السيد عبدالملك الحوثي في المحاضرة الرمضانية الثانية عشرة: الخسارة هي الثمنُ الحتميُّ للمعصية والنتيجةُ المترتبةُ عليها حتماً
الشيطان يقدّم للناس وهماً وغروراً ويريد أن يعيشَ نشوةَ الانتصار على الإنسان
العداءُ مع الشيطان ليس فيه مصالحة ولا هُدنة ولا حياد بل مستمرٌّ ما دامت الحياة وما دام الإنسان موجوداً
مفتاح النصر أو الهزيمة في العداء مع الشيطان موجودٌ لدى الإنسان، فإمَّا أن يتجه الاتجاه الصحيح ويتولى الله سبحانه وتعالى، ويكون في إطار ولاية الله، ويتحصّن في موقع الإيمان، وهذا سيساعده للانتصار على الشيطان، وإلَّا فهو معرَّضٌ لهزيمة خطيرة
الشيطان يريد أن يرى الإنسان محطَّماً، بائساً، ضعيفَ الإرادة، منغمساً في المفاسد والأشياء الدنيئة، ويريد أن يجرِّد الإنسان من القيمة المعنوية، القيمة الإيمانية، أن يهبط به عن مرتبة التكريم
البرنامج الإيماني فيه تزكية للنفس وكلما زكت نفس الإنسان كلما ارتقت عن المؤثرات التي يستغلها الشيطان ضده
التقوى هي توجد عند الإنسان حالة توازن وانضباط وتساعد الإنسان على الاستقامة
أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللَّهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إبراهيم وَعَلَى آلِ إبراهيم إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أصحابهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنت السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنت التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.
أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ.
نواصلُ الحديثَ على ضوءِ الآيات المباركة من (سورة الأعراف)، والتي ذكر اللهُ فيها قصةَ آدم “عَلَيْهِ السَّلَام”، وتضمَّنت الكثيرَ من الدروس والعِبَرِ المهمّة، وعلى ضوء الآيات التي تحدثنا عنها بالأمس، يتبيَّنُ لنا أن الشيطانَ -لعنه الله- يعتمدُ أُسلُـوبَ الخِداعِ للإنسان، وهو لا يعلمُ الغيب، الشيطانُ عندما يستهدفُ الإنسان، هو لا يعلمُ الغيبَ بالنسبة للإنسان، ولا يعلم ما يُسِرُّه الإنسان، ولكنه في وسوسته للإنسان يركِّز أولاً على ما هو معروفٌ عن الإنسان في غرائزه وشهواته، ورغباته الغريزية المعروفة عن الإنسان، وَأَيْـضاً يركز على واقع الإنسان؛ لأَنَّ الإنسان في واقعه، وظروف حياته، ومشاكله، واهتماماته، تظهر الكثير من أموره، مشاكله يظهر فيها ما هي الثغرات التي يمكن أن يَنْفُذ إليه من خلالها، كذلك الاهتمامات تتجلى في واقع الإنسان العملي، فيما يقوله وفيما يعمله، وهكذا يظهر الكثير من حال الإنسان، في أعماله، في أقواله، في اهتماماته، في أوضاعه، والشيطان يحاول أن يبحث عمَّا هي الطريقة التي يؤثِّر بها على الإنسان؛ فقد يشتغل على جوانب معينة؛ فلا يجد أنها مثَّلت ثغرةً على الإنسان، ويجد أنه لم يستطع التأثير عليه من خلالها، فيبحث عن وسيلة أُخرى، عن طريقة أُخرى؛ ولذلك عندما قال: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ إيمَـانهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أكثرهُمْ شَاكِرِينَ}[الأعراف: الآية17]؛ بمعنى: أنه سيبحث من جوانب متعددة، وهذا -كما ذكرنا سابقاً- تكتيكٌ من تكتيكات الشيطان، هو يركز على البحث المتكرّر والمحاولات، ويطرق -كما يقال- كُـلّ الأبواب؛ يعني: يبحث من جهة معينة هل يستطيع التأثير عليك من خلالها، لم يستطع، فهو لم ييأس بعد، يبحث عن طريقة أُخرى، قد لا ينجح في ظرف معين، فيبحث عن ظرف آخر؛ لأَنَّ أحوالَ الإنسان تختلف، بين يُسرٍ، وعسرٍ؛ وسقمٍ، وصحةٍ؛ وغير ذلك، ورضا، وسخط؛ وغضب، وارتياح… وهكذا.
فهو على مستوى أحوال الإنسان قد يبحث عن الحالة التي يمكنه التأثير فيها على الإنسان أكثر، وظروف الإنسان ومشاكله، قد يحاول أن يجرِّب هنا، أَو هنا، أَو هنا، وهكذا، فإذا وجد ثغرةً على الإنسان حاول أن يستغلها إلى أقصى حَــدٍّ، الثغرة التي وجدها على أبينا آدم “عَلَيْهِ السَّلَام” وأُمِّنا حواء “عَلَيْهَا السَّلَام”، هو حاول أن يستغلها إلى أقصى حَــدٍّ بالنسبة لهما.
