد وضعته هذه الحالة بين فكَّي عدو مجرم متغطرس ومتجرد من كُـلّ المبادئ والقيم الإنسانية، وبين قريب جائر وأخ متخاذل في محيطه العربي والإسلامي، هذا المحيط الغريب الذي ظل طويلاً يرضخ تحت تأثير الصهيوأمريكية التي كانت وراءَ ضعف وهزالة وسلبية مواقفِهم المتخاذلة تجاهَ الشعب الفلسطيني المظلوم، حتى باتَ لهذا المحيط عنوانٌ مؤسف عكس حالته المزرية والمخزية وعار تأريخي في جبين أنظمته الخانعة للعدو وداعميه.
التطبيعُ.. بداياتُه ونتائجه:
وما ضاعَفَ مأساةَ ومعاناةَ الشعب الفلسطيني جراء خِذلان وتجاهل محيطه العربي والإسلامي لقضيته هو اتّجاه بعض الأنظمة العربية لتطبيع علاقاتها مع العدوّ الإسرائيلي كأحد أهم الطعنات الغادرة وأخطرها على الشعب الفلسطيني وقضيته المحقة، ويمكن إلقاء الضوء بإيجاز على «التطبيع» من خلال طرح بعض النقاط على هذه المساحة، فالتطبيع مفهوم يعني قيام دولة عربية أَو إسلامية بإقامة علاقات طبيعية مع العدوّ الإسرائيلي المحتلّ ومؤسّساته وأجهزته ومواطنيه، عن طريق المشاركة بينهما، وله عدة أنواعٍ: أهمها التطبيع السياسي والاقتصادي والأمني والثقافي ومن أهم أشكال التطبيع، هي تلك الأنشطة التي تهدف إلى التعاون العلمي أَو المهني أَو الفني أَو الاجتماعي، الذي يهدف إلى إزالة الحواجز النفسية بين الطرفين بغرض التقارب، وبالتالي تجاهل حالة الحرب والعدوان القائم على الشعب الفلسطيني والاحتلال الإسرائيلي، والاعتراف بمشروعية الدولة الإسرائيلية على حساب مشروعية الحق الفلسطيني، وهو بالتالي إنكار واضح وصريح لحق الشعب الفلسطيني في أرضه ومقدساته.
لقد جاء التطبيع العربي مع العدوّ الإسرائيلي، تهديداً حقيقيًّا للثوابت العربية والقيم والمبادئ الإسلامية والتي طالما تغنى بها المطبِّعون والمتخاذلون ودجنوا بها شعوب الأُمَّــة حتى باتت تحت أقدام اليهود الصهاينة لعقود طويلة، ولم تكن الأنظمة العربية الحاكمة المتخاذلة أَو تلك التي اتجهت للتطبيع مع العدوّ الإسرائيلي المحتلّ تضع لمطالب الأحرار من شعوبها في نصرة الشعب الفلسطيني أولويةً أَو اهتمامًا، بل كان كُـلّ اهتماماتها وأولوياتها كأنظمة متخاذلة أَو مطبعة هو سعيها الدؤوب لتمكين العدوّ لتحقيقِ مصالحِه ومصالحِ أمريكا كقُربان الطاعة والولاء لهم وكسب رضاهم والتقرُّب إليهم واستجداء الحماية لسلطاتهم كُـلّ ذلك على حساب الثوابت والمسؤولية الدينية والأخلاقية أمام واجباتهم تجاه إخوتهم المظلومين في فلسطين.
التطبيع العربي، ذاته قديم مارسته هذه الأنظمة منذ عقود من الزمان، سواء بشكل علني أَو سري ومباشر أكان أَو غير مباشر؛ فالعلاقاتُ العربيةُ مع العدوّ الإسرائيلي، بدأت بشكلٍ مباشرٍ وعلني عندما وقّع الرئيس المصري الراحل أنور السادات في العام 1979م معاهدة السلام بين مصر والعدوّ الإسرائيلي، كما كانت الخطوة الثانية والمباشرة للعلاقات العربية مع العدوّ هي بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل فيما يُعرَفُ بِاتّفاقية «أوسلو» عام 1993م والتي نصت على أن يعترف الكيان الصهيوني بمنظمة التحرير كممثل شرعي للشعب الفلسطيني، مقابل اعتراف منظمة التحرير بـ”إسرائيل” كدولة على ٧٨٪ من الأراضي الفلسطينية، وقد لاقت هذه الاتّفاقية رفضاً واسعاً وكَبيراً من الشعب الفلسطيني والعربي والإسلامي حتى اللحظة.
