عن «الجزيرة» وسرديّتها للحرب على غزّة
إبراهيم الأمين*
بعد انطلاقة «الربيع العربي»، تصرّفت قناة «الجزيرة» على أن ما يحصل، في جانب منه، كان ثمرة نشاطها خلال العقد الذي سبق بداية «الربيع»، عندما فُتح الهواء أمام أحزاب وشخصيات عربية لتعرض وجهات نظر كانت ممنوعةً من الوصول إلى الجمهور، ووصل الأمر بمسؤولين في القناة القطرية – العربية إلى حَــدِّ الاعتقاد بالقدرة على إحداث انقلاب في هذا البلد أَو ذاك. إلا أن الخطأَ الأكبرَ وقع عندما تبنّت القناةُ خطاً تحريرياً مخالفاً للمبادئ التي قامت عليها، وتحوّلت في اليمن وسوريا وليبيا، أقرب إلى الإعلام الحزبي؛ ما أَدَّى إلى مقاطعة واسعة لها، قبل أن تقرّ «الجزيرة» بأن عنوان مقاومة العدوّ الصهيوني هو الوحيد الذي يعيد الإجماع على متابعة من يتبنّاها. وترافق ذلك مع تغييرات شهدتها القناة قبل أن ترسوَ على إدارتها الحالية التي يُفترَضُ أن تشهد، في وقت ليس بعيدًا، تغييراً جديدًا، وعلى مستوى نوعي.
في الموضوع الفلسطيني، من السذاجة الحكمُ على تأييد القناة للفلسطينيين بأنه ليس سوى حيلة. هذا تشخيص غير واقعي، وفيه قدر كبير من التعسّف؛ إذ يتجاهل أن في قيادة قطر، بعد انقلاب التسعينيات، من يناصر القضية الفلسطينية. كما أن العلاقات التي أقامتها الإمارة مع “إسرائيل”، بطلب وضغط من الولايات المتحدة، لم تشهد حرارة بالقدر الذي يلزم الدوحة مراعاة العدوّ. أضف إلى ذلك أن قطر لم تذهب بعيدًا مع العدوّ في بعضِ الأمور كما هي حالُ مصر والأردن والإمارات مثلاً. ويعرف كثيرون من أهل المقاومة، ومن خصومها، أن هذا الموقف لم يكن مفتعلاً، ولا تحايلاً لكسب شعبيّة عربية أَو إسلامية، وإن كان حاكم الجزيرة الصغيرة قد أحسن استخدامَ هذه الورقة في كثير من المفاصل، وصارت القناة أدَاةً فعّالةً في أدوار الوساطة التي تلعبُها قطر على أكثر من صعيد. كما أن الغرب ليس معجباً كَثيراً بالقناة القطرية، ويمارس ضغوطاً مُستمرّةً لتعديل نمط تغطيتها.
لكنّ هناك بُعداً آخر لدى قيادات هذه الدولة يتعلق بموقف حكامها من الحركة الإسلامية في عالمنا اليوم؛ إذ إن قيادة الإمارة الوهَّـابية معجبة بتنظيم «الإخوان المسلمين»، وتجده الأقربَ إلى عقلها السياسي. ويبيّن التدقيق أن الأمر لا يتعلق بفكرة «الإخوان» العامة، وإنما بالتيار الذي واجه إخفاقاتٍ كثيرةً، فتحوّل إلى اعتناق براغماتية، هي في الواقع تعبير لطيف عن الليبرالية التي تحكُمُ عقلَ غالبية كبيرة في جسم “الإخوان”؛ نتيجةَ تأثير المدارس البريطانية والأميركية. كما أن قطر تماهت مع المنافسة الخلافية الحادّة بين التيار الليبرالي في التنظيم، والتيارات الأُخرى، سواء الجهاديون السُّنَّة منهم، أَو التيار الإسلامي الشيعي، وهو ما يفسّر جانباً من طريقة اختيار المرشحين للمناصب القيادية المؤثّرة في إدارة محتوى «الجزيرة».
