محاولة لفهم تطورات الزمن الجديدة
عبدالرحمن مراد
إذا كانت اليمن قد شَبَّتْ عن الطوق ولم تعد ورقةً على طاولة المصلحة السياسية لدول الجوار والإقليم يمكن اللعب بها وقتما أرادت الرغبات والمصلحة، فَــإنَّ التنظيمات الإرهابية قد تصبح تهديداً حقيقيًّا لأمن واستقرار واستقلال اليمن والإقليم طالما والتحالف العربي الذي يغزو اليمن يستخدم تلك التنظيمات كأدوات وقوة بشرية وثقافية في إدارة معركته في اليمن، ففي المستقبلِ المنظورِ سوف يفقد قدرتَه على التفاعُلِ مع المعادلات الحقيقية التي يصنعُها الواقعَ السياسي الجديد، وسيكون الأثر على السعوديّة وعلى الإمارات أشد وَقْـــعاً وأثراً من غيرهما.
إنَّ طولَ الأمد مفسدة؛ لأَنَّه لا يتجدَّد وإن تجدَّد فبقدرِ حاجته هو، لا بقدرِ حاجةِ الناس ومعطيات الواقع وتموجاته، ذلك؛ لأَنَّه يألف الأشياء ولا يريد لها أن تتغير، في حين أن واقع تلك الأشياء يجبرها على التبدّل والتغير، ومن هنا ندرك أن الحياة بكل أبعادها صيرورة دائمة وبحث دائم عن الممكنات وهي غير قادرة على الثبات، وَإذَا ظل الأمر ثابتاً جاءت إرادَة الحياة تحمل مشروع التغيير، وقد يبدو صغيراً في بدايته لكنَّه إذَا عرف الممكن أصبح كَبيراً وعِبرُ التأريخ في ذلك لا تحصى.
إنَّ وحدة الوطن اليمني يجب أنْ تظل مشكاة منها تنبثق المشاريع الحضارية لهذا الوطن، ولا نريد لهذه الوحدة أنْ تتشتت أَو أن تتشظَّى وهنا جوهر القضية، ذلك؛ لأَنَّنا نرفض الشتات والتمزق ونرغب في التعدّد الذي ينبثق من مشكاة الوحدة، ذلك التعدّد الذي يصدرُ عن بُعدٍ رؤيوي يحملُ معالمَ مشروع حضاري لهذا الوطن، أما أُولئك الذين يحلمون بمشاريع صغيرة قائمة على الشتات والتمزق فلن يرفضهم الواقع إلا في حالة واحدة وهي أن يكون هذا الواقع متجدداً ويوازي في طموحه مجد الذاكرة الذي يقوم عليه ذلك المشروع، وفي ذات السياق لا بدَّ أن يكون متجاوزاً عثرات الماضي لا مجتراً لها، ومكرّراً لضلالها في حياة الناس، ذلك؛ لأَنَّ المشاريع التي تقوم على قيم الذاكرة حين لا تجد نفسها في الحاضر والمستقبل تستعيد مجدها في الماضي.
والواقع اليوم يفصح بكل بيان ووضوح أن مشكلة اليمن ذات أبعادٍ ثلاثة هي:
-البُعدُ الأول: يتجلى فيمن يرى نفسه في تجليات الحاضر ولا يجد له أملاً في المستقبل، فأيقظ ذاكرة مجده القديم..، وهذا البعد يتمثل في مشروع السلطنات والمشروع السلفي.
– البُعد الثاني: ويتجلى في أُولئك الذين ألِفوا الأشياء، وأرادوا أن تكون كما هي من الثبات خوف التضرَّر وفقدان الامتيَازات والمصلحة ويتمثل هذا البعد في نظام من يسمون أنفسهم بالشرعية ومن تشيَّع له.
– والبُعد الثالث: يتجلى في أُولئك الذين اجتهدوا في تشخيصِ أزمةِ اليمن وخرجوا برؤية وطنية قائمة على مبدأ الحوار وحملوا على أكتفاهم مشروعاً حضارياً يمثلُ رؤيتهم قد نتفق معهم فيه، وقد نختلف لكنه بذرة مشروع بوادره في صنعاء وهو اليوم أكثر قبولاً عند الناس من ذي قبل.
إذن في تلك الأبعاد تكمن كُـلّ إشكالات هذا الوطن، فالصراع يحمل بعداً زمنياً أدركنا ذلك أَو لم ندركه فهو بالضرورة فاعل في مجريات الحدث، ولعلنا ندرك أنَّ موضوع الحوار لا بدَّ له أن يأخذ البعد التاريخي كبعد مؤثر وفاعل في صنع الحدث، ولا بدَّ أن نتحاور معه ونتصالح، إن أردنا سلاماً دائماً، والتصالح لا يكون إلا بإشاعة قيم الحق والعدل والسلام، واحترام القانون وتفعيل العمل المؤسّسي، والحد من ظاهرة الشخصنة والاختزال، والاستسلام الكامل والمطلق لمبدأ التداول السلمي للسلطة، كحقيقة ذات قيمة.
***
نحن اليوم على أعتاب مرحلة جديدة، فالعدوّ يتداعى وينهار ويفقد مفردات قوته يوماً بعد آخر ونحن أصبحنا نملك زمام المبادرة ونسيطر على مفردات اللعبة السياسية والعسكرية، ولا بُـدَّ لنا من التفكير في البعد الثقافي حتى تكتمل أبعاد النصر ومفرداته، فالنقص الذي نتركه في المستوى الثقافي قد يكون سبباً مباشراً في التعثر إذَا لم نتداركه بوعي وبصيرة وحنكة واقتدار.
وتأكيد قائد الثورة في جل خطاباته على الوعي لم يأت من فراغ، بل من شعور بالغ بأهميته والوعي متعدد المستويات؛ فحتى تكون مؤثراً في النظام العالمي الجديد لا متأثراً به، وخاضعاً له، لا بُـدَّ لك من الدراسة والبحث، ووضع الاستراتيجيات لتصل إلى أهدافك، فالقضايا السياسية ليست حالات طبيعية مطلقاً، بل تصنع بقدرات ذهنية، وكلّ صناعة تتطلب اهتماماً مضاعفاً من الرعاية والتشذيب والسقاية حتى نصل إلى الثمرة.
فالنصر الذي تلوح بيارقه اليوم لا يكتمل إلا بالوعي في المستويات الحضارية والثقافية والسياسية الحديثة، فالانتصار العسكري يصبح دون جدوى إذَا لم يتعاضد مع غيره، ذلك أن اليوم لم يعد مثل الأمس، والغد لن يكون مثل اليوم، فالتغير المتسارع في المستوى الحضاري الحديث يتطلب وعياً به لا قفزاً على حقائقه.