رئيس الهيئة العامة للكتاب عبدالرحمن مراد في حوار لصحيفة “المسيرة”: “الربيعُ العربي” فكَّكَ الأنظمةَ العربية ومحورُ المقاومة مشروعٌ مقاوِمٌ مضادٌّ للمشروع الصهيوني في المنطقة
المسيرة- حاوره – إبراهيم العنسي
في الجزء الثالث والأخير من هذا الحوار يقدم المفكِّــرُ عبدُالرحمن مراد، قراءةً في سلسلة أحداث ارتبطت بفوضى الشرق الأوسط بمفهومه الأمريكي وما نعيشه اليوم من أحداث كالربيع العربي، وارتباط الأحداث بالتصورات الاستعمارية للمنطقة، بما فيها (طُـوفان الأقصى) وحرب غزة، ومعركة البحر الأحمر والدور اليمني في نصرة القضية الفلسطينية، حَيثُ يقدم تصورات ما بعد المرحلة والإمْكَانيات التي يمكنُها أن تدفعَ باليمنِ إلى مستقبلِ مشرق والعرب إلى فضاء رحب.
إلى نص الحوار:
– بداية من هذا المشروع.. كَثيراً ما كانت مستشارة الأمن القومي الأمريكي بعهد جورج بوش الابن كوندليزا رايس تتحدث عن الشرق الأوسط الجديد الكبير، والفوضى الخلاقة، بما فيه الحديث عن تغيير أنظمة عربية صراحة، وهذا ما ظهر مع ما أطلق عليه “الربيع” العربي.. هل كان هذا على علاقة بمؤلفات وتصورات اليهود الصهاينة، والأبرز هنا شمعون بيريز الذي شغل منصب رئيس وزراء الكيان المؤقت ثلاث مرات، وكتابه “الشرق الأوسط الجديد”، أَيْـضاً مشروع برنارد لويس.. هل كُـلّ ما يحدث في المنطقة العربية والشرق الأوسط ارتبط بهذه الأفكار والمخطّطات؟
كما تفضَّلت فَــإنَّ فكرة “الشرق الأوسط الجديد” فكرةٌ صهيونية، وأول من كتب عنها كتاباً هو شمعون بيريس، حَيثُ يرسم عبر ذلك الكتاب نظاماً إقليمياً بغطاء قومي وبخطط اقتصادية ضخمة، وأهمُّ فكرة فيه هي فكرةُ طمس الهُــوِيَّات التاريخية والحضارية للشعوب العربية، وقد شاعت هذه الفكرةُ على ألسنة الساسة الدوليين منذ مطلع الألفية الجديدة إلى حرب تموز 2006م.
– على ذكر حرب تموز/يوليو 2006، فقد مثلت هذه الحرب انتكاسة للمشروع الصهيوني أولاً، ولمشروع الشرق الأوسط الجديد؟
صحيحٌ، حربُ تموز بين حزب الله و”إسرائيل” جاءت بنتائجَ عكسيةٍ لم يتوقعها الكيان الصهيوني، وعلى إثرها تم تغيير المصطلح من الشرق الجديد إلى فكرة إنشاء شبكة إسلام معتدل.
– تغيير المصطلح مع استمرار المشروع الصهيوني ذاته؟
نعم قاموا بتغيير المصطلح فيما كانت فلسفة الفوضى الخلاقة هي من تقود المرحلة، وقد كتب الكثير عن فلسفة الفوضى الخلاقة، لكن لدينا مناعة ضد الفهم وعزوف عن القراءة؛ ولذلك شاعت الفوضى الخلاقة في العواصم التي تمثل عمقاً حضارياً وتاريخيًّا مثل مصر والعراق وسوريا واليمن، وهدفها كان واضحًا وهو طمس الهُــوِيَّات التاريخية والحضارية إلى درجة التيه في الذات، وقد لمسنا كيف تمّ هدم النظام العام والطبيعي، وقد حذرت في سلسلة من الكتابات عن خطورة ذلك لكن المشكلة تكمن في عدم التلقي الإيجابي لما يكتب.
