أمريكا تُعرِّضُ السلمَ الدولي للخطر

 

د. حبيب الرميمة

عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية 1945م، ونتيجة المآسي التي فاق ضحاياها أكثر من سبعين مليونًا بين قتيل وجريح، تداعى العالم إلى ضرورة تطوير منظومة حماية الأمن الجماعي الدولي، بحيث تتجاوز العوائق التي وقفت دون تحقيق تلك الفكرة أهدافها في ظل المنظومة العالمية السابقة (عُصبة الأمم)، ومن ثم شهد إنشاء منظمة الأمم المتحدة، العديد من المفاهيم من الناحية الموضوعية، وتطوراً في أجهزة المنظمة من الناحية الإجرائية لتحقيق أهم مقصد نص عليه ميثاقها وهو “حفظ الأمن والسلم الدوليين، وتحقيقاً لهذه الغاية تتخذ الهيئة التدابير المشتركة الفعّالة لمنع الأسباب التي تهدّد السلم ولإزالتها” بحسب ما تضمنته المادة الأولى من الميثاق، هذا النص أثار العديد من التفسيرات لدى فقهاء القانون الدولي حول مفهوم الأمن والسلم الدولي الواجب الحفاظ عليه، هل هو مفهوم واحد أم أن هناك اختلافًا بين مفهوم الأمن والسلم الدوليين، فيذهب البعض إلى أنه لا فرقَ بين المفهومَين؛ باعتبار أن الميثاق لم يحدّد مفهوماً معيناً للأمن الدولي دوناً عن السلم، وكذلك الجمعية العامة ومجلس الأمن لم يحدّدا في قراراتهما ما هو الأمن الدولي، إذ غالبًا ما يكتفيان بإيراد عبارتي السلم والأمن معاً عند صدور قراراتهما، وهناك من يميز بين مصطلح الأمن والسلم الدولي بحيث يعتبرهما مصطلحين منفصلين، فيرى أن المادة السابقة قد حدّدت منع الأسباب التي تهدّد السلم دون أن تذكر الأمن، ومن ثم ذهبوا إلى التفريق بين المصطلحين وأن المقصود بالسلم الدولي هو (منع الحروب بين الدول التي من شأنها أن تؤدي إلى حرب عالمية) تعم العالم جميعاً، فالأمم المتحدة لم تقم إلا نتيجة للحرب العالمية الثانية، فجاء خطاب الميثاق لمنع الحروب التي تهدّد السلم والأمن الدوليين، فالمقصود بالسلم الدولي -حسب هذا الرأي- منع الحروب التي تؤدي إلى حرب عالمية بين الدول، وهذا الرأي يحدّد الحروب التي تهدّد السلم الدولي بأنها:

– الحرب التي تقع بين دولتين من الدول الكبرى.

– الحرب التي تقع بين دولتين من الدول المنتجة للطاقة.

– الحرب التي تقع في منطقة جغرافية مهمة تؤثر على الدول مثل الدول المشرفة على الممرات المائية.

– الحرب التي تقع بين دولتين منظمتين إلى تكتلين دوليين، وهذا لا يعني –بحسب هذا الرأي– أن تقف الأمم المتحدة موقف المراقب أَو الحياد ما دون الحروب التي تقع بين الدول والتي تؤدي إلى حرب عالمية، وإنما تحاول تسوية المنازعات التي أَدَّت إلى إثارة هذه الحروب الصغيرة، وعليه سواءً اتحدَّ المفهومان أَو اختلفا ما يهمنا هنا هو التأكيد على خطورة الموقف الأمريكي في زعزعة السلم الدولي وتعريضه للخطر، من خلال الإصرار المتعمد للتغطية على العدوان الذي يشنه الكيان الصهيوني في غزة والعمل على استمراره رغم الخطورة الناتجة عن هذا الصراع، والذي يمكن أن يتحول إلى حرب إقليمية في رقعة غاية بالحساسية، قد تمتد إلى حرب عالمية خُصُوصاً مع ما تشهده المنطقة الأُوراسية في أوكرانيا من حرب منذ فترة طويلة.

