السيد عبدالملك الحوثي في المحاضرة الرمضانية الثامنة: المعصية لله سبحانه وتعالى حصلت من إبليس قبل أن تأتي من جهة البشر. مصير الإنس والجن في الدنيا والآخرة مرتبط بموقفهم تجاه هدى الله سبحانه وتعالى
الله سبحانه وتعالى في قصة تعليم الأسماء، وسؤال الملائكة عنها أوصلهم إلى قناعة تامة، وأذعنوا للموضوع بشكلٍ تام، واستفادوا منه استفادةً عظيمة
السجود لآدم كان خضوعاً لله وتسليماً لأمر الله وأيضاً طاعة لله سبحانه وتعالى فهو عبادةٌ لله جلَّ شأنه، وتكريمٌ لآدم عليه السلام
إبليس لم يسجد لآدم فكان كافراً باتهامه لله سبحانه وتعالى في حكمته وعدله، وأيضاً في احتقاره لآدم عليه السلام وفي عصيانه لأمر الله ورفضه لأمر الله سبحانه وتعالى
الله سبحانه وتعالى أراد أن تكون بداية الاستخلاف لآدم وحواء عليهما السلام وبداية مشوارهما في الحياة، في إطار نعيمٍ في هذه الدنيا وألا يباشرا بالعناء والكد والجهد والتعب
أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللَّهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إبراهيم وَعَلَى آلِ إبراهيم إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أصحابهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنت السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنت التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.
أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ.
قصة خلق آدم، وبداية الوجود الإنساني، وموقف إبليس، وردت في سورٍ كثيرةٍ في القرآن الكريم، وبتفصيلٍ أكثر في: (سورة البقرة، والأعراف، والحجر، والإسراء، وطه، وص)، وفي كُـلّ سورة تأتي القصة في إطار سياقٍ معيَّن، لها سياقٌ معيَّن، وتضيء الآيات القرآنية المباركة على جوانب مهمَّة ذات علاقة بذلك السياق، وبذلك تكتمل للإنسان الصورة من جوانب متعددة، ويستفيد الكثير والكثير من الدروس، وبدأنا بالقصة التي وردت في (سورة البقرة).
في محاضرة الأمس تحدثنا بإيجاز عمَّا قبل خلق الإنسان، فالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” خلق السماوات والأرض، وخلق الملائكة، وبث في الأرض من كُـلّ دابة، وهيأ الأرض في مراحل متعددة لحياة الإنسان، منذ بداية تكوينها وخلقها وإيجادها، وخلق الجان أَيْـضاً من قبل خلق الإنسان، فمضى وقتٌ طويل منذ أن خلق الله السماوات والأرض إلى حين خلق الإنسان وأوجد الإنسان، قال “جلَّ شأنه”: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإنسان حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شيئاً مَذْكُورًا}[الإنسان: الآية1].
وخلق الله الملائكة بأعداد كبيرة جِـدًّا جداً، بأعداد هائلة، ومهامٍّ متنوعة، وأسكنهم سماواته، وهم كما قال عنهم في القرآن الكريم: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}[الأنبياء: 26-27]، والملائكة في خلقهم وتكوينهم يختلفون عن البشر، وليسوا كالجن أَيْـضاً، فهم مخلوقات خلقها الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” من دون نظام الخلق الذي جعله في حياة البشر، يعني: من دون توالد، ولا تناسل، ولا وضعٍ اجتماعيٍّ مترابطٍ بالأنساب، الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” خلقهم دفعات هائلة جِـدًّا؛ ولذلك ليست الحالة عندهم كالحالة عند البشر: (ذكور، وإناث؛ وتوالد، وتناسل)، الحالة بالنسبة لهم تختلف عن ذلك، وقد فنَّد الله في القرآن الكريم التصورات الجاهلية عنهم، حَيثُ كانوا يعتقدون أنهم بنات، ويسيئون إليهم، وإلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، حينما يقولون أنهم إناث، وأنهم بنات الله، تعالى الله عمَّا يقولون علوا كَبيراً، {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ}[الزخرف: الآية19].
خلق الله الجان أَيْـضاً من قبل خلق الإنسان، كما قال “جلَّ شأنه”: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ}[الحجر: الآية27]؛ ولذلك فالجان أَيْـضاً يختلف في تكوينه وفي خلقه عن الإنسان، وسنأتي في الحديث على نحوٍ تفصيلي عن هذه المسألة، في المواضع الأُخرى للقصة في سورة الحجر.
منذ خلق الله الأرض أعدها وهيأها للإنسان، مع أن الإنسان خُلِقَ متأخراً بدهرٍ طويلٍ، لكن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” منذ خلق الأرض كان في تقديره وتدبيره أن يهيئها للإنسان، عندما يأتي الوقت الذي سيخلقه فيه، فهيئها الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” تهيئةً عجيبة، تتلاءم مع حياة الإنسان، ومع دوره الذي سيستخلفه الله على أَسَاسه فيها؛ ولذلك يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ}[البقرة: من الآية22]، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرض جَمِيعًا}[البقرة: من الآية29]، وقال “جلَّ شأنه”: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأرض وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ}[الأعراف: من الآية10]، وقال “جلَّ شأنه”: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ}[لقمان: من الآية10]، فحتى في خلق الجبال في الأرض، لتكون أوتاداً للأرض، فلا تكون مضطربة في حركتها، وهي مضغوطة بالمياه الهائلة جِـدًّا (مياه المحيطات والبحار)، فحسب الله حساب الإنسان، في تقديره، وتدبيره، وتكوينه لخلق الأرض وتكوينها.
{وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُـلّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُـلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ}[لقمان: من الآية10]، النباتات المتنوعة، وبأعداد كبيرة جِـدًّا، وذات منفعة عجيبة للإنسان، منها ما هو منفعة للإنسان في غذائه، ومنها ما هو منفعةٌ له في دوائه، ومنها ما هو منفعةٌ له في ملابسه، إلى غير ذلك من المنافع المرتبطة، حتى بالأكسجين الذي يتنفسه الإنسان.
وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرض قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ}[غافر: من الآية64]، وقال “جلَّ شأنه”: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ}[فصلت: 9-10]، قد بيّن لنا كما قرأنا في الآية المباركة السابقة؛ حتى لا تضطرب بالإنسان، {أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ}؛ لكي تكون مستقرة للإنسان، لا تكون في حالة اضطراب وارتعاش مُستمرّ، {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا}: الجبال الهائلة، {وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أربعةِ أَيَّـام سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ}[فصلت: من الآية10]، قدَّر فيها الأقوات، ما يحتاجه البشر، وما تحتاجه كُـلّ الدواب، التي تكفل الله برزقها، وأوجدها، وخلقها في الأرض وبثها فيها.
وقال تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا}[الزخرف: من الآية10]، فالله جعل الأرض مهداً للإنسان، مهيأةً له في كُـلّ متطلبات حياته، ومستقرةً له في حياته، مع أنها في حركتها ليست بالشكل الذي يظهر للإنسان وتؤثِّر فيه على حياته، وتضطرب به، وإلا فهي متحَرّكة ضمن بقية الإجرام السماوية، ويقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}، وقال “جلَّ شأنه”: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}[الملك: من الآية15].
وكم في القرآن الكريم من آيات كثيرة جِـدًّا، تبيِّن لنا أن الله هيأ الأرض، من بداية خلقها، ومراحل تكوينها وتهيئتها وإعدادها، {وَبَارَكَ فِيهَا} هذه العبارة العظيمة المهمَّة، ما جعل الله في هذه الأرض من البركات، والخيرات، والمنافع الواسعة والمتنوعة جِـدًّا للإنسان، إضافة إلى قوله: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا}، بما يحتاجه البشر ويفي باحتياجاتهم، واحتياجات الدواب المخلوقة في الأرض.
فيما يتعلق بخلق الإنسان، ما قبل خلق الإنسان، والأرض مهجورةٌ من هذا الكائن البشري، باستثناء الدواب والكائنات التي قد خلقها الله فيها، لكن هذا الكائن الذي سيكون له دورٌ أَسَاسيٌّ في الأرض، ومختلفٌ عن غيره، مختلفٌ بشكلٍ كبير، فيما هيأ الله له من الدور الواسع، والانتفاع الواسع بما في الأرض، والحركة الواسعة على هذه الأرض، وما يجري في حياته من متغيرات على هذه الأرض، كان الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” قد أخبر الملائكة قبل خلق الإنسان بزمن، أخبرهم أنه سيخلق هذا الإنسان، وأخبرهم لا نعرف عن التفاصيل، عن مستوى ما أطلعهم الله عليه، وأعلمهم إياه عن مستقبل هذا الإنسان، لكنهم عرفوا مما أخبرهم الله “جلَّ شأنه” أنه سيحصل من بعض البشر إفساد في الأرض، وسفكٌ للدماء، ارتكاب جرائم رهيبة جِـدًّا؛ ولهذا عندما أتى الوقت المؤقت في تدبير الله تعالى لخلق الإنسان، أخبر الملائكة أَيْـضاً أنه سيخلقه، والملائكة لهم أدوار كثيرة مرتبطة بالبشر؛ ولذلك من حكمة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أن يخبرهم عن الإنسان، وعن حياة الإنسان ومستقبل الإنسان، وأن يكون لهم علاقة منذ بداية خلق الإنسان؛ لأَنَّ هناك مهامًّا منوطة بهم: في حفظ الإنسان، في إحصاء أعماله ورصد أعماله، في النزول بالوحي… في أمور كثيرة من التدبير الإلهي، وتفاصيل كثيرة ليس المقام مقام الحديث عنها.
