طوفانُ الأسرى.. انتصارٌ آخرُ لمنطق المقاومة
محمد حسن زيد
يصل الباص وسط الحشود ثم يفتح أبوابه لتخرج الفلسطينيات واحدة واحدة وسط هتافات الجمهور وهُنَّ يرفعن شارة النصر، الدفعة الأولى من الأسيرات الفلسطينيات المحرّرات فتيات وشابات ونساء جميعهن محجبات حجاباً يوحي بالتدين والعفة (ما عدا واحدة فقط خرجت بين الأسيرات المحرّرات وهي بلا حجاب) بل إن بعض الأسيرات المحرّرات خرجت منقبة كأنها سميرة مارش أَو بعض نساء اليمن..
خرجن في ظل شعور عارم بالفرحة وعدم التصديق ليُعانقن الأهلَ ويسجدن لله سجدة شكر ثم يوجهن الشكر للمقاومة التي أنهت “طُـوفان الأقصى” بانتصارٍ آخر لا يقل أهميّة من الناحية الاستراتيجية ألا وهو “طوفان الأسرى”!
فَـ “طُـوفان الأقصى” الذي هز وجود الكيان في أوله ثم كشف حقيقة الكيان في أوسطه نجح بإبراز مظلومية الشعب الفلسطينيّ في آخره، فمن كان يلتفت مثلاً أن هناك نساء فلسطينيات عربيات مسلمات يقبعن في السجون تحت رحمة اليهود؟ وَاللهِ ما كان لهؤلاء النساء أن يخرجن لولا “المقاومة”، فهذا انتصار آخر يُحسب لمنطق “المقاومة” يُلجم كُـلّ مرجف وناعق، ويكفي أن نسمع الأسيرة المحرّرة سارة عبدالله من نابلس تقول بعد أدائها سجدة الشكر: “شكراً لحماس أنا بحب غزة كتير وفخورة فيهم وبالسنوار وبمحمد الضيف، هم الوحيدون اللي وقفوا جنبنا”، وفعلاً جميع الأسيرات المحرّرات لم يَكُنَّ من غَزّة بل من القدس المحتلّة ومن الضفة الغربية وجميعهن يُدركن أنه لولا المقاومة وصمود غَزّة لظللن مدفونات في السجون الصهيونية، أما السلام المزعوم أَو “الاستسلام” الذي تُروج له قوى مشبوهة لا شرف لها ولا كرامة فقد اتضح جليًّا بعد “طوفان الأسرى” أنه لم يكن سوى شرعنة تُبيح لإسرائيل أن تأسر من تشاء من الشعب الفلسطيني بغير حساب!
يُقال إن أحد الجنود الروس نشر عبر السوشيال ميديا صورةً يدّعي فيها بأنه قد أسر مع زملائه المدججين بالسلاح فتاةً أوكرانية معصوبة العينين مربوطة اليدين قد جثت على ركبتيها بين أيديهم وهم حولها يرفعون السلاح ضاحكين، وما أن نشرها حتى انهالت عليه آلافُ التعليقات الساخطة من هذا الإذلال المتعمد والتصرف غير الإنساني، فرد عليهم قائلاً: “عفواً هذه المرأة فلسطينية، وهؤلاء الجنود هم من جيش إسرائيل” فلم يُعلق أحد.. وساد الصمت المُطبق لدى الجميع!
حتى لو لم تكن قصة الجندي الروسي حقيقية فَــإنَّها تُبرز المفارقة التي يعيشها العالم عندما يتعلق الأمر بفلسطين وتكشف نفاق أُورُوبا وأمريكا.
أسرى فلسطين الذين تم تحريرهم مطلع “طوفان الأسرى” كانوا نساءً وأطفالاً أحدهم خرج من السجن وقد كسرت يده، وأُخرى لم تخرج إلا بعد ركلة وداعية عنيفة، وهكذا لكل أسير منهم حكاية يمتزج فيها الدم بالأرض والظلم بالعار الذي لحق العرب والمسلمين ولم يحاول مسحه سوى المقاومة، ليس ذلك فحسب بل لقد نجحت المقاومةُ في إرباك إسرائيل أثناء التبادل وإظهارها عاجزةً حتى عن الحفاظ على قناع تَحضُّرها المفتعل جراء انفعالها وهي التي حاولت وأد فرحة الفلسطينيين عند تحرير أسراهم بمصادرة حلوى الاحتفال حسب ما نشرته صحيفة هآرتس العبرية! فأيُّ إفلاس مثير للشفقة هذا؟
في الجهة المقابلة كيف كان حال أسرى الصهاينة المُحرّرين؟ هنا ستصنع المقاومةُ بُعداً آخرَ لانتصار “طوفان الأسرى” ألا وهو “الانتصار الأخلاقي”، أسيرات صهيونيات “يُودّعن كتائب القسام” فتثور ثائرة الإعلام داخل إسرائيل مُندّدة بهذا التصرف، ليس هذا فحسب بل إن الأسيرة الإسرائيلية دانيال اختارت أن تودع كتائب القسام برسالةٍ خطية تقول فيها “سأكون للأبد أسيرة شكر، لقد كنتم لابنتي إميليا مثل الأب وهي تعترف بأنكم كلكم أصدقاؤها ولستم مُجَـرّد أصدقاء وإنما أحباب جيدون حقيقيون، الأطفال لا يُحبون الوقوع في الأسر لكن بفضلكم ابنتي اعتبرت نفسها ملكة في غزة برغم الخسائر الصعبة التي أصابتكم”.
