الإصلاحُ الثقافي والحربُ الناعمة
عبدالرحمن مراد
حين يفكر المستعمر بغزو بلد ما يبدأ في الاشتغال على المفاهيم والمصطلحات ويقوم بإفراغها من محتواها ومعانيها، ويعمد إلى الهُــوِيَّة فيقوم بتفكيك عراها حتى تتشظى وتتناثر في رمال الوطن المتحَرّكة، فالاشتغال الثقافي للمستعمر يأتي على نسق مواز للغزو العسكري أَو يسبقه حتى يتمكّن من السيطرة على مقاليد الأمور في البلدان، لذلك فحركة الاضطرابات التي سادت المجتمعات خلال العقدين السالفين من الألفية كانت الإيذان بعودة المستعمر، لكن بطرق أكثر ذكاء فهو يأتي حتى يحارب الإرهاب ويجفف منابعه، أَو يأتي دفاعاً عن حقوق الإنسان، أَو لدواعٍ إنسانية حتى يحفظ أمن واستقرار البلدان كما فعل في أفغانستان، فالغزو لم يعد احتلالاً، والمستعمر لم يعد مستعمراً –تعويم المصطلحات والمفاهيم- ولذلك استطاع أن يجد لنفسه غطاء وتخريجاً مناسباً حتى يمارس غواية الاحتلال للبلدان تحت عناوين كبرى ينساق لها الإنسان بغباء مفرط.
ولعل المعركة الثقافية هي أعقد من المعركة العسكرية وأكثرها خطورة، وهي معركة مُستمرّة يمتد جذرها إلى الماضي العميق وهي اليوم في أوج الاشتعال، وقد شهدنا مرحلة، وعشنا تفاصيلها خلال سنوات العدوان، وهي مرحلة كانت نتيجة لمقدمات منطقية سبقتها في الاشتغال الثقافي، واليوم نقرأ مقدمات يشير إليها نشاط الكثير من الجماعات، فهي ترى أن المبدعين والمثقفين يحملون رسالة إيجابية للمجتمع ولذلك بدأت تهتم بهذه الشريحة وتوليها اهتماماً خاصاً، ولا أرى ذلك قناعة لتلك الجماعات بل هو توجّـه تقوم بتنفيذه وفق خطط واستراتيجيات وضعها المستعمر حتى يبلغ غاياته ومقاصده، فحجم الإنفاق الذي ينفقونه على حفل توقيع ديوان شعر يتجاوز موازنة وزارة الثقافة في صنعاء عشرة أضعاف في الظروف العادية وليس في ظروف العدوان، والسخاء في الإنفاق يشكل بيئة جذب لشريحة المثقفين والأدباء في ظل قسوة الأحوال والظروف التي يعيشها المبدع في اليمن، ولذلك أصبح من الضرورة تفعيل دور المؤسّسة الثقافية الرسمية والمدنية والاشتغال على كُـلّ المستويات حتى نخوض المعركة الثقافية بمختلف الأسلحة وعلى كُـلّ المستويات، ولدينا طاقات فكرية جبارة وكبيرة قادرة على الصناعة والإبداع والابتكار.
فنحن اليوم في أشد ما نكون حاجة إلى الإصلاح الثقافي والأخلاقي ومثل ذلك أمراً غير مستحيل إذَا فهمنا ماذا نريد؟ وفهمنا حركة التحول الاجتماعي؟ وحركة التبدل في علاقات الإنتاج التي تضبط قيم المجتمع؟ وفهمنا البعد الأيديولوجي للطبقات والجماعات، فالمجتمع لم يعد كلاً متجانساً كما كان في العصور القديمة، بل حدث فيه تحول عميق في عصور الانهيار والاستعمار، وفي عصر النهضة، وفي زمن تشكل الدولة الوطنية، وفي الزمن الثوري الذي عاشه متأثراً بما حوله من حركات ثقافية واجتماعية وسياسية، ولذلك فالإرادَة الجماهيرية لم تعد إرادَة واحدة بل تعددت وأصبحت عدة إرادات متمايزة، فهناك إرادَة تقليدية متطرفة، وإرادَة إصلاحية، وإرادَة ديمقراطية، وإرادَة طلائعية تقدمية، وأي مكون سياسي يحكم يمثل مصالح الغالبية من الجماهير، ويمثل إرادتهم بقدر من التوازن السياسي والثقافي والأخلاقي حتى تستقر الأوطان، ما لم يكن كذلك يتعرض للهزات المدمّـرة كما رأينا في نماذج الحركة خلال مطلع القرن الحالي.
فالإصلاح حركة ديناميكية دائمة التجدد، ولا يمكن أن تحدث الحركة في سياق منفصل من التراكم التاريخي لحركة المجتمع، لذلك فالهزات الكبيرة في ظل واقع مضطرب مثل واقعنا الذي نعيش تعمق الهوة في الشقاق داخل المجتمع، وقد تضيع الجهود دون عائد مجد منها إن لم نتدارك الأمر ونعمل ببصيرة وحكمة، فالنشاط الذي تقوم بعض المؤسّسات المدنية يمثل إرادَة واحدة من إرادات جماهيرية متعددة وكلّ نشاط لا يمثل الغالب من المكونات يحدث صدعاً في البناء العام، هذا الصدع يتحَرّك فيه العدوّ بكل أريحية محدثاً شقاقاً وانقساماً في بنية المجتمع لم يكن يحلم به في سوالف أيامه.
قلنا أكثر من مرة أن المعركة القادمة لن تكون معركة عسكرية بل معركة ثقافية، ولذلك فاستنفار المؤسّسة الثقافية الرسمية وغير الرسمية من ضرورات المرحلة، ولا بُـدَّ أن نحدث ثورة ثقافية للإصلاح الثقافي والأخلاقي ومثل ذلك لا يمكن أن يحدث من خلال إرادَة واحدة فقط بل من خلال كُـلّ المجتمع بتعدد طيفه السياسي والاجتماعي، فالقواسم المشتركة موجودة بين جميع الإرادات المجتمعية؛ فغايتنا لملمة أشلاء المجتمع المتناثرة؛ بسَببِ الصراعات والحروب لا توسيع الخرق حتى يتعذر على الراقع رتقه.