خطابُ قائد الثورة: اليمنُ يملأُ فراغَ الجبهة الإقليمية المؤثِّرة في الصراع مع العدوّ الصهيوني
التحالفُ البحري بقيادة أمريكا يوصي السفنَ بالابتعاد عن المياه اليمنية قدرَ الإمْكَان
الإعلامُ العبري يؤكّـدُ أن الدورَ اليمني في البحر الأحمر يمثِّلُ تحدياً كَبيراً لكيان الاحتلال
المسيرة | ضرار الطيب:
مَثَّلَ الخِطابُ التاريخيُّ الأخيرُ لقائد الثورةِ، السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي، وما تضمَّنَه، من إعلان خطوات عسكرية غير مسبوقة ضد الكيان الصهيوني، تأكيدًا جديدًا على أن دخول صنعاء على خط معركة “طُـوفان الأقصى” لم يكن مُجَـرّد تفصيل لحظي عابر، بل اقتحامٌ لمرحلة جديدة من تثبيت المعادلات الاستراتيجية التي ترسخ دور اليمن كلاعب إقليمي ودولي في مستقبل المنطقة والصراع مع العدوّ الإسرائيلي الأمريكي، ذلك أن إعلان اعتزام استهداف السفن الإسرائيلية في البحر الأحمر وباب المندب يرسي موازينَ جديدةً في ميدان الأمن البحري بالمنطقة والذي ظلت الولايات المتحدة والكيان الصهيوني يعتبرانه مسرحًا مفتوحًا خاضعًا لسيطرتهما الكاملة طيلة العقود الماضية، الأمر الذي يعني أن كُـلّ حساباتهما بشأن المستقبل الآن ستكون متأثرة بصورة مباشر بدور اليمن وقراراته، وهو ما يؤثر مباشرة على وجود كيان الاحتلال وبقائه.
في التعليقات على وعيد قائد الثورة بضرب السفن الإسرائيلية في البحر الأحمر وباب المندب “والتنكيل بها” أجمع المراقبون على أن اليمن بقيادة السيد عبد الملك الحوثي يتمكّن اليوم ولأول مرة من استخدام مزايا موقعه الاستراتيجي التي ظل محرومًا منها؛ بسَببِ الهيمنة الأمريكية والغربية على قراره وعلى المنطقة؛ وهو ما يعني أن القرار بحد ذاته يمثّلُ سقوطًا تاريخيًّا لهذه الهيمنة وإيذانًا بمرحلة جديدة كليًّا لا يمتلكُ فيها العدوّ الصهيوني الحريةَ المطلقةَ للتحَرّك في المنطقة بوصفها خاضعةً لسيطرة رعاته، بل يواجه قوةً رادعةً ومؤثرة تجعله يقف أمام حقيقة أن الغرب عاجز عن حمايته وأنه في خطر مُستمرّ.
هذا ما عبّر عنه بوضوح سلوك العدوّ الصهيوني الذي حرص قائد الثورة على أن يكشفه في خطابه الأخير عندما أشار إلى أن العدوّ يلجأ إلى التهريب والتمويه وإغلاق أجهزة التعارف، ولا يجرؤ على رفعِ أعلامه، موضحًا أن ذلك يدلِّلُ على تأثير وجدوى الدور الذي يلعبه اليمن اليوم في الصراع.
وهذا أَيْـضاً ما أكّـده ما يسمى “التحالف الدولي لحماية الملاحة البحرية” الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، والذي أصدر يوم الخميس برقية للسفن وشركات الملاحة بضرورة “الابتعاد أقصى مسافة ممكنة من المياه الإقليمية اليمنية” عند العبور في الطرق المؤدية إلى باب المندب، موصيًا بـ”العبور ليلًا عندما يكون ذلك ممكنًا لتجنب التعرف البصري”.
وتشير هذه التعليمات بوضوح إلى خشية الولايات المتحدة الأمريكية من تمكّن القوات البحرية اليمنية من التعرف على السفن الإسرائيلية وتنفيذ تهديد قائد الثورة الذي كانت القوات المسلحة قد أعلنت على لسان العميد يحيى سريع أنه دخل حَيِّزَ التنفيذ، وهو مشهد غير مألوف بالنظر إلى حجم الهيمنة التي مارستها الولايات المتحدة على الممرات المائية في المنطقة طيلة العقود الماضية والتي وصلت إلى حَــدّ محاولة إنشاء قواعد عسكرية مطلة على باب المندب (في جزيرة ميون) لضمان سيطرة كاملة على خطوط الملاحة.
وكانت القوات المسلحة قد وضعت الولايات المتحدة بصورة مباشرة أمام المعادلة الجديدة في البحر عندما تمكّنت قبل أَيَّـام من إسقاط الطائرة الأمريكية المتطورة وعالية الكلفة (إم كيو 9 -ريبر) فوق المياه الإقليمية في عملية مثّلت صفعة قاسية اضطرت واشنطن إلى ابتلاعها وتغليفها بإعلان “الاحتفاظ بحق الرد”؛ تجنُّبًا لأية تحَرّكات تصعيدية قد تفجر الوضع وتفضي إلى المزيد من العمليات التي قد تكون ذات تداعيات واسعة في البحر الأحمر.
