إلى ذاكرة أدِيب.. إنَّهُ زمنُ الانتصارات
منتصر الجلي
هذه المرة أخط حروفي عن زمن الحرية، هذا الزمن الذي طالما انتظرته أجيال بحالها، جيل الخمسينيات والستينيات والسبعينيات مُرورًا إلى تسعينيات القرن الماضي، أجيال عربية بمختلف مجتمعاتها مرت على عقود ساخنة من الصراع العربي الإسرائيلي، بمختلف فئات الإنسان العربي كُـلّ كان له بصمة في هذا الصراع الذي لم يِرد له الغرب أن ينتهي، تجربة من الأيديولوجيا الثقافية التي لامست مشاعر العربي وأصبحت جزء لا يتجزَّأ من منظومته العربية الكبرى، نجد تراث تلك المقاومة في خبايا الأدب العربي الفلسطيني والعراقي واليمني والسوري واللبناني، أدب مقاوم ترسخ في عمق الذاكرة العليا والبسيطة من أبناء تلك الشعوب، عن قضيتهم الأولى ” فلسطين ” تلك الفئة من بسطاء الشعوب ومثقفوها كانت أرواحهم تهفوا إلى شرارة نصر تشعل فرحة القلوب، كذا على مستوى الحركات القومية والدينية جميعها كانت تنطلق تحت عنوان القضية الأم فلسطين، في عدد من بلدان عالمنا العربي، مع تعاقب المسارات وتعدد الرؤى المنظرة لشكل الحل المفصلي للقضية الفلسطينية سرعان ما تهفت تلك الأصوات والنهضة التحرّرية، لعوامل عدة أبرزها ضعف الانطلاقة من الأسس وضبابية الهدف، حَيثُ كانت تكتم تلك الأصوات سواء الفردية منها أَو الجماعية اليد الغربية، والاستخبارات الموسادية في أرجاء الوطن العربي تحت مظلة حكوماتها.
وكذا تشكل الواقع المناهض للاحتلال الإسرائيلي إلى واقع من الروتين والتأقلم مع الحال من قِبل الجهات العربية، رغم وجود نور أمل لعودة القضية لمجدها الأول.
ما إن حَـلّ ما يسمى الربيع العربي في بلدان الشرق الأوسط حتى سرعان ما تحسس بقية الزعماء كراسيهم بأيديهم وتشبثوا بها خشية مفارقتها، تلك اليد هي التنازل عن قضية الوجود “فلسطين” ولضمان بقائهم مدوا اليد الأُخرى للأمريكي يبيعون القضية بثمن بخس تحت مسمى، التطبيع، تلقت تلك الشعوب خيبة الأمل الكبرى على يد زعماء حكموها بدءاً باسم “فلسطين” تغنوا بها أمام الشاشات والجمهور وعلى صوت الإذاعات وتصدروها عشقا مزيفا في على الصفحات الأولى من صُحف الصباح، كُـلّ ذلك نسف في عشية وضحاها، ويشعر عدو الاحتلال بغبطة تملء وجهه القبيح، مما يرى أمامه من تنازل وسقوط عربي فضيع، فيضحك على سنوات النكسة ويزيد أُخرى على مجازر طالما تفنن فيها، قتل وإبادة وتهجير للفلسطينيين.
تذهب مآلاتُ الشعوب ونداءات الأحرار تغص في كربة اليأس، تحولت الأقصى في أرواحهم إلى سمفونية ينشدونها تراتيل على حلم يتلاشى كُـلّ يوم من عقد إلى آخر والتراجع للوراء أكثر وحلم الكبار يذهب معهم للمقابر، ويأتِ الصغار على آثار أقدام عزمت تحرير فلسطين.