الملائكة اندهشوا، وكان اندهاشهم، وتساؤلهم، والعرض الذي قدَّموه أن يقوموا هم بمهمَّة الاستخلاف على الأرض، ليس اعتراضاً منهم على الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ لأَنَّهم كما ذكرنا عنهم فيما ورد في القرآن الكريم بشأنهم، أنهم: {عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}، أنهم {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ}[الأنبياء: الآية20]، ولكنَّ الملائكة في إيمانهم وتعظيمهم لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” كبُر عليهم وشقَّ عليهم أن يكون في الأرض مخلوقٌ يعصي الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ويرتكب تلك الجرائم الرهيبة، الفظيعة، الشنيعة، من إفساد في الأرض وسفكٍ للدماء، ومفهوم الاستخلاف بالنسبة لهم نظروا إليه من زاوية واحدة؛ ولذلك كانوا يتصورون أن بالإمْكَان أن يقوموا هم بمهمَّة الاستخلاف في الأرض؛ لأَنَّهم يعرفون أن أي مخلوق يخلقه الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، سيكون دوره في إطار العبودية لله، وستكون مسؤوليته أن يعبد الله، ومهمَّته ودوره في إطار العبودية لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ومفهوم العبادة بالنسبة لهم على ذلك الحال المعروف بالنسبة لهم، من التسبيح، والتعظيم، والتقديس لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، فلم يكن لديهم معرفة تفصيلية عن الإنسان، فيما يتعلق بطبيعة الاستخلاف له، وطبيعة حياته في بعض التفاصيل.
ومع ذلك، كان مقتضى الإيمان والتسليم لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: أن لا يتساءلوا، وأن لا يندهشوا؛ لأَنَّه وإن خفي عليهم وجه الحكمة من الاستخلاف للإنسان، فهم يؤمنون أن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” هو أحكم الحاكمين، وعالم الغيب والشهادة، ولا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، فكان مقتضى التسليم لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: أن يذعنوا، وأن لا يتساءلوا، وأن يعودوا إلى هذا المبدأ العظيم المهم، وهو مبدأ الإيمان؛ لأَنَّ الله هو العليم الحكيم، هو الذي أعلمهم أصلاً بما سيحصل من بعض البشر.
ولكن برحمة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وبحكمته، وبفضله، بيّن لهم وجه الحكمة، بما أوصلهم إلى قناعة تامة، وَأَيْـضاً في إطار الهداية لهم، وكان هذا درساً عظيماً للملائكة، درساً مهمًّا لهم، والكل بحاجة إلى هداية الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ليس هناك من المخلوقين، من الكائنات التي خلقها الله من يمكن أن يستغني عن هداية الله، الكل بحاجة إلى هدى الله، فالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” بذلك الاختبار، في قصة تعليم الأسماء، وسؤالهم عن الأسماء، أوصلهم إلى قناعة تامة، وأذعنوا للموضوع بشكلٍ تام، وكان في ذلك درس حتى للمستقبل بالنسبة لهم، أكيد استفادوا منه استفادة عظيمة.
خلق الله آدم أبا البشر “عَلَيْهِ السَّلَام”، وبخلقه بدأت حياة البشر، وقد خلقه من طينة الأرض، ومن عناصرها، ونفخ الله فيه من روحه، والروح سرٌ عجيب، وكما قال الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” عنه: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}[الإسراء: من الآية85]، وبالروح حياة الإنسان، عندما ينفخ الله من روحه في الإنسان يحيا، ويبقى حياً ما بقيَ الروح فيه، وعندما ينزع منه الروح يموت ولا تبقى له الحياة، فحياة جسد الآدمي تكون بالروح الذي ينفخه الله فيه، وتنتهي الحياة بفراق هذا الروح للجسد.
ثم إن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أَيْـضاً خلق منه حواء “عَلَيهِمَا السَّلَامُ”، آدم وحواء هما العنصر البشري الأول، ومنهما توالد البشر.
فالإنسان كائنٌ أرضي، خلقه الله من طينة الأرض، ومن عناصرها، واستخلفه فيها، ومهمَّته هي: الاستخلاف في الأرض من البداية، فكما قلنا المفهوم المنتشر عند كثير من المثقفين، وكثير من العلماء، أن الإنسان في هذه الأرض منفيٌّ فيها عقوبةً له، ليس مفهوماً صحيحاً؛ لأَنَّ الإنسان من بداية خلقه أراد الله أن يستخلفه في الأرض، وهذه المهمَّة وهذا الدور هو دورٌ عظيم، إلى هذه الدرجة التي كان الملائكة قد عرضوا هم أن يقوموا بها (بهذه المهمَّة)، ليست انتقاصاً من شأن الإنسان ولا عقوبةً له، والأرض كذلك هي كوكبٌ مميزٌ ورائع، ليس تواجد الإنسان عليها عقوبةً له ومصيبةً عليه، بل نعمة، نعمة، الله تمنن علينا في القرآن الكريم كَثيراً بنعمة الأرض، عدَّها من نعمه، وما أودع الله لنا فيها من النعم المتنوعة جِـدًّا، والهائلة جِـدًّا، والكثيرة جِـدًّا، والتي لا يزال البشر في انتفاعهم بها يكتشفون المزيد والمزيد منها جيلاً بعد جيل، في كُـلّ جيل اكتشافات للبشر في كيفية الانتفاع بما أودع الله لهم من النعم في هذه الأرض، ويتوسعون أكثر وأكثر، ووصلوا في هذا العصر إلى مستوى عجيب جِـدًّا، فيما اكتشفوه من نعم الله لهم، وما هيأه الله لهم، وما في هذه النعم من التسخير، الذي يهيئ للإنسان كيفية الاستفادة بأشكال كثيرة، ومتنوعة، وعجيبة، وهذه مسألة معروفة، وتحدث القرآن الكريم عنها كَثيراً كَثيراً.