ولأنه لا يحق لأحد مطالبةَ الآخر بتبنّي قناعاته، فَــإنَّ النقاشَ مع «الجزيرة» ينبغي أن يُحصر بخطِّها المهني، انطلاقاً مما تقول هي إنها تعتمده. وهنا، تكمن مناقشة تغطية القناة للعدوان على غزة، حَيثُ تظهر فروقات تتحوّل في لحظة إلى عنصر يؤثر سلباً على فكرة المقاومة من أصلها.
تتمثّل القناة بالأدوات الغربية لصناعة المحتوى الإعلامي. وهي تقول إنها مستقلّة وموضوعية وخلاف ذلك من العبارات التي تنهار كُـلّ يوم، مع الانهيار الأخلاقي لإعلام الغرب. و«الجزيرة» عندما أعطت لنفسها صفة المعبّر عن الرأي والرأي الآخر، لا تفعل ذلك بصورة صحيحة، لا أخلاقياً ولا مهنياً، عندما يتعلق الأمر بالعدوان على فلسطين، إذ لا مكان لفكرة النقاش النقدي بين وجهتَي نظر في حالة حرب كالتي يشنّها العدوّ على غزة. وطالما أن القناة تعتبر قواعد العمل البريطانية والأميركية المثل الأفضل مهنياً، فما عليها سوى تقليدها في حالتنا اليوم: هل يفتح الإعلام الغربي الهواء لناطقين باسم المقاومة؟ وهل يسمح بعرض رواية أُخرى للوقائع الجارية على الأرض؟ الجواب لا بالطبع، بل على العكس من ذلك، تجنّد هذا الإعلام كله لخدمة أهداف العدوّ بشيطنة حركة حماس، وتحويلها من حركة تحرّر وطني ومقاومة مشروعة إلى مجموعة من الإرهابيين القتلة.
في هذه الحالة، عندما تعرّف القناة جيش العدوّ بأنه جيش احتلال، وتعرض لما يرتكبه من جرائم موصوفة، لا يعود منطقياً منح المجرم مساحة مفتوحة من الهواء ليبرّر جريمته؟
وليس صحيحاً على الإطلاق اعتماد قاعدة التماثل بين الناطق باسم كتائب القسام «أبو عبيدة»، والناطقين باسم جيش العدوّ وهم يقدّمون روايتهم عن ذبح النساء والأطفال. ولا يحتاج الجمهور إلى من يساعده في التمييز بين حقائق «أبو عبيدة» وبلاهة الناطقين باسم العدوّ. ولكن، عندما تقرّر «الجزيرة» فرض صوت المجرم على الجمهور، تكون كمن يساهم في الحرب النفسية ضد الضحايا.
وفي هذا سقطة أخلاقية، وحتى مهنية، للقناة، وفي كُـلّ مرة ينتفض زملاء في القناة ويلجؤون إلى إهانة الضيوف الإسرائيليين أَو المدافعين عن إسرائيل، يفعلون ذلك عن قناعة تظهر في تعابير وجوههم، لكنّ الأمر لا يمكن أن يكون «مهنياً» و«موضوعياً» على طريقة إدارة القناة.
الأمر الآخر، يتعلق بسياق التغطية وارتباطه بأهداف الحرب المعلنة من الطرفين. صحيح أن «الجزيرة» ليست قناة المقاومة في فلسطين أَو خارجها، لكن لا يمكنها أن تخدم – من حَيثُ تدري أَو لا تدري – أهداف العدوّ. وكما أنه ليس مطلوباً منها أن تروّج لشعارات المقاومة، فَــإنَّه ليس مهنياً ولا أخلاقياً تبنّي إطار العدوّ للمعركة.