– نعود لارتباط تلك الفوضى وذلك المشروع التفكيكي للمنطقة بالربيع العربي وتداعياته، فالربيع العربي كعنوان براق ساق معه تأثيرًا سلبيًّا متعدد الأوجه.. أليس كذلك؟
بالفعل، لقد حدثت الفوضى الخلاقة في الكثير من العواصم العربية تحت مسمى “الربيع العربي” وكلّ العواصم التي حدث فيها الربيع العربي لم تتعافَ رغم مرور كُـلّ هذا الزمن، بل الثابت أننا وجدنا انهياراً كاملاً للنظم وهرولة إلى التطبيع، ووحدة الصف التي كان عليها القرار العربي لم تعد كما كانت، حركة التطبيع معلنة اليوم مع بعض الأنظمة والتعاون بين بعض الأنظمة وبين “إسرائيل” خرج من تحت الطاولة إلى سطحها لم يعد هناك شيئاً مستوراً.
طبعا كُـلّ هذا كان يحدث وفق خطط واستراتيجيات، مثل استراتيجية راند لعام 2003م ولعام 2007م ولعام 2012م وغيرها الكثير؛ فالموضوع لم يكن اعتباطاً لكن انسقنا لتلك الاستراتيجيات كالقطيع، فأصبحنا أُمَّـةً بلهاء تتناوشها سهام الغدر من كُـلّ مكان، وأية أُمَّـة لا تنزل رواد التنوير فيها منازلهم من التقدير والاحترام بل تنزلهم غياهِب السجون إن لم تَنْسَقْ مع الصهيونية في اغتيالهم كما حدث لبعض الرواد في عقد الثمانينيات والتسعينيات ومطلع الألفية.
فأية أُمَّـة تتعامل مع رواد الفكر بالقمع والتغييب تصاب بالهزيمة والهوان، وهذا ما كان عليه حال العرب وهذا ما وصلوا إليه، فالواقع اليوم يتكلم ببلاغة منقطعة النظير.
– أين كان مشروع برنارد لويس للشرق الأوسط -الذي صيغ لإعادة هيكلة المنطقة العربية “أمريكياً”- من كُـلّ هذا؟
مشروع برنارد لويس هو جزء لا يتجزأ من المشروع الصهيوني، ماذا نتوقع من يهودي بريطاني انتدب إلى البيت الأبيض؛ للقيام بدور عام يخدم الصهيونية، برنارد لويس قرأ التاريخ العربي الإسلامي، وعرف كيف يمكنه أن ينفذ إلى عمق العرب، وله مقولات مشهورة مثل “العرب والمسلمون قوم فاسدون مفسدون فوضويون لا يمكن تحضيرهم؛ ولذلك فَــإنَّ الحل السليم للتعامل معهم هو إعادة احتلالهم واستعمارهم وتدمير ثقافتهم الدينية”، ومقولات أُخرى مثل “إنه من الضروري إعادة تقسيم الأقطار العربية والإسلامية إلى وحدات عشائرية وطائفية”.
وكان جل اهتمامه هو التأثير على صناع القرار في البيت الأبيض ومن خلال ساسة البيت الأبيض سوّق أفكاره التي أوردنا أبرز ملامحها، ولعل أخطر فكرة هي الفكرة التي اشتغل عليها الربيع العربي، وهي إعادة تقسيم خارطة الوطن العربي على أسس عرقية وطائفية وثقافية، وهذا المشروع يشير إلى نفسه في الكثير من التفاعلات السياسية في المنطقة وَأَيْـضاً التفاعلات الثقافية.
– مع هذا هناك إخفاق أمريكي غربي صهيوني في إضعاف المنطقة العربية والسيطرة التامة عليها؟
لا أراه إخفاقاً تاماً، بالقياس إلى العرب قبل 2011م، وبالقياس إلى ما بعد الربيع، ما بعد الربيع تفككت الأنظمة العربية؛ بدليل أنهم لم يوحدوا موقفاً من حرب الإبادة على غزة، بل ذهب البعض إلى إعلان التعاون مع حكومة الكيان الصهيوني، وهذا تطور خطير في تاريخ العلاقة بين العرب والكيان الصهيوني، وفي السياق يشير إلى نجاح وليس فشلاً كما نتوهم، نجحوا في التفكيك وفي التضليل وفي فرض الهيمنة.