أيضاً أنعم الله على الإنسان في خلقه، خلقه الله في أحسن تقويم، وميَّزه عن كُـلّ الدواب الموجودة على الأرض ميزةً عجيبة، في تركيبه، وخلقه، وقامته، وشكله، وجماله، وهذه مسألة معروفة جِـدًّا، ومنحه الله مدارك، وطاقات، وقدرات، ومواهب، تتناسب مع المهمَّة الواسعة والدور الواسع له في الاستخلاف على الأرض.
بعد خلق الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” لآدم “عَلَيْهِ السَّلَام” علَّمه الله الأسماء، وعرَّفه على المسميات، قال الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأسماء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأسماء هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة: الآية31]، علَّم آدم أسماء الأجناس الموجودة على الأرض؛ لأَنَّه بحاجة إلى معرفة ذلك، ليعرفها؛ لأَنَّه بحاجة إلى معرفة هذه المسميات، المسميات التي أطلقت عليها تلك الأسماء، وعلاقته بها، وكيف ينتفع منها، مثلاً:
- عرَّفهعن الماء: عن اسمه، وعن كيف ينتفع به، وعن حاجته إليه.
- عرَّفهعلى الأشجار، على النباتات، والنباتات عالمٌ واسعٌ جِـدًّا، لكن سيعرف عنها، ويعرف عن بعضها بالتفصيل، ويعرف عن خواصها ومنافعها، وما هو غذاءٌ له منها، وغير ذلك.
- يعرفعن المعادن، وكيفية الانتفاع بها.
- كذلكفيما يتعلق بالأرض: أن تلك جبال، وتلك سهول، تلك وديان، تلك صحاري.
تعريف على ما يحتاج إلى معرفته لمهمَّته واستخلافه في الأرض، فهذا يشمل عناوين كثيرة عرَّفه الله عليها؛ لأَنَّه بحاجة إلى أن يعرفها، ويعرفها ذريته.
{ثُمَّ عَرَضَهُمْ}، يعني: المسميات تلك، {عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأسماء هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}، إن كنتم صادقين في أنكم الأنسب في الاستخلاف في الأرض، وأن آدم والبشر ليسوا هم الأنسب لهذه المهمَّة بحسب تصوركم.
{قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا}[البقرة: من الآية32]، أدركوا على الفور بجهلهم بمعرفة تلك الأشياء التي عرضها الله عليهم، أنهم ليسوا هم المتناسبين مع تلك المهمَّة بالتحديد؛ لأَنَّهم حتى في خلقهم وتكوينهم لن ينتفعوا بما في هذه الأرض، الإنسان كائن يعتمد على الغذاء، والطعام، والشراب، الملابس، كائن في مادية جسمه، وتجويفه، وخلقه، وبنيته، مرتبط بالأرض في كُـلّ ما فيها، وهم على العكس منه تماماً؛ ولذلك لم يكن لديهم معرفة بتلك الأشياء، وما فيها من المنافع، وكيفية الانتفاع بها، وما هي أسماؤها؛ فاعترفوا، وأدركوا على الفور أنه لم يكن ينبغي لهم أن يتساءلوا، كان يكفيهم التذكُّر لما هم مؤمنون به؛ لأَنَّهم يؤمنون أن الله هو عالم الغيب والشهادة، وهو العليم الحكيم، وأحكم الحاكمين؛ وبالتالي عندما اختار أن يجعل الإنسان هو المستخلف في الأرض، فهو “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” الأعلم بأن الإنسان هو فعلاً الأنسب لهذه المهمَّة، ولهذا الدور، فقدسوا الله وسبحوه واعترفوا على أنفسهم بالجهل بذلك، {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أنت الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}.
والدرس يعود إلى: مسألة أن يتذكر المخلوق، أن يتذكر القاعدة التي يؤمن بها، المبدأ الذي يؤمن به، عندما نؤمن بأن الله هو العليم الحكيم، ثم يُشْكِلُ علينا شيءٌ ما في تدبير الله، أَو في تشريعه، فلنحمل المسألة على جهلنا، ولنتذكر أن الله هو العليم الحكيم.
{قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأسمائهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأسمائهِمْ}، وتجلَّى بذلك؛ لأَنَّه تجلَّى بجهلهم هم أنهم ليسوا هم المناسبين لهذه المهمَّة، وتجلَّى بإعلام آدم لهم بالأسماء، بما اتضح من ذلك أنه يعرف تلك المسميات، اتضح لهم أَيْـضاً كفاءة وتناسب آدم والبشر مع هذه المهمَّة.