والمعادلة الجديدة التي أرستها القيادة اليمنية في البحر الأحمر وباب المندب من خلال إسقاط الطائرة الأمريكية ووضع السفن الإسرائيلية في دائرة الاستهداف، لم تكن تطوُّرًا منفردًا بلا سياق؛ فهي تأتي ضمن تواجه واضح ومعلن للانخراط في الصراع المباشر مع العدوّ الصهيوني بكل الإمْكَانات والقوة المتاحة وإلى أقصى حَــدّ ممكن كما تأتي في إطار جهود حثيثة مُستمرّة منذ سنوات ومعلنة للعب دور مؤثر في البحر الأحمر وباب المندب، وفقًا لمقتضيات السيادة الوطنية واستحقاقات الموقع الاستراتيجي لليمن.
وقد حرص قائدُ الثورة على توضيحِ ذلك في خطابه الأخير، من خلال التأكيد على أن القوات المسلحة لن تتردّد في ضرب كُـلّ ما يمكن أن تصل إليه من أهداف للكيان الصهيوني داخل فلسطين المحتلّة وخارجها.
وبعبارة أُخرى: إن انخراطَ اليمن في الصراع مع العدوّ الإسرائيلي، سواء على مستوى الضربات الصاروخية والجوية أَو على مستوى المعادلات البحرية، يأتي نابعًا من مشروع تحرُّريٌّ يتبناه اليمن بوصفه قوةً إقليمية مؤثرة تبني ترسانتها العسكرية ومواقفها السياسية وتوجّـهاتها على الأَسَاس، مع ملاحظة أن هذا المشروع لا يقومُ على حسابات خَاصَّة، بل يخدم القضايا المركزية المشتركة للمنطقة وينطلق من دوافعَ نقية لإنهاء حالة التفكك العربية والإسلامية ومنع استفراد الأعداء بالشعب الفلسطيني ومقاومته، وقد بات واضحًا أن كُـلّ الصراعات التي تشهدها المنطقة لا تنفصل عن الصراع الأَسَاسي مع العدوّ الإسرائيلي ورعاته الأمريكيين.
والحقيقة أن تثبيت هذه الدور الإقليمي المؤثر يعتبر أمرًا ضروريًّا وواجبًا، خُصُوصاً بعد أن احتكرت قوىً أُخرى هذا الدور وسخّرته في سبيل خدمة العدوّ الصهيوني والهيمنة الأمريكية؛ لتتسبب بحالة الخذلان الفاضحة التي تعيشها المنطقة اليوم إزاء مظلومية الشعب الفلسطيني.
وقد أوضح قائد الثورة أَيْـضاً هذه النقطة عندما أكّـد أن الخطوات التي تقوم بها صنعاء لمساندة الشعب الفلسطيني ومقاومته ليست لحسابات سياسية خَاصَّة أَو للتفاخر، بل لتحمل المسؤولية إزاء الصراع المفروض على المنطقة والذي يجب أن يلعب فيه الجميع أدوارًا مؤثرة.
هذا الطريق الذي فتحته القيادة اليمنية نحو فرض معادلات إقليمية جديدة تعيد ضبط موازين القوى في حاضر ومستقبل المنطقة من واقع المسؤولية، يمثّل مأزِقًا كَبيراً للعدو الصهيوني ورعاته الأمريكيين؛ لأَنَّه يضعهم أمام تهديدات جديدة ذات تداعيات مزلزلة لا يمكن القضاء عليها أَو إزاحتُهَا عن المشهد لا بالقوة وبالمساومات، وقد أثبتت تجربةُ العدوان على اليمن بالفعل فشلًا ذريعًا في محاولة احتواء الدور اليمني الإقليمي حتى قبل بروز معادلاته، فكيف وقد برزت.
وقد سلّطت وسائلُ الإعلام الصهيونية الضوءَ على هذا الجانب أَيْـضاً، حَيثُ أشَارَت إلى أن قائدَ الثورة “رفض عروضًا أمريكية مقابل تجنُّب الدخول في قتال إلى جانب الفلسطينيين” موضحة أن “أي عمل عسكري ضد الملاحة الإسرائيلية في البحر الأحمر ومضيق باب المندب سيكون تحدياً كَبيراً لإسرائيل” وأن من وصفتهم بالحوثيين “يمتلكون صواريخَ ساحلية ووسائل أُخرى تمكّنهم من تنفيذ هذا التهديد بما في ذلك السيطرة على سفن تجارية إسرائيلية”.
ويؤكّـدُ هذا التناوُلُ أن خطرَ اليمن على أمن ومصالح الكيان الصهيوني وبالتالي وجوده أصبح أمرًا واقعًا، بل ومرشحًا للتصاعد أكثر، الأمر الذي يعني أن اليمنَ قد نجح بالفعل في تثبيتِ دوره وموقعِه كجبهة إقليمية ضاغطة ومؤثِّرة على مسار الصراع مع العدوّ الصهيوني؛ بما يتضمنه ذلك من مواجهة ومجابهة للولايات المتحدة الأمريكية ونفوذِها