الهجوم على المستشفيات في غزة أمر مهول، ولو أن للعدو سوابقَ في هذا المجال. والتركيز عليه؛ مِن أجل فضحه عمل أَسَاسي. لكنّ المثير للريبة هو السير مع الأجندة الإسرائيلية. العدوّ يحاول منذ اليوم الأول إيجاد مخرج شكلي لهجومه العنصري والوحشي على المستشفيات، فاخترع قصة أنها تضمّ قواعد للمقاومة، فهل يُفترض بـ«الجزيرة» أن تختصر معركة غزة الكبيرة، بما يحصل في المستشفيات فقط، أَو حتى في تكريس صورة الدمار والتهجير، وكأنها تشارك العدوّ في كيّ وعي الناس وتحذيرهم من فعل المقاومة وكلفته؟ وعندما تقرّر القناة الحديث عن تأثير الحرب على كيان العدوّ، تجدها تلجأ إلى عرض مقتطفات من إعلام العدوّ الذي يخضع للمرة الأولى في تاريخه لهذا النوع الشديد من الرقابة العسكرية.
لا أحد يريد من «الجزيرة» أن تعمل وفق أجندة حماس وحلفائها في العالم العربي والمنطقة. ولكن، كيف تبرّر القناة، مهنياً وأخلاقياً، تجاهل عناصر لها صلة بالحرب الجارية؟ وكيف لها، مثلاً، أن تتجاهل إعلان قائد اليمن السيد عبد الملك الحوثي استعداد بلاده لإقفال باب المندب، وضرب كُـلّ السفن التجارية العائدة للعدو في البحر الأحمر؟ وهل تفعل ذلك لأسباب سياسية، أم أن هذا ليس خبراً مهنياً يستحق التغطية؟
ليس مطلوباً من «الجزيرة» أن تمنح العلامات لهذا العمل أَو ذاك من أعمال المقاومة خارج فلسطين. وليس مطلوباً منها أن تضخّم حجم الدعم الذي تقدّمه قوى المقاومة لأهل غزة ومقاومتها. لكن، أليس حرياً بها أن تميّز بين الوقائع المعبّرة عن أحداث حقيقية وعن وجهات سياسية كبيرة، أم أنها تبحث عمّا يجذب الجمهور أكثر؟
ساعات البث الـ 24 المفتوحة تكفي لفعل الكثير مهنياً، ولتغطية أشمل مما هو قائم حَـاليًّا. وحكاية المقاومة في غزة لا تُختصر فقط بالجانب الإنساني، على أهميته، ولا في قراءة ما يجري من انعكاسات سياسية للحرب على المنطقة والإقليم. والتلاعب بالحقيقة يجري من خلال آليات مكشوفة، في أُسلُـوب التغطية المباشرة، واختيار الضيوف، وطريقه إدارة الحوار معهم، وحتى العناوين التي تريد القناة التركيز عليها.
من يتعامل مع ملف العدوان على غزة على أنه امتداد لصراعات سابقة، هو بالضبط، من يريد ربط الحق الفلسطيني بالتوافقات السياسية الإقليمية والدولية. وهو بالضبط، كمن يريد أن يفرض على الشعب الفلسطيني خياراً دون غيره. والتجربة الطويلة علّمتنا جميعاً أن للمنصات الإعلامية دورها الكبير عندما تحترم عقول الجمهور، لا عندما تحاول التذاكي والتشاطر على طريقة الإعلام الغربي الذي يواجه اليوم أكبر أزمة أخلاقية ومهنية في تاريخه.
ثمّة عشرات من الأمثلة المهنية التي يمكن مُحَاجَّة «الجزيرة» بها. وهناك عشرات الأفكار التي تجيد القناة نفسها تنفيذها لو أنها تلتزم الخيار المهني فقط. وضغط إسرائيل وأميركا على قطر لا يمنع من ضرورة النقاش مع واحدة من أبرز المنصات الإعلامية التي أنتجها العرب خلال عقود طويلة. وهو نقاش ضروري عندما تتحوّل القناة إلى صانع محتوى يؤثّر ليس على عقلك فقط، بل على حواسّك قبل كُـلّ شيء.
* الأخبار اللبنانية