{قَالَ أَلَمْ أقل لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأرض وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}[البقرة: الآية33]، ولربما -والله أعلم- أن هذه الإشكالية كانت في أنفس الملائكة من زمن، يعني: منذ أن أعلمهم بدايةً، منذ أن أعلمهم في أول ما أخبرهم عن الإنسان، واستخلافه في الأرض، وما سيحصل من بعض البشر، فكتموا ذلك إلى حين أتى وقت خلق هذا الإنسان، ليقوم بدوره في الاستخلاف في الأرض بالفعل، فحينها أظهروا استشكالهم؛ فأتت هذه المعالجة بطريقة فيها هدايةٌ لهم، وهم بعظيم إيمانهم اهتدوا وارتقوا في الهداية ارتقاء عظيماً، وكان درساً عظيماً لهم.
ما بعد ذلك، ما بعد هذا الاختبار، الذي وصل الملائكة فيه إلى قناعةٍ تامة بالأمرين -تذكروا واستحضروا حكمة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وعلمه، وأنه اختار ما هو الأنسب فعلاً للاستخلاف على الأرض، وهو آدم “عَلَيْهِ السَّلَام”، وصلاحية آدم والبشر لهذه المهمَّة- أتى من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أمرٌ آخر، وفي الواقع لو لم يكونوا قد استفادوا ذلك الدرس؛ لربما كان أمراً عجيباً، لو كان الإشكال باقياً في أنفسهم، لو كان ذلك التساؤل مُستمرّاً في أنفسهم: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}[البقرة: الآية34]، أمر الله الملائكة بعد ذلك الاختبار، الذي تجلَّت لهم به الحقائق، أمرهم بالسجود لآدم، فكان السجود لآدم تكريماً له، وعبادةً وخضوعاً لله، هو إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” عبادةً لله، وخضوعاً لله؛ لأَنَّه تسليمٌ لأمره، وطاعةٌ له، فكان سجودهم لآدم خضوع لله، وتسليم لأمر الله، وَأَيْـضاً طاعة لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ فهو عبادةٌ لله “جلَّ شأنه”، وتكريماً لآدم “عَلَيْهِ السَّلَام”.
فالملائكة امتثلوا أمر الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” دون تردّد، ودون تساؤل، خلاص انتهت التساؤلات، كان ما قد حصل سابقًا درساً عظيماً لهم، وكافياً بالنسبة لهم؛ ولذلك سجدوا بدون أي تردّد.
وبرز موقف غريب، ومخالف: كان موقف إبليس، إبليس كما قال الله عنه في (سورة الكهف): {كَانَ مِنَ الْجِنِّ}[الكهف: من الآية50]، إبليس عنصره ليس من عنصر الملائكة، (كَانَ مِنَ الْجِنِّ)، ولكنه كان قد ارتقى بعبادته، وتقرُّبه إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، كان قد ارتقى إلى أن بقي في السماوات بين أوساط الملائكة، متعبداً بينهم، ومستقراً بينهم، وباقياً معهم، ويعبد الله معهم؛ ولذلك أصبح في جملتهم، يخاطب معهم، يؤمر معهم، فبرز منه موقفٌ مخالف، موقف المعصية لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، حصلت تلك المعصية قبل أن تأتي معصية من جهة البشر.
معصية إبليس، وموقف إبليس فيه دروسٌ كثيرة، كثيرٌ منها سنتحدث عنه في الحديث على ضوء الآيات المباركة (في سورة الأعراف، في سورة الحجر…) في بقية السور، التي ذكرت القصة بشكلٍ تفصيلي؛ لأَنَّها وسَّعت حول هذا الموضوع؛ لأَنَّه في كُـلّ سياق وردت فيه القصة، يأتي تركيز على نقطة معينة بشكلٍ أكثر، هنا اختصار في القصة (في سورة البقرة)، لكن (في سورة الأعراف، في سورة الإسراء، في سورة ص) هناك توسُّع أكثر.
فإبليس (أَبَى): امتنع من السجود، وعصى أمر الله. (وَاسْتَكْبَرَ): كان عصيانه منشؤه التكبر، ودافعه التكبر، وكان عصيانه بنفسه تكبراً، فكان منشؤه التكبر، وكان ممارسة فعلية للتكبر والعياذ بالله؛ لأَنَّه اعتبر نفسه أكبر من أن يخضع لهذا الأمر الإلهي في السجود لآدم، محتقراً لآدم من جهة، ومعتقداً أنَّ مقامه فوق أن يؤمَّر بمثل هذا الأمر؛ ولذلك أساء إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، واتَّهم الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ فكان كافراً بذلك، {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}[البقرة: من الآية34]، كافراً بعقدته تلك، باتّهامه لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في حكمته وعدله، وَأَيْـضاً في احتقاره لآدم “عَلَيْهِ السَّلَام”، في عصيانه لأمر الله، ورفضه لأمر الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، كُـلّ ذلك يعتبر من الكفر؛ لأَنَّ الرفض لأمر الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” هو قسمٌ من أقسام الكفر، وإبليس في معصيته كان رفضه من منطلق الاتّهام لله في عدله وحكمته؛ ولذلك كان شنيعاً، وكانت معصيته معصية شنيعة ورهيبة.