– لكن أمام هذا الاختراق هناك محور المقاومة الذي يمثل حائط صد ضد ذلك المشروع؟
تستطيع أن تقول إن هناك مشروعاً مضاداً ومقاوماً بازغاً اليوم يتمثل في محور المقاومة، استطاع أن يثبت نفسه في معادلة الوجود العسكرية ولكنه حتى الآن لم يبلور مشروعاً ثقافيًّا وسياسيًّا ناهضاً، فالعراق كمثال، هناك التناقض الثقافي وشيوع النقل والتسليم وتعطيل المدركات الحسية والهروب إلى تنمية الخرافة التي قد تفسد ما يصلحه الجانب العسكري المقاوم، الفكرة الدينية ليست حلاً في حَــدِّ ذاتها؛ فالاستهداف قد نال منها بالقدر الذي قد لا نتصوره وكاد أن يصل إلى البعد العقدي خَاصَّة في العراق هناك عقائد لا يقبلها منطق سليم، الموضوعُ يحتاجُ إلى إصلاح ثقافي وأخلاقي وهو أمر قد سبق لي الكتابة عنه.
قد تحقّق “إسرائيل” حُلمَها إذَا لم نتمكّن من الإصلاح الثقافي وإعادة صوغ مشروع عربي إسلامي واضح يحمل الخيرية للبشرية؛ لأَنَّك تواجه مشروعَ هدم التطبيقات الاجتماعية والثقافية.
– تراجع المشروع الصهيوني الكبير لما وراء الجُدران العازلة أليس هذا إخفاقًا وفشلًا رغم حالة الضعف العربي والانقسام والقطيعة التي عاشتها وتعيشها الأنظمة العربية، فيما المقاومة تعيش وضعاً أكثر قوة وأكبر تأثيراً؟
حتى الآن لا نستطيع أن نقول إن المشروع الصهيوني تراجع، وحركة مقاومته في طور التكوين ويلزمها الكثير من الوقت ومن الصناعة، مقاومة المشروع الصهيوني لا يمكن أن تتم بحركة مقاومة مسلحة تنتهي بانتهاء المعركة، لا، الموضوع أكبر من هذا إذَا أردنا أن يتراجع هذا فلا بدَّ من مقاومته على كُـلّ المستويات ومختلف المجالات، نريد نهضة فكرية وإصلاحاً ثقافيًّا للعقائد الفاسدة وإصلاحاً أخلاقياً، هناك حركة إفساد للمجتمعات تتم عن طريق التطبيقات، المحتوى الرقمي نحن لا نساهم فيه بالرغم أن خطورته أكبر مما نتخيل، وفي الغالب عقولنا تقف عند نقاط مضيئة ونراها هي الصواب بعينه وهنا نقع في قضايا معقَّدة لا نستطيعُ منها فكاكاً.
– مثل ماذا.. أية نقاط تقصد؟ لما لا نستطيع التخلص منها؟
دعنا نعود لعوامل التطور الحضاري للدولة العباسية مثلاً كيف نهضت؟ وكيف تركت حالة من الدهشة في المجتمع الإنساني؟ لو قرأنا التاريخ نكتشف ما يلزمنا العمل عليه اليوم، القرآن يحثنا على القصص والتدبر في الآثار، هذا موجِّهٌ قرآني ونحن نقول اليوم بالثقافة القرآنية.
قضايانا المعقَّدة قضايا تمس المصطلحات والعلاقة بالآخر وقضايا التفاعل مع المستوى الحضاري الإنساني، والهُــوِيَّة ومشكلات ثقافية وفلسفية حول قضايا كبرى مثل العدالة الاجتماعية والحق والخير وغيرها مما لا بُـدَّ للعقل الفلسفي بيانها وإشباعها بحثاً ودراسةً.
