في ظل “الطوفان”.. برز شعبُ الإيمان وقائدٌ من القرآن

المسيرة: وليد الوشلي:

لقد أُصيب الكيانُ المؤقَّتُ في مقتل، ذلك الوحشُ العِملاقُ في لحظة مزلزلة مذلةٍ مخزية وهو يجدُ جذورَه قد يَبِسَت، كيانُه قد تخلخلت أَسَاساته، يرى الفرارَ إلى البحر منجاةً من بقائه ساعةً على تراب فلسطين الملغم، على يابسة متحَرّكة على أرضية يخرج من باطنها مقاتلون لا يقفُ أمام بنادقهم أقوى جيش أقوى دولة أعتى كيان، في ملحمةِ الطوفان، يومَها تساءَلَ جيلُ النكبة أَو من بقي منهم أتراها معركة التحرير أَو وعد الآخرة؟ وبحسرةٍ أردفوا: “ليت العربَ التقطوا الفرصةَ، واعتلوا موجَ الطوفان، وأنهوا الغُصَّةَ والنكسة”.

 

غزّة.. من ينجو مِن طوفان الدم؟!

أسابيعُ من الذبح الذريع من الإبادة النازية جرت أمامَ عيون العالم أمام مرأى الشعوب دقيقةً دقيقةً ومجزرةً مجزرةً، تسارع عداد الضحايا بما لا تغطّيه دموع اليهود، وتهاوى الإنسان في غزة مصلوبًا تقطِّعُه سكينُ اليهود، اهترأت عناوينُ الدفاع عن النفس بمشاهد حاملات الطائرات تهب من الغرب لتشاركَ القط المدلل في الذبح والتقطيع والتمزيق والسلخ، وتكاثفت صور الدماء والأشلاء في هولوكست مفتوحٍ حتى آذت أرواحَ المتفرجين ووخزت ضمائر المشاهدين وأوجعت قلوب الشعوب وأثارت أصوات الناخبين وأرقام الزبائن والعملاء والمشتركين والمستهلكين، ذلك كله جرى ويجري في أُمَّـة لم تفعل شيئاً أكثرَ من لعن نفسها ونعي موتها وإعلان عجزها ودعوة مكرّرة لاستباحتها، حدث كُـلّ ذلك ويحدث، وسبع وخمسون عاصمةً لا أنينَ فيها إلا لشعوب تتوجع ملء الشوارع، يحصل ذلك كله واثنتان وعشرون عاصمةً لا موقف لها إلا بجماهير أخرجها الغضب إلى الساحات.

لم يتحَرّك الإخوة، لم يخجل الجيران، لم تتململ الأنظمة بقرار بإجراء ببيان بقمة باجتماع إلا بعد أن خشيت من غضب الشعوب كاد يحيطُ بها من سخط الجماهير أوشك أن يصلها.

 

وماذا فعلَ اليمن؟!

لم يكن اليمن الذي يبعُدُ عن غزةَ ٢٠٠٠ كم بأول المسؤولين عن تحَرّك عن فعل، لم يكن اليمن الذي يرزح تحت ٩ سنين من عدوان أمريكي سعوديّ إسرائيلي إماراتي بأول المطالبين بموقف بمبادرة، ولم يكن اليمن أول المدعوين لإغاثةٍ ومساعدة وهو الذي ما يزال محاصَرًا من مرتباته للسنة الثامنة، لكنه كان منذ أول يوم من “طُـوفان الأقصى” في الميادين والساحات حاضرًا ومتفاعلًا ومبادرًا صادقًا، خرج إلى الميادين بسلاحه ببندقيته بجنبيته خرج هاتفًا لافتاً صارخًا متوعدًا اليهود بالموت وأمريكا بالزوال، هذا شعبيًّا، وأما رسميًّا فكان قائدُ الثورة أول قائد عربي يعلن بوضوح وقوف اليمن مع فلسطين بكل إمْكَانيات التضامن والنصرة ويصدح بجلاء إعلان الحرب على إسرائيل بكل وسائل المشاركة.

لم تتأخرِ المشاركةُ اليمنية العسكرية في المواجهة بعمليتَي إطلاق دفعات من الصواريخ الباليستية والمسيرات، تلتها عملية ثالثة بالإعلان الرسمي عن تبنيها جميعاً، وتبعت الثلاث رابعةٌ وخامسة أخرجت العدوّ من تكتمه وانتزعته من مأمنه ورواغه.

كان الموقفُ اليمني هو الأبرزَ على بُعده الجغرافي، والأقربَ رغم محدودية تأثيره التكتيكي، كان هو الموقفَ الأعلى استراتيجياً والمشاركة الأشد أثراً في قلق اليهود وتربصهم، وعلى نحو أوصل رئيس حكومة العدوّ ليستدعي الولايات المتحدة الأمريكية علنا كي تتعامل هي مع هكذا موقف وهكذا رد.