بعد ذلك توالت الاتّفاقيات والمعاهدات بين العدوّ الإسرائيلي والأنظمة العربية، وكان أبرزها معاهدة السلام الأردنية مع العدوّ الإسرائيلي أَو ما يُعرف باتّفاق «وادي عربة» في العام 1994م، التي تضمنت اعتراف كلا الطرفين بسيادة الآخر وإقامة علاقات دبلوماسية كاملة بينهما، كانت هذه الاتّفاقيات هي بداية العلاقات العربية مع العدوّ الإسرائيلي المباشرة، وبحسب دراسة نشرت في مجلة «شؤون فلسطينية» أنه في عام 2006م كان للعدو الإسرائيلي علاقات تجارية مع 11 دولة عربية، وعلى مدار العَقدَين السابقَين تم فتح العديد من المكاتب التمثيلية والتجارية بين عدد من الدول العربية والعدوّ الإسرائيلي وجميع هذه العلاقات كان الرابح الأكبر بها هو العدوّ فقط، حَيثُ حقّقت إسرائيل هدفَينِ في آنٍ واحدٍ من تطبيع علاقاتها مع الدول العربية، الهدف الأول: ترسيخ وجودها وتأثيرها في المنطقة وزعزعة التمسك بالثوابت العربية والإسلامية، وبالتالي التخلي عن القضية الفلسطينية، والهدف الثاني هو تلك الأرباح الطائلة التي حقّقها العدوّ نتيجة علاقاته التجارية مع تلك الدول العربية المطبِّعة، فعلى سبيل المثال بلغت قيمة الصادرات الإسرائيلية إلى الدول العربية عام 2008م أرقاماً كبيرة وملفته ففي الإمارات كمثال مطبع مع كيان العدوّ بلغت صادراتُ العدوّ الصناعية إلى الإمارات حوالي 125 مليون دولار وقد تصاعدت وكبر حجم الأرباح والتبادل التجاري في الأعوام التالية، ناهيك عن صفقات الأسلحة التي لا يتم الإعلان عنها غالبًا.
المطبِّعون والمقاومون.. الفروقُ في أنظار الشعوب:
إن مخاطر التطبيع مع العدوّ الإسرائيلي، لا تقتصر على القضية الفلسطينية وأرض فلسطين ومقدساتها الإسلامية «فقط»، بل إنها تمتد إلى ما هو أبعد وأشمل من ذلك، فقد كشفت الأيّام والسنون أن مخاطرَ التطبيع طالت الأُمَّــة الإسلامية كمستهدف رئيسي، من خلال إضعاف الاهتمام بالقضايا التي تهم المسلمين، وتفكيك هُــوِيَّة الأُمَّــة، فبعدَ أن كان التعامُلُ وإنشاء العلاقات مع العدوّ الإسرائيلي خيانةً للأُمَّـة ولفلسطين باتَ اليوم بعد التطبيع علاقات وسلامًا كاذبًا ومخادعًا وتسامحًا وتعايُشًا وما إلى ذلك من المسميات والمصطلحات الفضفاضة المخادعة والتي أفرزت بالتالي نتائجَ وتحولاتٍ خطيرةً في مسار شعوب تلك الأنظمة، حَيثُ نشأ في ظل هذا المحيط الخانع المدجن جيل متخبط في الفكر والمبادئ وغير متمسك بقيمه ومبادئه، بعكس تلك الشعوب الحرة من أبناء هذه الأُمَّــة التي تمسكت بروح المقاومة وناهضت المشروع الصهيوأمريكي، وهي اليوم تخوضُ معركةَ الأُمَّــة في فلسطين ضد العدوّ الإسرائيلي والأمريكي.
مع الأسف أن قطار التطبيع العربي مع العدوّ الإسرائيلي لم يتوقف عند المحطات السابقة فقد هرولت أنظمة عربية أُخرى لتركب قطار العار والخيانة كالنظام الإماراتي والبحريني والسوداني والمغربي وأخيراً السعوديّ الذي كاد أن يعلن تطبيعَه مع العدوّ بشكل علني ورسمي لولا عملية “طُوفان الأقصى” وأحداث غزة التي هزت العالم وأرجأت خطواتِ التطبيع السعوديّ مع العدوّ الإسرائيلي إلى ما ستؤولُ إليه معركةُ “طُوفان الأقصى”، لكن ومما لا شك فيه كحقيقة لا يمكن تجاهلها بأن التطبيع العربي مع العدوّ ساهم وبشكل كبير وكارثي في منح العدوّ مساحةً كبيرةً ليمارسَ توسعاته الاستيطانية في فلسطين ويهيئ له غطاء سياسي من تلك الأنظمة المطبِّعة ليرتكب جرائمَه الفظيعة والبشعة اليوم في غزة، وفي المقابل وأمام خيانة هذه الأنظمة في إقدامها بالتطبيع مع العدوّ الإسرائيلي المحتلّ، كان هناك جانبٌ مشرقٌ يمنحُ للأُمَّـة الأملَ ويمضي بها إلى الشرف والعزة والكرامة والنصر، وقد تمثل لليوم في أحرار الأُمَّــة ومحور المقاومة في فلسطين ولبنان واليمن وسوريا والعراق وإيران الذين يخوضون اليوم معركة الأُمَّــة مع العدوّ الإسرائيلي والأمريكي.
ختامًا فَــإنَّ معركة “طُوفان الأقصى” قد ترجمت بوضوحٍ وبلُغةٍ فصيحة لشعوب الأُمَّــة والعالم بأن تلك الاتّجاهات والتوجّـهات التي أقدمت عليها الأنظمة المطبّعة أَو المتواطئة مع العدوّ المجرم هي اليوم محط ازدراء وسخط شعوبها وشعوب العالم بعد تلك الجرائم الشنيعة التي ارتكبها الصهاينة في غزة، وبات لأحرار المقاومة والمحور الفضل الكبير بعد الله سبحانه، في الشرف العظيم والدور الكبير لصياغة التاريخ العربي الإسلامي المشرِّف وطي صفحة العدوّ الإسرائيلي والأمريكي المجرم من فلسطين والمنطقة، والتي باتت اليوم ومن خلال هذه المعركة تلامس الحقيقة وتعانق حتميةَ الزوال.