اضطراباتُ البحر الأحمر
عبدالرحمن مراد
يتحدث الإعلام اليوم عن اضطرابات البحر الأحمر وأثرها على الاقتصاد العالمي في غفلة عن الحديث عن أسباب تلك الاضطرابات ودوافعها، تاركين شعباً كاملاً يموت جوعاً وبرداً وحصاراً وقتلاً وتدميراً في غزة، كيف يغفل الناس المقدمات المنطقية ليذهبوا إلى النتائج دون فهم ودراية بكل تموجات الزمن والحدث؟
ما يحدث في البحر الأحمر نتائج منطقية لمقدمات منطقية تفرض نفسها في معادلة الوجود، فالشعب الذي تحصده الآلة العسكرية الصهيونية والأمريكية والامبريالية من حقه أن يدافع عن وجوده، ومن حق الأُمَّــة التي تتعرض للفناء المؤجل أن تدافع عن وجودها، وما يحدث في غزة يفترض أن يشعر به العالم، ولا ضير أن يمتد الضرر إلى كُـلّ الشعوب طالما وهي لا تتحَرّك دفعاً لضرر، أَو جلباً لخيرية تعم البشر كلهم بغض النظر عن التمايز الثقافي، فالإنسان مخلوق مكرم في شرائع الله السماوية كلها.
في عقائد اليهود تمايز ممقوت تمقته الفطرة الإنسانية، فهم يرون أنفسهم شعب الله المختار، وأبناء الله وأحباؤه، وهم وحدهم من يستحق الحياة والنعيم في الدنيا وغيرهم لم يكن موجوداً إلا لخدمتهم، وهذا جوهر الصراع اليوم وهو نفسه في الأمس وسيكون نفسه في الغد.
ما لا ندركُ كُنْهَهُ ويفترض بنا أن نعلمه هو حقيقة الاقتصاد الرأسمالي العالمي وتبعيته فهو في جوهره وفي أصوله يعود للصهيونية العالمية التي تدير العالم به في سوالف أيامها وفي الحاضر وربما سيمتد ذلك إلى المستقبل، فهذا التجذر في عمق المصالح تجذر تأريخي وقد ألمح إليه القرآن الكريم وكاد أن يفصل عنه القول في الكثير من المواضع التي يتحدث فيها عن القصص والشرائع السابقة في تاريخ البشرية قبل رسالة الإسلام التي حملها الرسول الأكرم محمد -عليه الصلاة والسلام-، ولا نستغرب أن يصيح العالم عبر وسائل الإعلام بالضرر الذي أحدثه اضطراب البحر الأحمر وطرق الملاحة بعد أن أخذ الغرور الكيان الصهيوني إلى مربعات خطرة هدفها التطهير العرقي والتهجير والإبادة الجماعية للعناصر البشرية التي لا تنتمي لليهود أَو للصهاينة.
الموضوع اليوم يبرز على السطح كظاهرة معقدة وشائكة وجذرها عقدي وثقافي، ولذلك لا بدَّ أن نطرح سؤال الوجود بصورة أكثر وضوحاً في صراعنا مع الصهيونية العالمية، وقد بدأت الأسئلة تفرض نفسها في نظام دولي متعدد الأقطاب، وهو سؤال حيوي وفاعل في حياة البشر، ولا بدَّ للمسلمين أن يسهموا في صوغ مفردات النظام الجديد وفق نسق متوازن منطلقين من القرآن كحقيقة كونية تدرك مصالح البشر وتؤكّـد على مفردات الحق والعدل والخير العميم وعلى الحرية والاستقلال.
كلّ الشركات الكونية سواءً في الشرق أم كانت في الغرب تقف وراءها الصهيونية وتتحكم في مساراتها كلها، ومن أراد اليقين وصل إليه بالبحث والتدقيق.
نحن اليوم على مشارف زمن جديد لا ينبغي أن نستغرق أنفسنا فيه بالفكرة الدينية فقط، تاركين الخصائص المثلى للعقل تسبح في الميتافيزيقيا أَو فيما وراء الطبيعة فذلك أمر غير مستحسن، بل يفترض بنا تفعيل الدور الأمثل للعقل حتى نحكمَ سيطرتنا على مقاليد المستقبل؛ فسبب الضياع الذي وصلنا إليه هو اشتغالنا بالنقل على حساب العقل في حقب التاريخ المختلفة أي منذ سقط آخر خليفة عباسي في يد هولاكو.
في تراثنا منطلقات وأسس لصوغ نظم تتسق والمستوى الحضاري المعاصر فلماذا نغفل عنها؟ دون أن نخضعها للقراءة والنقد والتشذيب ونتعامل معها وفق قواعد منطق التفكير السليم، فنحن لسنا أغبياء والغرب ليسوا أذكياء ولكنهم يجتهدون لخدمة البشرية ونحن نميل إلى الدعة والكسل.
كلّ التموجات التي نشهدها اليوم تريد أن تصدر الإسلام كعدو للمستوى الحضاري المعاصر؛ ولذلك يحاولون أن يرسموا في التصورات العامة التوحش والفوضى ولهم في فكرة الفوضى فلسفات ولعل الذاكرة تسترجع اليوم فكرة الفوضى الخلاقة، ويبدو أن الكثير لم يقرأ فلسفة الفوضى الخلاقة، ولم يقرأ الغايات والأهداف من ورائها وهي أهداف معلنة غايتها أن يصل العالم إلى قناعة أن الإسلام ظاهرة تهدّد المستوى الحضاري والرفاه الذي وصلت إليه البشرية، وهم يوظفون كُـلّ التفاعلات العسكرية والسياسية لهذا الغرض، لذلك ليس بمستغرب تسمية العلميات العسكرية في البحر الأحمر باسم “حارس الرفاه” فالغاية واحدة وتتعدد طرق الوصول إليها، كما أن إشاعةَ الفوضى والاضطرابات في الدول ذات التجذر التاريخي والحضاري مثل العراق وسوريا واليمن هدفه الوصول إلى مراتب الدولة الفاشلة التي تشكل خطراً على البشرية وبذلك يحق للعالم المتحضر أن يفرض الوصاية على تلك الدول.
لا بدَّ أن ندرك اشتغال العدوّ وأبعاده النفسية والفلسفية والسياسية والثقافية حتى نتمكّن من مواجهته؛ فالمعركة لا تعني الوجود العسكري في المياه الدولية والإقليمية ومواجهتها فقط، ولكنها تستغل في أبعاد شتى إذَا غفلنا عنها فلا معنى لكل تضحياتنا في المستقبل المنظور؛ لأَنَّنا سوف نصبح ضحايا استغلال وغبن من قبل عدو غير شريف ولا قيمة عنده للفضائل.