عُقدت القمة العربية والإسلامية، مرت مرور الهوام وعبَّرت كإعلان تجاري غير مرغوب فيه ولا منتظِرَ له ولا معوِّل عليه، مرت بما لا يفاجئ وبما لا يناصر أَو يبقي ذرة من أمل للشعوب في أنظمتها وللأُمَّـة في حكوماتها.

 

الحوثي سيِّـدُ العرب:

وجاء خطابُ قائد ثورة اليمن، قائد المسيرة القرآنية، السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي، بمناسبة تدشين فعاليات إحياء ذكرى الشهيد السنوية، بصفتي مواطنًا يمنيًّا يناهز الأربعين، وبقراءتي الممتدة لعقود طويلة من تاريخ بلادي وتاريخ المنطقة العربية وطبيعة الظروف والأحداث والمواقف والتحولات الكبرى في الصراع العربي اليهودي، لم أكن لأتوقع في خطاب مناسباتي كهذا أن يرتفع الموقفُ اليمني إلى هذا المستوى الذي هزئ بكُلِّ توقعاتي واستشرافي للخطوات القادمة للتعاطي الراهن للتكتيكات التالية للمستجدات من الرسائل والدلالات.

هذا الخطابُ التاريخي الفارق للأحداث، البادئُ لمراحلَ غير متوقعة، الخاتِمُ لمراحل طالت وخيمت وجثمت طويلًا، بلغت دهشتي منه مبلغها في شجاعة هذا القائد الشاب وتواضعه، في حكمته وَتوازنه في انضباطه العاطفي وحساباته العملية، وقبل كُـلّ ذلك في صدقه ومصداقيته.

دعونا من التحليلات السياسية المثلَّجة والتفكيكات الجيوسياسية المعلَّبة، دعونا مِمَّا تقدمه مراكز البحوث ومعاهد الدراسات ومما تنشره أجهزة الاستخبارات، فنهاية جميعها أن تغرقنا في المشكلة وتبتعد بنا عن الأمل وتتوهنا عن النقطة التي يتخوف العدوّ من التنبه لها والاجتماع عليها والالتفاف حولها.

دعونا من مجابر المقائل والجلسات، دعونا من ملاحق الأخبار وخبراء النشرات وتحاليل القنوات، دعونا نغيّر من طبيعة استقبالنا التقليدية لما تم إرساله إلينا لنسمعه ونتأثر به دعونا أن نغير من طبيعة تفكيرنا التقليدية لما تم طباخته وتحضيره لنا لنمرره ونتبناه ونردّده، فما قاله هذا القائد المتواضع لَحقيقٌ بنا أن نعيَه، وما ألقاه هذا الشاب الواثق بربه لَجديرٌ بنا أن نفيدَ منه ونفكّر به؛ فما هو بالذي يهمه تحزبات وتكونات ليناور ويراوغ، ولا هو بالذي يعمل حساب الانتخابات ليدغدغ العواطف ويجيش المشاعر.

هذا القائد، بصدقه العجيب المدهش، بتواضعه الكبير، بواقعيته المحيرة، بالجدوائية غير المعهودة من حكمته، بتعاطيه المبهر من منهجيته، بصدق وعوده بمصداقية مواقفه، ستُغيِّر -أمام منطقه، أمام كلماته، أمام خطابه- دينامية تفاعلك وطرائق تلقِّيك وطبائع انتقائيتك، سترى قائدًا كما لم تعرف، أن أكبرَ الضغوطات عليه ما ينزل من الله، وستقف لأول مرة أمام قائد، لا أشد من التهديدات له مثل التي هي من عند الله.

ليس كما عهدنا من قادة يتلاعبون بالكلمات لتلتهب أيدينا بالتصفيق، وليس كمن عرفنا يستعملون عواطفنا لاستبقاء أصواتنا، ليس كمن شهدناهم عقودًا يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، ويحبون أن يختفوا عندما نهزم.

إن كان نصرًا هَبَّ مهنئًا شعبه مُثنيًا على صامديه بما صبروا وعلى المجاهدين بما صمدوا ناسبًا فضل تحقّقه لله حامدًا له شاكرا إياه سبحانَه، وإن كان تراجُعًا انبرى ليواسي من ارتبك، برز ليسد ثغرة فتحت، حضر ليعيدَ ترتيبَ الصف ليبيِّنَ مكمَنَ التفريط ليوضح مُبهَمَ الخطأ والتقصير.

دعونا من التلميع والترميز والدعاية والتطبيل، فما لهذا السيد اليمني العظيم أرب من مديح يُثني ولا عطاء منه لإطراء يروّج ولا مثوبة من لدنه لمقال يسوّق.

