“اشتباكُ” خليج عدن وباب المندب: اليمنُ يردَعُ أمريكا
المسيرة| ضرار الطيب
مثَّلتِ العمليةُ العسكريةُ الأخيرةُ للقوات المسلحة اليمنية في خليج عدنَ وباب المندب، حَدَثًا تاريخيًّا استثنائيًّا حمل في طياته عدةَ ضرباتٍ استراتيجيةٍ صادمة للولايات المتحدة الأمريكية، وأكّـد بوضوح أن أفق مسار العدوان الأمريكي البريطاني على اليمن مسدود بالكامل أمام تحقيق الهدف المتمثل في وقف العمليات اليمنية المساندة لفلسطين، لكنه مفتوح على خسائر وهزائم غير مسبوقة من شأنها أن تزلزل أركان إمبراطورية الاستبداد والهيمنة الأمريكية بشكل لا يمكن التعافي منه، خُصُوصاً أنها اليوم عاجزة عن الاختباء وراءَ التحالفات والتحشُّدات الدولية التي تعتمدُ عليها عادة.
العمليةُ التي أعلنتها القواتُ المسلحةُ يوم الأربعاء الماضي، وكان عنوانها الأبرز هو “الاشتباك المباشر” مع أسطول من البوارج والسفن الحربية الأمريكية، مثلت انتقالاً استراتيجياً واضحًا إلى نقطة متقدمة من مسار الرد على العدوان الأمريكي البريطاني؛ فقبل هذه العملية لم تكن القوات المسلحة قد أعلنت عن أي استهداف مباشر للسفن الحربية الأمريكية.
وخلافاً للتوقعات السائدة، لم يكن هذا الانتقالُ إلى استهدافٍ لبارجة أمريكية، على الرغم مما كان سيمثِّلُـهُ ذلك من ضربة تاريخية كبرى، بل كان الانتقال إلى نقطة أكثر تقدماً وردعاً، هي الاشتباك الحي والمباشر مع عدد من البوارج والسفن الحربية على مسرح عمليات امتد من خليج عدن إلى باب المندب، ولمدة تزيد على ساعتين، وهو ما يُمَثِّــلُ “معركةً بحريةً” كاملة ربما لم تخض البحرية الأمريكية مثلها من قبل أبداً، أَو على الأقل منذ الحرب العالمية الثانية.
هذا الاشتباكُ كان صفعةً مهينةً للولايات المتحدة الأمريكية التي ظلت خلال الأيّام الماضية، تروِّجُ دعايات عن تدمير جزء من القدرات العسكرية اليمنية وتقليل احتمالات حدوث هجمات يمنية واسعة؛ فمسرح المعركة ومدتها يؤكّـدان بوضوحٍ أن القدراتِ اليمنية قد وصلت إلى مستويات أعلى بكثير مما هي عليه في حسابات واشنطن؛ لأَنَّ الاشتباك المباشر والمُستمرّ مع عدد من البوارج والسفن الحربية المجهزة بأحدث التقنيات لأكثرَ من 120 دقيقة على مساحة واسعة في البحر يحتاج بلا شك إلى جاهزية عملياتية فائقة من حَيثُ الرصد والتنسيق والاستهداف والمواكبة الآنية لكل المعطيات والتعامل معها، وهذه جاهزيةٌ ليست تقليديةً كما تصورتها واشنطن التي بنت حساباتها على أَسَاس أن القدراتِ الهجومية اليمنية كلها منحصرة في تخزين الصواريخ وإطلاقها من بعيد!
وقد برهنت نتائج المعركة بوضوح على حجم هذه الجاهزية الفائقة للقوات المسلحة اليمنية؛ لأَنَّ أسطولاً من البوارج والسفن الحربية المتطورة، لم يستطع في النهاية أن ينجح في مساعدة السفينتين التجاريتين الأمريكيتين على عبور باب المندب، لكن الأمر لم يقف عن هذا الحد، إذ أكّـدت القوات المسلحة إصابة سفينة حربية أمريكية بشكل مباشر أثناء الاشتباك، وأكّـدت وصول عدد من الصواريخ البالستية إلى أهدافها متجاوزةً الأنظمة الدفاعية المكلفة للغاية الموجودة لدى المدمّـرات الأمريكية، (تبلغ كلفة الصاروخ الواحد من هذه المنظومات أكثر من مليونَي دولار).
