أصعبُ المعارك وأقوى الجنود
عبدالإله محمد أبو رأس
في الموازين الإلهية لحساب القوى أصعبُ المعارك وأشدُّها ضراوةً، وألدُّها خصاماً لا تُعطَى إلا لأقوى الجنود، وهنا تكمُنُ الحكمةُ الإلهية في شتى معانيها حينما تتجلَّى الخِيَرَةُ لله وحدَه في أن يختارَ جنودَه المؤمنين بعد أن يكونَ قد امتحنهم بعناية، ومحَّصهم بحرص، ليعدهم لما هو أكبر وأعظم من ذلك؛ إذ إنه ليس من الممكن حقاً أن يُعطِيَ الله أقوى معاركه لجنودٍ ضِعاف لا يثقون بأنفسهم، ولا من نصر الله وتأييده لهم.
ولهذا السبب بالذات كنا -نحن- على المحك الحقيقي لهذا الامتحان الصعب خلال السنوات الماضية؛ لأَنَّنا بحق كنا جديرين في مستوى عالٍ عندما تجاوزنا كُـلّ الصعوبات المعوقة في ذلك الطريق الشاق؛ لأَنَّ الله أراد لنا أن نولد من مخاض العذاب الأليم، لنكون أشد وأمتن عندما نخوض في مستوى أصعب من السابق.
وقد أرادَ اللهُ لحكمةٍ بالغة في تقديره أن يكونَ امتحانُنا هذه المرةَ أصعبَ، وعدوُّنا أشدَّ، ولهذا قد كلَّفنا بالمزيدِ من الصبر؛ لأَنَّ الله أراد لنا المزيد من الأجر، بينما الذين فقدوا الإيمان وفقدوا الصبر يظنون بأن الأقوياء المستكبرين بأقوى منهم، وهم لا يعرفون حقًا أن ما هو الجبن والخوف والخمول، والتشرذم والتقزم والتخاذل، وحب الحياة وخوف الموت وكراهة الجهاد، وإنما هي سمُومُ الفُرقة وسُوسُ الاختلاف وداءُ الإرجاف، وفيروس الخبال يبدد من عزمهم، ويجعل من ملايينهم أصفارًا.
ولا أستسلمُ لداء المتشائمين أبداً؛ لأَنَّهم لا يرَون إلَّا النصف الفارغ من الكوب، بينما النصفُ الآخر الذي أرعب أمريكا وجنينها اللدود وحليفتها العجوز يتعامون عنه، رغم أن هؤلاء الطغاة لديهم من العدة والعتاد، إلا أنهم ما زالوا يرجفون من الداخل، ويعيشون في ذعر دائم، ومع كُـلّ ضربة حيدرية يذوقون فيها من بأسنا يستنجدون كُـلّ يوم بحلفاء جدد من أقصى الغرب إلى أدنى الشرق؛ لأَنَّهم يعرفون أن إيمان خصومهم أقوى من كُـلّ ما يملكون من مالٍ وسلاحٍ ونفوذ، ويعلمون أن هذا الإيمان اليقيني هو الذي سيطيح بهم وبكل مكتسباتهم في أول مواجهة كبرى.
ولا شيء يدعونا لأن نخافَ منه، ولتكن أمريكا ومعها بريطانيا ومؤيَّدةً بالغرب الأُورُوبي، والحلف الأطلسي، والشرق الأوسطي، ولتكن مسلحة حتى الأسنان، بالقنابل الذرية والصواريخ النووية، والطائرات الشبحية، ما الذي سيحدث حينها؟ أو ما الذي سيتغير حينما نقاتل أمريكا وبريطانيا على الصعيد المباشر؟ أخبروني بصدق! وكأن الثمانيةَ الأعوام الماضية من الحرب خاليةٌ من شِراك هؤلاء الطغاة.
إذن من لا يزال منكم يظنُّ بوجود شبهة ظلم لعدم تكافؤ القوى فلينظر -معي- إلى يمَن الأمسِ مقارنةً بِيَمن اليوم سيجد فيها انكشف كُـلّ شيء وافتضح الأعداء بحق، وسيجد أنها محنة المخاض الأليم الذي يؤذن بميلادٍ جديد، والظلام الذي يبشر بالفجر القريب.
