كُلُّ الخيارات عالية المخاطر
بلومبيرغ:
– لا سبيل لمرافقة كافة السفن المستهدفة ولا يمكن “استرضاء” صنعاء
– الهجوم على اليمن سيصعد الصراع في المنطقة وحلفاء أمريكا لا يريدون التورط
الجبهة اليمنية في “طُـوفان الأقصى” تتحول إلى مأزق لواشنطن
المسيرة | ضرار الطيب
تحولت جبهة اليمن في معركة “طُـوفان الأقصى” التأريخية إلى مأزق كبير للولايات المتحدة الأمريكية وخُصُوصاً بعد الاعتداء الإجرامي الأخير على طواقم القوات البحرية اليمنية في البحر الأحمر، وتأكيدات القيادة الوطنية المتكرّرة والصريحة على حتمية الرد القوي والمؤلم على تلك الجريمة، مع مواصلة العمليات ضد العدوّ الصهيوني والسفن المرتبطة به؛ الأمر الذي جعل واشنطن محشورة في زاوية ضيقة أمام خيارات كلها تحمل مخاطر كبيرة، باستثناء الخيار الوحيد الآمن الذي حدّدته صنعاء والمتمثل بوقف العدوان على غزة ورفع الحصار الخانق عن الشعب الفلسطيني.
وفي تقرير جديد نشرته هذا الأسبوع، قالت وكالة “بلومبيرغ”: إن الولايات المتحدة تواجه “خيارات عالية المخاطر” بشأن التعامل مع الهجمات اليمنية في البحر الأحمر، مشيرة إلى أن اتِّخاذ أي قرار للهجوم على اليمن قد يؤدي إلى تصعيد كبير للصراع في المنطقة، وسيؤثر على موقف بايدن في عامه الانتخابي.
واستعرض تقريرُ “بلومبيرغ” عدة سيناريوهات وخيارات لتعامل الولايات المتحدة الأمريكية مع الجبهة اليمنية، وفقًا لمقابلات أجرتها الوكالة مع خُبراءَ عسكريين وأمنيين وبحريين من أمريكا وغيرها، مشيرة إلى أن كُـلّ سيناريو يتضمن العديد من التحديات والمشاكل التي يمكن أن ترتد عكسيا على الولايات المتحدة.
وذكر التقريرُ أن الخيارَ الأولَ هو “شن ضربات مركزة على مواقع إطلاق الصواريخ البالستية“، لكن هذا الخيار بحسب الوكالة ليس مضمونا؛ لأَنَّه يترُكُ لصنعاء “العديد من الوسائل الأُخرى كالطائرات بدون طيار والألغام البحرية والزوارق الهجومية السريعة” وبالإضافة إلى ذلك فَــإنَّ الولايات المتحدة “ستخاطر في هذه الحالة بتصعيد الوضع أكثر؛ مما سيؤدي إلى احتدام المعركة مع المسلحين اليمنيين” حسب وصف التقرير.
ويعني ذلك بوضوح أن القيادةَ اليمنيةَ قد استطاعت فرضَ معادلة ردع استباقية تجعلُ خياراتِ الولايات المتحدة العسكرية ضد اليمن، بلا قيمة، بل حوّلتها إلى خطر على مصالح واشنطن نفسها!
هذا أَيْـضاً ما يؤكّـده الخيار الثاني الذي ذكره تقريرُ “بلومبيرغ” والمتمثل في “شن هجوم عسكري كبير مع استهداف الموارد الاقتصادية والمالية” وهو خيارٌ يؤكّـدُ التقريرُ أن الولايات المتحدة لا تستطيع أن تتخذه بدون مشاركة السعوديّين والإماراتيين الذين “لا يملكون حَـاليًّا أية رغبة في إشعال صراع يبذلان قُصَارى جُهدِهما لإخماده” بحسب التقرير، وهو ما يعني أن انتصار صنعاء على تحالف العدوان وفرض معادلاتها الرادعة على السعوديّة والإمارات، قد ألغى مسبقًا هذا السيناريو، فبدون توفر مشاركة إقليمية سيكون أي هجوم أمريكي على اليمن بمثابة انتحار كبير، ومخاطرة غير محسوبة.
ولا يختلف الأمر بالنسبة للسيناريو والخيار الثالث الذي ذكره التقرير والمتمثل في “توسيع نطاق عملية حارس الازدهار بشكل كبير لتشمل مرافقة السفن في المنطقة الواقعة بين خليج عدن والقسم الجنوبي من البحر الأحمر“، حَيثُ يواجه هذا الخيار عوائق كبيرة؛ لأَنَّه وبحسب التقرير فَــإنَّ المسألة ليست مسألة جماعة قراصنة، وصنعاء “تتمتع بموارد عسكرية كبيرة وتهدّد منطقة واسعة نسبيا، الأمر الذي سيتطلب عدداً كَبيراً من السفن الحربية المزودة بأنظمة دفاع جوي متقدمة، بينما العديد من الدول وخَاصَّة الدول العربية لا تريد الانضمام”.