ما بعد موقف العصيان من إبليس -سيأتي في السور الأُخرى كيف أنَّ الله طرده من السماء- وما بعد السجود، وما بعد هذا الاختبار، وتعليم الأسماء، والإنباء بالأسماء، أتت بداية الاستخلاف لآدم “عَلَيْهِ السَّلَام” في الأرض، وقد خلق الله له حواء “عَلَيهِمَا السَّلَامُ”، {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أنت وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا، حَيثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}[البقرة: الآية35]، أسكنهما الله في بداية الاستخلاف في الأرض، أسكنهما الله الجنة، هذه الجنة ليست جنة الآخرة، التي تأتي في حياة الآخرة بعد الحساب والجزاء؛ إنما لحكمة الله وبرحمته أراد أن تكون بداية الاستخلاف لآدم “عَلَيهِمَا السَّلَامُ” هو وحواء، وبداية مشوارهما في الحياة، في إطار نعيمٍ في هذه الدنيا، واستقرار، وألَّا يباشرا العناء، والكد، والجهد، والتعب، من بداية مشوار الحياة، ينفخ فيه الروح ويحييه، ويعطيه المنجل أَو المسحاة، ويرسله ليشتغل ويكد في هذه الأرض، أراد الله ألَّا يباشرا العناء -كلاهما آدم وحواء- منذ بداية مشوارهما في هذه الحياة، وأن يبتدئاها في جوٍ مستقرٍ، تتوفر فيه احتياجاتهما توفراً واسعاً، ومتطلبات حياتهما، فيبدأا حياتهما وهما في حالة من الاستقرار وتوفر المتطلبات والاحتياجات، إلى أن يتناسلا، أن يحصل لهما النسل والذرية، ويتفرع منهما النسل والذرية، ويبدأ انتشار البشر في بقية أقطار الأرض، فالله أعطاهما تلك الجنة، واسعة، وفيها مما يحتاجان إليه من متطلبات الحياة ما هو متوفر ويغطي كُـلّ احتياجاتهما: للطعام، للغذاء، للملابس، للمشروبات… لغير ذلك.
{وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا، حَيثُ شِئْتُمَا}[البقرة: من الآية35]، فالمأكولات متوفرة، وعلى نحو ترفيهيٍّ ومريح لهما، بدون عناء، {حَيْثُ شِئْتُمَا}؛ لأَنَّها واسعة تلك الجنة، في أي جهة، في أي مكان يريدان الذهاب إليه، وأن يأكلا مما فيه، المجال مفتوح أمامهما.
{وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}[البقرة: من الآية35]، وبهذا بدأ التمرين لهما على الالتزام بالمسؤولية، ومسؤولية الإنسان ارتبطت تجاه حركته في هذه الأرض، فيما هو مأذونٌ له به من الله، فيما لم يأذن الله له به، فيما هو حلال، فيما هو حرام، فيما عليه من التزامات عملية؛ فلذلك بدأ مشوارهما في المسؤولية مرتبطاً بهذه المسألة: أنَّ الله نهاهما عن أكل شجرة، عن شجرةٍ واحدة، ألَّا يأكلا من تلك الشجرة، وأذن الله لهما في بقية ما في تلك الجنة، وهو كثيرٌ جِـدًّا، وواسعٌ، يعيشان فيه برفاهية، وتتوفر لهما فيه ما يكفيهما وأكثر مما يكفيهما بكثير، فكان الذي لم يأذن الله لهم فيه: الأكل من تلك الشجرة على وجه الخصوص. هذا كان اختباراً لهما، وتمريناً على الالتزام بالمسؤولية.
{وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا، حَيثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}؛ لأَنَّهما سيتناولان شيئاً لم يأذن الله لهما، وهو المالك، المالك للسماوات، والمالك للأرض، والمالك للإنسان، وما يحلّ للإنسان التصرف فيه هو الذي قد أذن الله له فيه، وما لم يأذن له فيه، ليس للإنسان أن يتصرف فيه؛ لأَنَّ الله هو المالك الحقيقي للأرض وما في الأرض، وللسماوات وللإنسان.
{فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}، فيكون هذا تعدياً وتجاوزاً إلى ما ليس لهما؛ لأَنَّها اُستثنيت تلك الشجرة، اُستثنيت، ليست لهما، ولا أُبيحت لهما كبقية ما في تلك الجنة، فيكون هذا ظلماً، إضافة إلى ما يترتب على ما سيحصل من نتائج من الظلم للنفس.
فالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” حينما أسكنهما في تلك الجنة، هو “جلَّ شأنه” حذَّرهما ونهاهما من الأكل من تلك الشجرة، وحتى من أن يقربا تلك الشجرة، هذا التعبير مهم: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ}؛ لأَنَّ قربها، وملامستها، والتركيز عليها؛ سينشأ معه التفاعل النفسي، والداعي النفسي، والفضول النفسي، إلى تناول شيءٍ منها، فكان الابتعاد عنها هو الصواب.