وهذا الخرق الخطير المتعمد للموقف الأمريكي من خلال استخدام حق الفيتو في الجلسة السابقة لمجلس الأمن والتي انعقدت استجابةً للمذكرة التي وجهها الأمين العام للأمم المتحدة لمجلس الأمن بتاريخ 6/ديسمبر/2023م، مستخدماً ولأول مرة تفعيل صلاحياته بموجب المادة (99) من الميثاق، مذكراً المجلس أن الوضع الراهن في فلسطين يشكل تهديداً للأمن والسلم الدوليين، مطالباً بوقف إطلاق النار.

ومن ثم فَــإنَّ استخدام أمريكا لحق الفيتو وإفشال قرار وقف إطلاق النار لدواعٍ إنسانية، يجعلها تتحمل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن الخرق الواضح للسلم الدولي، والذي أصبحت مخاطرُه تزدادُ يوماً بعد آخر، خُصُوصاً في ظل الغطرسة الإسرائيلية وحرب الإبادة الجماعية من خلال القصف المتعمد للأحياء السكنية التي تطال قطاع غزة، والحصار الخانق للمدنيين برفض السماح بإدخَال المساعدات الإنسانية كالأغذية والأدوية والمياه الصالحة للشرب بقصد إهلاك متعمد لسكان القطاع.

خلاصة القول هنا: قد يقول قائل إن إفشال أمريكا للقرارات الأممية التي تدين الكيان الصهيوني ليست المرة الأولى بل يكاد أن يكون سلوكاً معتاداً، وهذا صحيح، لكن الفارق في هذا الفيتو أنه جاء على غير عادته من حَيثُ استهتارها الواضح بنصوص الميثاق!

حيث يفترض ابتداءً أن لجوء الأمين العام للأمم المتحدة بتفعيل المادة (99) لتنبيه مجلس الأمن عن وجود تهديد للأمن والسلم الدولي يحتم على المجلس تحمل المسؤولية الملقاة على عاتقه في سبيل حفظ الأمن والسلم الدولي ويتخذ القرار المناسب استجابةً للتنبيه الصادر من أحد أجهزة الأمم المتحدة ممثلاً بشخص الأمين العام، ويشير إلى تغليب الدول الخمس الدائمة في المجلس مسؤوليتها تجاه السلم الدولي دوناً عن مصالحها الخَاصَّة، ومن ثم فَــإنَّ استخدام الولايات المتحدة الأمريكية حق النقض يظهر بجلاء السلوك الأمريكي كدولة غير محبة للسلام من ناحية، والتبعات التي قد يجُرُّها هذا التعنت في توسع الصراع إقليميًّا ودوليًّا، وما قد ينتهي إليه من مآسٍ لا تقتصر على تغيير الخرائط الجغرافية بل تكون إيذاناً بدفن منظومة الأمن الجماعي القائم الذي رهن مصير الأمن والسلم الدوليين بيد دولة مارقة انتصرت قبل عقود من الزمن في حرب لم تدفع ثمنها.

ومن ثم ينبغي على كافة الدول المحبة للسلام، والحريصة على استتباب السلم الدولي، اتِّخاذ كافة الوسائل السياسية والقانونية للضغط على الولايات المتحدة الأمريكية؛ كونها الداعم الأَسَاسي لاستمرار التوحش الصهيوني في غزة لوقف هذا العدوان وعدم توسع رقعة الصراع، خُصُوصاً أن الإدارة الأمريكية بدأت تستشعر خطورة استمرارها في دعم هذا العدوان، وهو ما عبر عنه مؤخّراً الرئيس بايدن بقوله: إن “إسرائيل بدأت تفقد الدعم الدولي نتيجة ما سماه بـ “الضربات العشوائية”.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com