كيف لا نؤمن بذلك ونحن بالأمسِ كنا نرى كُـلّ ما يجري من مقصورات المسرح، وها نحن اليوم المسرحَ نفسه والتاريخ بذاته، ونحن القدر والمقدور؛ لأَنَّنا نرى قدرة الله فوق كُـلّ شيء، والصمود أمام المحال من صفات المؤمن؛ لأَنَّه يعلم بأنه يصارع بيد الله لا بيده، وهو لا يعرف الخوف ولا الجبن والفرار.
وهذه الفئة التي تقاتل جبابرة الظلم والطغيان فيها ما يخيف الدول الغربية المسلحة حتى الأسنان، ولن يخذل الله هؤلاء الفتية أبداً، وسوف يثبتهم وينصرهم؛ لأَنَّهم رجال بحق، وسوف تُولد اليمن من مخاض الآلام والتعذيب لتكون نوراً في قلب الشرق يشع على العالم الجديد.
واليوم استدار الزمان دورة كاملة ونوشك أن نقبل على معركة بدر أُخرى، وإني أرى في هذه المعركة ما لا يرَون فيها الأغلبية، نعم! أرى أن مؤمن اليوم المخلص الصابر يعادل ألف مؤمن من أَيَّـام الرسالة، وهو يتعامل مع عدو ألدّ وأعتى وأخصم، ويهود ألعن وأجرم وأحقد، ومنافقين أفجر وأمكر وأرذل، وعرب أذل وأحط وأجبن.
وإني أرى بعين اليقين بشارات تنبئ عن ظهور فجر جديد تتسلل إلى الظلمة، وأن اليمن سوف تولد من مخاض الآلام والحروب، ومن صهير المحن والبلايا تُولد ظاهرة مضيئة، لتكون يوسف على إخوته، وشمساً تطلع من الشرق العربي إلى الجانب الآخر المظلم الوثني.
والله ما زال يمد لنا بحبل مدده، وأن هناك بشائرَ إلهية تنذر بنصر شامل ومؤزر سيقلب الموازين رأساً على عقب، لترجح الكفة، وتهزم الكثرة أمام القلة، والترسانات الهائلة أمام السلاح اليمني الصنع، وأن القطبية الأمريكية المنفردة إلى زوال، والظالم لا يملك حينها إلَّا أن يحمي نفسه بظلم أكبر كلما استشعر مقاومة خصومه، إذ لو تراجع سوف تدوسه الأحذية، وسوف يخسر خسارة تراكمية بقدر ظلمه.
وهكذا يأتي النصر الإلهي كلما اختلت الموازين، وكلما طغت الكثرة الباغية على القلة الصابرة المناضلة من المؤمنين، ولكن حينما يستنفد المؤمنون كُـلّ طاقتهم وحيلتهم بعدئذٍ يأتي النصر في الحالين على غير المألوف فتنتصر القلة على الكثرة، وتنهزم العدة والعتاد أمام الفقر العسكري والحصار حتى تكون حجّـة الله ملزمة.
ولهذا اقتضى الإيمان الابتلاء؛ لأَنَّ الكلام سهل، وسوف يدعي كُـلّ واحد بأنه مؤمن وأنه مستحق للجنة، وقد زعم الجبابرة أمام شعوبهم حتى لحظة موتهم أنهم كانوا يحسنون صنعاً، واعتقدوا أنهم يستحقون الإشادة والتمجيد فلزم البلاء والجهاد حتى يصحو كُـلّ واحد على حقيقته، وحتى يعلم منزلته، والله ليس في حاجة لهذا الابتلاء ليعرفنا، ولكن لنعرف نحن حقيقة أنفسنا.
والقضية تعود -اليوم- لتطرح نفسها من جديد رغم أنف الإلحاح الأمريكي، والكذب البريطاني، والدجل الإسرائيلي، وحينما يأتي الأوان ليكتب التاريخ في المستقبل وتدون الملحمة بكاملها، سوف يذكر المؤرخون ما حدث في اليمن كعلامة مضيئة، وفصل من فصول النضال الباهر، ومقدمة كانت كافية لأن تنبه المسلمين إلى ما يدور حولهم من مخاض الاضطراب والآلام، ونذير عقابي يلفت انتباههم، ويوقظ ضمائرهم إلى يوم الدينونة.