يعلم الله أنني كمواطن من الشعب اليمني لم أرَ وأشاهد خطابات فيها الصدق حاضرًا بكل تلك القوة إلا في كلماته لم أرَ ثقةً بالله وبنصره بعونه بلطفه بتوفيقه ورعايته هي أوثق وأصدق وأعمق من تلك التي أشعر بها من ثقته بالله وتوكله عليه.

وأتحدى كُـلَّ يمني عمرُه أربعين سنة وما فوق، أن يقول غير ذلك وهو منصف متجرد صادق مع نفسه، كُـلّ يمني يخاف الله ويخشى من عقوبة الكذب والتزييف والمجاملة ويبتعد عن المماحكة والمنافحة والمجادلة.

اسألوا راجعوا انبشوا دققوا تأملوا استمعوا جيِّدًا بكل حواسكم لكل كلمة من خطابات من سبقوا لكل مواقفَ من ترأَّسوا وتزعَّموا وتفخَّموا وتسلَّطوا علينا أكثر من نصف قرن إلى اليوم، هل ستجدون إلا خداعًا للشعب يقولون أمامه ما لا يفعلونه خلفَه، يظهرون له ما لا يخفونه عنه، يُبدون وطنيتهم قباله غير تلك الخيانات التي كانوا يخفونها.

هل سمعتم وتسمعون من قبلُ وفي الحاضر قائدًا في مثل ظروف بلده في عمق مأساة شعبه في وسط مخاطر واقع يتربص به، يقول بكل ثقة بالله بكل صدق في تنفيذ الوعيد، بكل جد في فعل ما يقول وعمل ما يتفوه، لن نتردّد في استهداف العدوّ الإسرائيلي، سننكل بهم، عيوننا مفتوحة حتى نظفر بهم، في البحر الأحمر، في باب المندب، إلى أبعد ما يمكن أن تصل إليه أيدينا، لن نألوَ جهدًا، السفن الإسرائيلية المموِّهة الخائفة.

لا تباهيًا ولا تفاخُرًا، لا عنترياتٍ وخطابيات وصوتيات ومواقف بالونية فضفاضة براقة، بل هو إعلان واضح وصريح وبأعلى صوت يسمعه العالم ويبلغ مرامي أطراف الدنيا يقول: موقفنا مسؤول، موقفنا إيماني مبدئي إنساني أخلاقي، مواقفنا ليس للمفاخرة ولا لتسجيل المواقف السياسية.

تَحَــــدٍّ، كبرياء، قوة وعزة في الموقف في التعاطي مع: تهديدات ورسائل مباشرة، بعودة العدوان، إفشال وإيقاف التوصل لاتّفاق مع العدوان، بقطع المساعدات، وما تشمله هذه الرسائل طبعًا من مهدّدات مباشرة وشاملة وتلقائية بالضرورة وهي بالتحديد للأمن من الداخل لإعادة الاقتتال والإشغال العسكري من المحيط المحلي والجوار والإقليمي مهدّدات بتشديد الخناق للاقتصاد للوضع المعيشي بالحملات الإعلامية المشوهة المضللة المحرضة، مكاشفة عجيبة بالإفضاء للشعب بأساليب الضغط والتهديد ووسائل التعاطي الترغيبية والترهيبية في المنهجية الأمريكية الإسرائيلية في التعامل مع الأنظمة في المنطقة وفي العالم.

إنه لَجديرٌ بنا وحقيقٌ علينا أن نكونَ في مستوى الاستجابة والانطلاقة والتحَرّك الجاد والمسؤول والفاعل مع هذه القيادة التي منَّ الله بها علينا، وإنها والله لحسرة ما بعدها حسرةٌ، وخسارة ليس فوقها خسارة أن نتثاقلَ أن نتخاذلَ أن نتثبطَ وقد هيَّأَ اللهُ لنا وقَيَّضَ قيادةً من شعبنا من وطننا من بلدنا اليمن من أمتنا العربية الإسلامية بهذا الصدق بهذه الحكمة بهذا الشموخ بهذه الشجاعة التي ترفع الرؤوس التي تشرف الانتماء التي تعلي هُــوِيَّتنا التي تزكي نفوسنا التي تنهض بنا من واقع مخزٍ من واقع مذل من واقع مهين وضيع، بما يرفع ذكرنا بين الشعوب وبين الأمم.

إنَّهُ من الأَولى بنا أن نكتب بأوضح خط في أنصع الأوراق أن ننقشه في شغاف القلوب أن نجريه مع الدماء في العروق أن نُحَفّظَه أولادَنا وأحفادنا عن ظهر قلب وخالص حب وولاء ووفاء، ما سطَّره عبدُ الله الصالحُ السيد القائدُ العَلَمُ عبدُالملك الحوثي -رضوان الله عليه-، في هذا الخطاب، في هذا الموقف المشرف، في هذا الوضع الدقيق الحساس المصيري.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com