لم أطلق في بدء حديثي “زمن الانتصارات” من حلم يراودني أَو رؤيا تتجدد، بل أتذكر أحرار الكلمة من أدباء أُمتنا الذين سطروا قصائد حروفهم عشقا يُتلى ويبقى لفلسطين وحدها، أرَى تحقّق حلم عمر أبو ريشة ومحمود درويش، وفدوى طوقان ونزار قباني، أرى تحقّق حلم المقالح والسياب البرغوثي، أرى فرسان تلك الروايات اليتيمة التي حِيكت في زمن الخيبة عن أبطال الأُمَّــة وفلسطين، يخرجون عن واقها الدرامي إلى معارك نراها ونعيش تفاصيل أحداثها.
نعم أُدباء أُمتنا نحن نراهم اليوم، نعيش لحظاته حدث بحدث كلها انتصارات، لو تعلمون كيف هي سعادة النصر وبني صهيون يحاصرون من قِبل أبطال اليمن، ويقصفون من العراق وينكل بهم أبطال لبنان من الشمال، أمام عن أهل فلسطين منهم مع الملائكة رحلوا والأغلب يسطرون ملحمة أذهلت كُـلّ ذي لُب.
هو زمن الانتصارات، أناديكم من قصائدكم وحرارة كلمات التحرّر التي أنَّبتُم فيها الأُمَّــة عن التخاذل، ولكن: أتعلمون لا أود ذكر هذا فالخيانة كبُرى من قادة بلا قيادة، وزعماء قبلتهم البيت الأبيض، حالوا صلاتهم ونُسُكهُم إليه حين كشرت أمريكا أنيابها عليهم ذلوا ذلاً لا عِزّ بعده.
من نخل جيكور، إلى “أُمتي هل لكِ بين الأمم” إلى “ماذا جرى يا أبا تمام تسألنِي؟” إلى “لنكُن أصدقاء” إلى “هي القُدس مسرى النبي الأمين” إلى عدد من قصائدكم التي كانت عنوان للعودة وجمع الكلمة وتوحد الصف، جميعها أبيات قرأها من هم قادة اليوم لكن لم يحفظوا معانيها المقدسة، لم يعلموا أن البيت العربي بيتهم وأن فلسطين جزء من أسرة تحت سقف، أَو تعلُّم الزعماء والقادة كما يبدو كان طفيفاً فأبناء الأمراء لا يحفظون ولا يقرأون من مجد الأُمَّــة شيء أَو عن لُحمتها الواحدة فخشية الآباء عن أن يكونوا أبناء صالحين لأمتهم كانت تطغى على كُـلّ شيء فكان مدرسوهم يكثرون لهم من حذف تلك الدروس التي تحث على العروبة أَو الإسلام أَو فلسطين، يعلمونهم فقط عن حكايا “الثعلب والديك” ليتحول ثعلب الحكاية وديك الأذان إلى حكام وزعماء يقودون شعوب من ديكة ودجاج، إلاّ من أبى، وهم كُثر.. نعم، أبطال حرّروا العقل العربي من حكومات الثعالب إلى مواطن الأُسد والنزال.
زمن الانتصارات أيها الأدباء الراحلون هو زمن حلمتم أن تروه، ولكنَّ نراه ماثلا أمام العيان، فلسطين اليوم سعادتكم غير الأمس والطوفان يهز يجرف عرش القردة، أجل سعادتكم طوفان غزَّوي يمني عراقي، أذل اليهود وصارت “إسرائيل” بين البحار محاصرة وعلى الطرقات يدوسهم أبطال المقاومة، أما عن ثعالب ونعاج الحكومات والزعامات ذابوا كالملح في وابل من عجين، لا صوت أَو موقف أَو عبارة، ظهرت دروس معلموهم على جباههم، ” نعاج ونِعام” يمكرون ويدسون رؤوسهم عند كُـلّ جريمة لكيان الاحتلال في فلسطين، شهداء وإبادة جماعية مجرموها أعراب ومنافقو الأُمَّــة قبل العدوّ نفسه، وفي المقابل هناك ملاحم يسطرها ليوث اليمن وغزة والعراق ولبنان، أقضُّوا للعدو مضجعة حتى ذاق بأسَ الرجال وبأس البحار.. والاحتلال إلى زوال.