هذا الانطباع الأخلاقي والتعالي على الجراح ونبذ مشاعر الانتقام يُعدُّ إنجازاً في حَــدّ ذاته أهم من الإنجاز العسكري، فهؤلاء المقاتلون تم تقديمهم في الإعلام الغربي منذ اليوم الأول لـ “طُـوفان الأقصى” على أنهم “داعش” لكنهم في نهاية القصة ظهروا كالفرسان وجسدوا أخلاق الرُّهبان، ذلك؛ لأَنَّ “قضيتهم أعظم في نفوسهم من مظلوميتهم” ومهما فعل العدوّ بهم فلن يدفعهم أن يكونوا وحوشاً متجردة عن الإنسانية مثله..
هذا السمو الأخلاقي للمظلومين يُقابله سقوط أخلاقي وحضاري للصهاينة الظالمين ومن ورائهم أمريكا وأُورُوبا وهذه هي النقطة الجوهرية في صراعنا مع ذلك المسخ الذي يُحب أن يظهر بمظهر التَحضُّر لعله يطمس ما فعله في فلسطين بالفلسطينيين كي يُصبحوا شعباً بلا وطن ويصبح وطنُهم وطناً بلا شعب في أكبر جريمة مُستمرّة على وجه الأرض ليس الصهاينة فيها سوى رأس الحربة بينما العدوّ الحقيقي يرقب من بعيد بلؤم وقسوة من وراء البحار، يستقوي بتفوقه المادي والعسكري والتكنولوجي على أُمَّـة مُشتتة ضعيفة، لا بدَّ لها إن أرادت هزيمته أن تُنجز ثلاث نقاط:
* النقطة الأولى: تقليص الفجوة العلمية والتكنولوجية والعسكرية بين هذه الأُمَّــة وبين العالم الغربي، ولا يكون ذلك إلا بحماية ورعاية عمقها الاستراتيجي وكوادرها العلمية التي تتعرض للاغتيال والاستقطاب، يجب أن نلتفت أنه لولا هذه العقول والجهود لما أمكن إمدَاد قوى المقاومة بالسلاح ولبقيت تُقاتل بالحجارة فقط، فواجبنا ألا نفرط في هذا العمق الاستراتيجي وأن نحميه بحدقات العيون، فالقضاء عليه هو الهدف الرئيسي للعدو، تتكالب قوى الشر والخيانة والعمالة معاً لتحقيقه.
* النقطة الثانية: إخراس أبواق الفتنة التي تنخر صفوف الأُمَّــة الإسلامية وتُحرّضُ ملايين المسلمين لمعادَاة ملايين المسلمين؛ فمثل هذه الدعوات المشبوهة هدفُها واضح مكشوف وهو إيجاد بديل يشغل المسلمين عن عداوة إسرائيل، هدفها هو استخدام المغفلين وتوظيفهم لخوض حروب لا نهائية داخل الجسد الإسلامي نيابةً عن إسرائيل وحمايةً لها وضماناً لبقائها.
* النقطة الثالثة: ألا تتهرب هذه الأُمَّــة المحمدية العظيمة من الشهادة في سبيل الله وأن تصبر، فالله ربُّها قال: “إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ، يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ، وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ، وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ، فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ، وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ”، فلم يتضمن وعدُ ربِّ العِزة أحداً بالخلود من المؤمنين في الدنيا ولا قال إن النصر سيأتيهم دون قتلى ولا تضحيات، فلا بدَّ أن يسقط شهداء في الطريق ولا بدَّ من الصبر حتى تكون الشهادة أحب إلى المؤمن من القتل الذليل تحت سياط الأنجاس.
فبهذه العقلية التي لا تتهرب من الشهادة والتضحيات تستعيد أُمَّـة العرب والمسلمين شرفها الضائع وتستحق النصر، والله المستعان هو نعم المولى ونعم النصير.