وحذَّرهما الله أيضاً -كما سيأتي في سورة الأعراف وغيرها- حذَّرهما الله من الشيطان، وأنه سيسعى لإخراجهما من تلك الجنة، وفعلاً هذا ما ركَّز عليه الشيطان، الشيطان بعد الذي حصل، وطُرِد من السماء، بعد عصيانه، وتكبره، اغتاظ جِـدًّا، وحمل عقدة العداء الشديد جِـدًّا، عقدة هائلة رهيبة جِـدًّا من العداء الشديد، والكره الشديد لآدم وحواء، ولذريتهما إلى آخر الدهر، إلى نهاية البشر، يعني: حقد عجيب جِـدًّا، فهو اتَّجه للتآمر عليهما، والاستهداف لهما، وسعى لإخراجهما من تلك الجنة، وركَّز على موضوع تلك الشجرة، الشيطان ركَّز على موضوع تلك الشجرة، {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ}[البقرة: من الآية36].
كان تركيز الشيطان على تلك الشجرة أن يسعى لخداعهما، وأن يوسوس لهما بشأنها: [لماذا منعت عنهما تلك الشجرة؟ لماذا نهاهم الله عن الأكل منها، دون بقية الأشجار التي في تلك الجنة؟ ما هو سرها؟]، يبدأ هذا التساؤل، وهذا الفضول، ثم يوسوس لهما الشيطان ويعطيهما تفسيرات مخادعة تماماً: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَو تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ}[الأعراف: من الآية20]، {قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى}[طه: من الآية120]، حاول الشيطان أن يقدِّم لهما تصوراً خاطئاً عن تلك الشجرة، بأنَّ لها سر عجيب، وسر غريب، وسر مهم جِـدًّا، سر الخلود، الذي يقي الإنسان من الموت، يحيا ويبقى حياً بدون موت، سر الملك، سر الترقي، {إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ}، فحاول بهذا أن يوجد لديهما الرغبة والدافع للأكل منها، وهذا يكشف لنا -منذ البداية- كيف هي طريقة الشيطان في استهدافه للإنسان، ومن أين يدخل لهذا الإنسان، وكيف يحاول بدايةً أن يضل الإنسان، بتقديم تصوُّر خاطئ، ومفهوم خاطئ يلامس رغبةً في نفس الإنسان، أَو اهتماماً لدى الإنسان؛ ليؤثر عليه به.
واستمر الشيطان في مسعاه للإيقاع بهما، وتوريطهما في الأكل من الشجرة، وسوس لهما، ومرةً بعد أُخرى، وُصُـولاً إلى أن أقسم لهما أنه ناصحٌ لهما، وهناك ما يفيد في المرويات عن الرسول “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ”، وفي الآثار الإسلامية، أنَّه من اللحظة التي في الأخير أقسم لهما، تشجعا أكثر، ولم يتصورا أنَّ أحداً سَيُقْدِم على مثل هذا الجرم: الحلف كاذباً، اليمين الغموس، اليمين الفاجرة، ونسيا ما قد فعله الشيطان في تكبره في البداية، حالة النسيان والذهول من جهة، وحالة الرغبة الشديدة، نتيجة لذلك التصور الخاطئ عن سر تلك الشجرة، اجتمعا؛ فدفعا آدم وحواء إلى تناول الشجرة، كما قال الله عن آدم (في سورة طه): {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}[طه: من الآية115]، نسيَ وفقد العزم، واشتدت الرغبة، وأتت التصورات الخاطئة؛ ولذلك لم يكن إقدامهما على تناول الأكل منها، على تناول الشجرة والأكل منها، لم يكن بمثل إقدام إبليس -لعنه الله- في عصيانه لأمر الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” بالسجود لآدم، هو أقدم على عصيانه لأمر الله جرأةً، وكبراً، واتّهاماً لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في حكمته وعدله؛ أمَّا هما فكان إقدامهما نسياناً، وذهولاً، وخضوعاً لتلك الرغبة، ولتأثير ذلك الحجم من الخداع الكبير من جهة الشيطان؛ حتى سقط بهما، وورطهما في تناول الشجرة، ومخالفة النهي، فكان هناك دوافع ومؤثرات، ونسيان، وعوامل تجمعت فأوصلتهما إلى ما وصلا إليه، فكانت النتيجة مؤلمة لهما: {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ}، أخرجهما الشيطان؛ لأَنَّ الله كان قد حذَّرهما أنهما إن تناولا من تلك الشجرة، فسيخرجا من تلك الجنة، وهذا الذي حصل: عندما تناولا منها أُخرجا من الجنة، وكان الشيطان نُسِبَ الإخراج إليه؛ لأَنَّه السبب في ذلك، والذي سعى وراء ذلك، {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ}، من الحياة الهنيئة، المستقرة، التي تتوفر فيها احتياجاتهم بدون عناء، ولا كد، ولا جهد.
{وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ}[البقرة: من الآية36]، أتى من الله الأمر لهم جميعاً: آدم وحواء، وللشيطان كذلك، وسُمِّي هنا منذ أن مارس هذه الجريمة في الإغواء، أول عملية إغواء اشتغل عليها، سُمِّيَ شيطاناً؛ لأَنَّ ذلك هو دور الشيطان: الإغواء للناس عن طريق الحق، بأُسلُـوب الخداع، يستخدم أُسلُـوب الخداع للإغواء عن طريق الحق، فهو العمل الشيطاني، الذي من أصبح يقوم بهذا الدور، من أصبح ذلك دوره، يمارسه، يشتغل عليه، يسمى شيطاناً، سواءً كان من الجن، أَو من الإنس أَيْـضاً.
{فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ}[البقرة: الآية36]، المستقر في الأرض للجميع: لآدم وحواء، والبشر من جهة، وللشياطين أَيْـضاً، مستقرٌ في الأرض، ومتاع إلى مرحلة مؤقتة؛ لأَنَّ الوجود في هذه الحياة وجود مؤقت، والوجود على كوكب الأرض بنفسه وجودٌ مؤقت إلى أجل مسمى، ينتهي بانتهاء حياة الإنسان، وينتهي بقيامة القيامة، والانتقال إلى دار الجزاء.
{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ}[البقرة: من الآية37]، آدم “عَلَيْهِ السَّلَام” -كما قلنا- هو وحواء أقدما على المعصية، أزلهما الشيطان، أسقطهما إسقاطاً، بالخداع، والمكر، والكذب، والوسوسة، واليمين الفاجرة، والتصوير الخاطئ لسر تلك الشجرة، ونسيا، نسيا التحذير الإلهي وغفلا عنه، فحصل ما حصل؛ ولذلك هما ندما بعد الذي حصل، لم يكن حالهما كحال الشيطان، لا في دافع المعصية، أَو دافع المخالفة، ولا في أَيْـضاً ما وراء ذلك: طريقة الإقدام على المعصية، ثم ما بعد المعصية والمخالفة، هما فيما بعد ذلك رجعا إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ}؛ لأَنَّ الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” ذكرهما: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ}[الأعراف: من الآية22]، فالله قد ذكَّرهما بما سبق منه لهما من التحذير، بما سبق من النهي، بما سبق من التبيين لعواقب تلك المخالفة إن حصلت، إن حصلت المخالفة، فآدم “عَلَيْهِ السَّلَام” رجع إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” بالتوبة، والإنابة، {فَتَابَ عَلَيْهِ}، تاب الله عليه، واجتباه، واصطفاه، وهو من عظماء الأنبياء “عَلَيْهمُ السَّلَام”.
{إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جميعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولئك أصحاب النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة: 37-39]، أتى أَيْـضاً الأمر بالهبوط منها، يعني: حتى التوبة لم يترتب عليها أن يبقى آدم في تلك الجنة، بل نزل من تلك الجنة في الأرض، عبارة: {اهْبِطُوا}، تأتي في الأرض نفسها، من الذهاب من منطقة إلى أُخرى، {اهْبِطُوا مِصْرًا}[البقرة: من الآية61]، في بعض الآيات المباركة؛ ولذلك فهي لا تعني جنة الآخرة؛ لأَنَّ آدم خُلِقَ ومهمَّته أن يُستخلف في هذه الأرض، ودوره كذلك، ولكن الخروج من تلك الجنة ليواجه هو وحواء صعوبات الحياة في مرحلة مبكرة، هو الشقاء، الشقاء هو: العسر والشدة، الشقاء هو: العسر والشدة، فكان خروجهما من تلك الجنة في وقتٍ مبكر، قبل أن تستقر حياتهما لفترة أطول، ويرزقهما الله الذرية، ويكون لهما من ذريتهما من يعينهما، ويعمل معهما، ومباشرة السعي لتوفير متطلبات الحياة بجهد ومشقة، كان هو العقوبة لتلك المخالفة.
{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولئك أصحاب النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة: 38-39]، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولئك أصحاب النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، فتحدّد مصير الإنسان في الدنيا والآخرة على ضوء موقفه من هدى الله وتعليماته، وكذلك الجان، الإنس والجن مصيرهم ومستقبلهم في نجاتهم أَو هلاكهم، في فوزهم أَو خسرانهم، مرتبطٌ بموقفهم تجاه هدى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، هدى الله الذي يأتي في كتبه مع رسوله وأنبيائه، ومن يسيرون على دربهم، وفي طريقهم، وعلى نهجهم، {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}.
فنجد الفارق الكبير بين مخالفة آدم تجاه النهي، والتي كانت دافعها مختلفاً عن دافع الشيطان، وكذلك فيما بعد، آدم وحواء بادرا إلى التوبة إلى الله، والندم الشديد، والرجوع إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وكان ما حصل درس مهم جِـدًّا لآدم، في بداية ذلك الدور والاستخلاف في الأرض، درساً مهماً له في بقية حياته، تعامل فيما بعده بيقظة، بانتباه، بجدية، بحذر شديد من الشيطان… وغير ذلك.
بقية الدروس والعبر نستكملها -إن شاء الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”- في المحاضرات القادمة.
نَسْألُ اللَّهَ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهَدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّج عَنْ أَسرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.