– كيف يمكن فهم أن المشروع الصهيوني بعمر ظاهر يتجاوز ٧٥ عاماً لم يفشل، حَيثُ تقارير الداخل الإسرائيلي، وَالجو السياسي، الاجتماعي، والثقافي للكيان المحتلّ يتنبأ بسقوط هذا الكيان المؤقت؟
حتى اليوم لا يمكنني أن أقول بفشل المشروعِ الصهيوني بل نجح في تفكيك الموقف العربي واستطاع ترويضَ الأنظمة العربية فذهبت إلى التطبيع، وحربُ غزة هي جزءٌ من مشروع توسعي قديم نشأ في خمسينيات القرن الماضي على إثر تأميم قناة السويس كشركة مساهمة مصرية، ومع كُـلّ هذا الزمن الذي مضى لم ينس اليهود فكرة إنشاء قناة بن غوريون، وحرب الإبادة والتهجير والضغط العسكري، يريد الوصول لهذا الهدف وهو مشروعٌ اقتصادي كبير وفق المخطّط الصهيوني.
– بالتأمل لوضع دول في الخليج، الإمارات من قبل والسعوديّة مؤخّراً هناك توظيف واستثمار خفي، لإمْكَانات الخليج ضمن خطط ومراحل، هدفُه ضربُ الهُــوِيَّة العربية الإسلامية من الداخل.. بمعنى استخدام المال الخليجي لتفريغ الداخل العربي وسلخه وتغريبه ثقافيًّا وإضعافه سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعياً؛ أي محاولة تدجين العرب من البوابة الخليجية.. كيف تعلق على هذا؟
المؤكّـد أن هناك استراتيجياتٍ وسياساتٍ تعرفُ من أين تؤكل الكتف، هناك علوم حديثة ما نزال نقلل من قيمتها كالعلوم الاجتماعية والانثروبولوجيا؛ فالصهاينة والغرب يدركون أهميتها ويَنْفذون من خلالها.. اليوم الذي يحدُثُ في السعوديّة مثلاً، هدمٌ واعٍ وممنهجٌ للتطبيقات الاجتماعية والتطبيقات الثقافية، وكمثال هناك سياسة فرض من ترفضهم الفطرة السليمة كالشواذ، هؤلاء يتم استضافتهم في مهرجانات الترفيه في السعوديّة، في مجتمع محافظ لا يقبلهم ولا يقر بوجودهم، ومساندة السلطة لهم ترويض للطبائع البشرية في تقبلهم، وأعتقد مثل هذا أمر مفروض على النظام السعوديّ.. مشروع “نيوم” هو مقابل هذا السقوط الأخلاقي، وهي سياسةٌ كانت في دبي وما تزال.
– كما تفضّلت فَــإنَّ ما يحصل في الخليج من توظيف عكسي للإمْكَانات العربية يتم ضمن تخطيطٍ غربي شامل ينال من عناصر القوة العربية بكل اتّجاه.. هذا يعني خيانة أنظمة للأُمَّـة؟
هو كذلك، فمقوماتُ القوة الموجودة عند العرب لم تستغل وتوظف بالشكل الأمثل، برنارد لويس كان وراء فكرة القضاء على حركات التحرّر في الوطن العربي وقد نفذت هذه السياسة، وَأَيْـضاً كان وراء فكرة القضاء على رموز التنوير في الوطن العربي وتم تصفية الكثير منهم من جماعات استخبارية تدَّعي الإسلام، ولعلنا نتذكَّرُ موجةَ الاغتيالات للعلماء العراقيين بعد اجتياح بغداد عام 2003م؛ فالقضاء على مصادر الوعي ومصادرتها مهمة أَسَاسية لهم، كُـلّ هذه السياسات تهدف إلى تفكيك البِنَى الثقافية والنسيجِ الاجتماعي، وُصُـولاً إلى مراحل التوحُّش والدولة الفاشلة.