وينقل التقرير عن آمي دانيال، الرئيس التنفيذي لشركة وينوارد، وهي شركة للذكاء الاصطناعي البحري، قوله “إن هناك في المتوسط حوالي 250 سفينة تعبر البحر الأحمر في أية لحظة، وسيتعين على شركات الشحن القيام بتخطيط وتنسيق كبيرين للدخول في قوافل مرافقة”، وهو ما يعني ببساطة أن هذا الخيار مستحيل عمليًّا.
وقد فسر التقرير سبب عدم رغبة الدول في الانضمام إلى التحالف الأمريكي بأن صنعاء تؤكّـد أن عملياتها في البحر الأحمر هي “تضامن مع الشعب الفلسطيني” وهو ما يعني القيادة اليمنية قد تمكّنت مسبقًا بموقفها المبدئي الواضح من إفشال وإعاقة هذا الخيار الأمريكي؛ لأَنَّ الدول لا تريد أن تتخذ موقفًا يدعم الكيان الصهيوني ضد من يتضامن مع الفلسطينيين.
ويبرُزُ المأزِقُ الكبيرُ للولايات المتحدة بشكل أكبر في الخيار الرابع الذي ذكره تقرير بلومبيرغ، والمتمثل في “الاسترضاء الدبلوماسي” من خلال “الاقتدَاء بالسعوديّة في الذهاب إلى وقف إطلاق نار” فحتى هذا الخيار يؤكّـد التقرير أنه يواجه تحديات؛ لأَنَّ “مفهوم الاستقرار” يختلف لدى صنعاء عما هو عليه لدى الولايات المتحدة التي تمتلك مصالح مختلفة عن مصالح السعوديّة، بحسب الوكالة.
ويعني ذلك أن محاولةَ ترغيب صنعاء بأية عروض، لن تجدي نفعا؛ لأَنَّ هدف الولايات المتحدة سيكون وقف الهجمات على السفن الإسرائيلية والمتوجّـهة إلى الكيان الصهيوني وهو أمر لا تربطه صنعاء بأية مطالب سوى وقف العدوان على غزة ورفع الحصار عن الشعب الفلسطيني، الأمر الذي تراه الولايات المتحدة ضد مصلحتها، وبالتالي لا سبيل حتى “لاسترضاء” صنعاء مع استمرار العدوان والحصار على غزة.
وقد برز عجزُ الولايات المتحدة عن إيجادِ مخرجٍ آخرَ من مأزِقِ الجبهة اليمنية بوضوح هذا الأسبوع عندما صرَّحَ المبعوثُ الأمريكي إلى اليمن بأن وزيرَ الخارجية أنتوني بلينكن سيعملُ خلال زيارته إلى المنطقة على مناقشة “زيادة المساعدات إلى قطاع غزة” وهو ما اعتبره مراقبون دليلًا على فشل واشنطن في تجنب الشرط الذي وضعته صنعاء لوقف الهجمات على الملاحة الصهيونية، وهو شرط إدخَال ما يكفي من المؤن إلى القطاع، بغض النظر عن جدية تصريحات المبعوث الأمريكي من عدمها.
وقبل أَيَّـام كانت مجلة “نيوزويك” الأمريكية قد نشرت أَيْـضاً تقريرا قالت فيه إن “مشكلة بايدن في البحر الأحمر تزداد سوءا” ونقلت عن خبراء ومحللين أجانب قولهم إن الولايات المتحدة “فشلت” في مواجهة التهديد اليمني في البحر الأحمر، وإن أي تصعيد تذهب إليه واشنطن في المنطقة سيكون مشكلة لبايدن في العام الانتخابي.
وحتى الهجومُ الغادرُ الذي نفَّذته القواتُ الأمريكيةُ على أبطالِ البحرية اليمنية، والذي أرادت واشنطن من خلاله أن تصنَعَ صورةَ “ردع”، أوصل رسائلَ عكسية، حَيثُ قالت صحيفةُ “واشنطن بوست” إن هذا الهجومَ “يرفعُ المخاطرَ على حركة الشحن في البحر الأحمر”.
في خطابه الأخير خلال اجتماع مع القيادات العسكرية والأمنية قال الرئيس المشاط: “نحن نعرف جيِّدًا كيف نتخاطَبُ مع من يدعون أنهم أقوياء ونعرفُ اللغةَ التي يفهمونها جيدا”، وهذا التصريح لم يكن مجر تعبير مجازي، فالمأزق الذي تعيشه الولايات المتحدة الأمريكية، والذي أصبحت العديد من الوكالات ووسائل الإعلام الأمريكية والدولية تستعرضه بشكل واضح، يؤكّـد أن القيادةَ الثورية والسياسية والعسكرية اليمنية قد استطاعت بالفعل أن تقيد خيارات واشنطن وتعطّل جزءًا مهمًّا من نفوذِها الإقليمي والدولي، لتصبحَ واشنطن وحيدةً في مواجهة جبهة مشتعلة بمعادلات ذات أبعاد دولية، ولا سبيلَ إلى تهدئتها سوى الاستجابة لشروط قيادة هذه الجبهة.