وبالتالي، فَــإنَّ انتصارَ القوات المسلحة في هذه المعركة البحرية لم يكن مُجَـرّد مصادفة أَو ناتجاً فقط عن عامل المباغتة، بل عن تفوق كامل واضح وكبير وصادم بالنسبة للحسابات الأمريكية؛ لأَنَّ ما واجهته الولايات المتحدة يوم الأربعاء، لم تكن معادلة واحدة، بل عدة معادلات استراتيجية: معادلة الاستهداف المباشر للسفن الحربية الأمريكية، ومعادلة منع السفن التجارية الأمريكية من العبور، ومعادلة امتلاك وتوظيف القدرات اللازمة للقيام بذلك، ويحيط بكل ذلك معادلة القرار السيادي المستقل والشجاع، ومثلما تشير النتائج بوضوح إلى نجاح صنعاء في فرض وترسيخ هذه المعادلات كلها، فَــإنَّها تشير بالمقابل إلى سقوط كُـلّ الاستراتيجيات الأمريكية المضادة، فالبوارج الأمريكية لم تستطع الدفاع عن نفسها ولا عن السفينتين التجاريتين، والاعتداءات على اليمن لم تؤثر على القدرات العسكرية، ومحاولات الضغط والترهيب لم تستطع وضع أي حاجز أمام قرار مواصلة العمليات البحرية.
ووفقاً لذلك، يمكن القول إن ما حدث هو ردع استراتيجي تأريخي وصادم للولايات المتحدة، وإن الاشتباكَ الذي دار كان اختزالاً للمشهد الأوسع للصراع بين اليمنيين وأمريكا؛ لأَنَّه وضع الولايات المتحدة أمام عدم جدوى كُـلّ ما تعتمد عليه في هذه المواجهة، بدءاً من سمعتها ونفوذها في المنطقة والعالم وُصُـولاً إلى قدراتها العسكرية.
لقد شنت أمريكا بالفعل حروباً على اليمن (مباشرة وغير مباشرة) واستخدمت أوراق الضغط والابتزاز الاقتصادي والسياسي، وحاولت التحريض والتضليل وفشلت، والآن فشلت في أول اختبار للمواجهة المباشرة مع اليمنيين، وليس بقوة عادية من جيشها بل ببحريتها التي تفخر بها كَثيراً وتعتبرها قوة حاسمة، وبالتالي فَــإنَّ ما تبقى من خيارات لن تؤدي إلى نتائج مختلفة بما ذلك خيار الغزو البري، الذي حرص قائدُ الثورة على التطرق إليه منذ وقت مبكر عندما أكّـد أن ما سيواجهه الأمريكيون في اليمن سيكون أسوأ بكثير مما عانوا منه في فيتنام وأفغانستان وغيرهما.
أما اللجوء إلى رفع مستوى الخيارات المستخدمة أصلاً، كتكثيف الغارات أَو مضاعفة جهود الابتزاز، فهي استراتيجية محكومة عليها بالفشل مسبقًا؛ فاليمن يخوض هذه المعركة من مستوىً سابقٍ ومتقدم، وهو قادم من حرب طويلة واجه فيها أعلى مستويات العدوان عسكريًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا، وقد عَبَّرَ قائدُ الثورة السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي، بوضوح عن ذلك في خطابه الأخير يوم الخميس عندما قال: “نحن نأخُذُ احتياطنا ولسنا جديدين على مواجهة التحديات الحربية والقتالية نحن متمرسون على ذلك”.
إن ما يفعلُه اليمنُ هو عمليةُ ردع حقيقية وغير مسبوقة لأمريكا، والتوصيف العملي للسفن الحربية الأمريكية التي تراجعت من منطقة الاشتباك في خليج عدن وباب المندب يوم الأربعاء هو أنها كانت مردوعةً، وعندما تواجهُ الولاياتُ المتحدة حالةً مثلَ هذه فالأمر ليس مُجَـرَّدَ حَدَثٍ عابر، بل هو هزةٌ تاريخيةٌ كبرى؛ لأَنَّ اشتباكَ يوم الأربعاء لم يكن عشوائياً بل جاء ضمن مسار عمليات تصاعدي برهنت فيه القوات المسلحة اليمنية أنها قادرةٌ وبنجاح منقطع النظير على خوص معركة البحر بخيارات متنوعة وعلى نطاق واسع واستراتيجي وبدون تأثر بأية ضغوط أَو اعتداءات، وبالتالي فَــإنَّ واشنطن لا تواجهُ “جماعة” لديها ترسانةُ سلاح فحسب كما تظن، بل تواجه دولة حقيقية لديها قوة ذاتية متطورة ومتماسكة وقرار مستقل ومشروع تحرّري أحد أركانه معادَاة أمريكا والإعداد لمواجهتها، وقد أثبتت بالفعل وفي ظروفٍ أسوأ أنها عصيةٌ على الكسر ولا تخضع لحساباتِ “العالم الأمريكي” أياً كانت، وبالتالي فَــإنَّ الورطةَ التي وقعت فيها واشنطن لا تقفُ عند سقفِ الفشل فحسب، بل تمتدُّ إلى هزيمة جيوسياسية تاريخية من المرجَّحِ أن تبرُزَ المزيدُ من ملامحِهَا خَلالَ الفترة القادمة.