وقد يجد في واقع البعض من البشر أنه لا يستطيع التأثير عليهم في الإيقاع بهم نحو الفجور، والجرائم، والمفاسد الأخلاقية؛ لأَنَّهم من ذوي التوجّـه الديني الجاد، فيحاول أن يلعب عليهم في اتّجاههم الديني نفسه، إمَّا بالرياء، أَو العجب، أَو تلك الآفات التي تضرب القيمة الإيمانية للدين نفسه، لما تمارسه من الدين، لما تقوم به من الدين، لعباداتك، لأعمالك الصالحة، يوجِّه إليها ضربة كبيرة جِـدًّا بالرياء وبالعجب.
أو بالمحبطات، تنفق، والإنفاق فيه أجرٌ عظيم، ثم يدفعك إمَّا للرياء في ذلك، أَو العجب في ذلك، أَو أن تتبع ما أنفقت مناً، أَو أذىً، أَو غير ذلك، هكذا بقية الأعمال الصالحة.
أو يدفع بالبعض للتعبد بالضلالة، أَو بالابتداع في الدين، أَو بالغلو في الدين، أَو بالقول على الله بغير علم، أَو بالافتراء على الله كذباً، واحتساب ما ليس من دينه عليه، أَو بتحليل ما حرَّم الله، أَو بتحريم ما أحلَّ الله، أَو غير ذلك، فهو يحاول أن يتَّجه إلى الإنسان من أية جهة.
أمَّا من يستميلهم بالشهوات والإغراءات، فهو يوقع بهم من خلال ذلك، وكثيرٌ من الناس يوقع بهم من خلال ذلك. البعض من خلال غضبهم، ثغرة الشيطان عليهم هي غضبهم وانفعالهم، وكثيرٌ من الجرائم، خَاصَّة جرائم الظلم، جرائم البطش، جرائم الجبروت، جرائم التعدي، جرائم كثيرة تأتي في حالات الغضب والانفعال، وهكذا، الأحوال المختلفة التي قد يستغلها الشيطان للإيقاع بالإنسان.
وصلنا إلى قول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أنفسنَا}[الأعراف: من الآية23]، بعد أن أوقعهما في خطر المخالفة للنهي، الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” نهاهما أن يقربا تلك الشجرة؛ فبمُجَـرّد أن ذاقا من تلك الشجرة، وقعا في المشكلة، وأدركا أنهما وقعا في مشكلة كبيرة عندما جُرِّدَا حتى في تلك اللحظة من كُـلّ شيء، جُرِّدَا حتى من ملابسهما التي في الجنة، وشعرا أن الشيطان وجَّه لهما ضربة، سعى من خلالها لتجريدهما مما منحهما الله إياه من ذلك النعيم والعيش الرغد، وَأَيْـضاً على المستوى المعنوي، على المستوى المعنوي شعرا أنه ورَّطهما وخدعهما.
والشيطان هو يسعى في استهدافه للإنسان هو يسعى لأن تخسر أنت كإنسان، يريد أن يوقعك في الخسارة، وأن يجرِّدك مما منحك الله إياه، وأن يهبطَ بك عن مرتبة التكريم، التي كرَّمك الله بها، وأن يوجِّه إليك ضربة معنوية؛ ليشعرك بأنه استغفلك، وأنه أوقع بك، وأنه ورَّطك، يريد أن يُحِطِّمك معنوياً، وأنه -بحسب التعبير المحلي- [ضحك عليك]، وأن إرادتك ضعيفة، يريد أن يشعرك بالضعف، والعجز، والهزيمة، وأنه استغفلك، وأنه ورَّطك، فهو يسعى من كُـلّ الاتّجاهات، يعني: يسعى إلى أن يوقعَك في الخسارة، وأن يجردك مما منحك الله إياه، وأن يهبط بك عن مرتبة التكريم، وأن يشعرك بالضعف والعجز، وأن يشعرك بتفوقه عليك، أنه استغفلك، وحطمك، وأوقع بك… وهكذا، يريد أن يعيش نشوة الانتصار عليك.
فهما في تلك اللحظة، وهي لحظة صعبة عليهما، لحظة يشعران فيها بالخجل من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، أنهما خالفا نهيه، ويتذكرا فيها أن الله قد حذَّرهما من عدوهما الشيطان الرجيم، ويعيشان التجربة: ما هو الفارق الكبير جِـدًّا بين الوهم الشيطاني، في أنَّ الأكل من تلك الشجرة يرتقي بهما ارتقاء كَبيراً، ليكونا مَلَكَيْن، وليكونا من الخالدين، وليحصلا على مُلكٍ لا يبلى، إلى أن يُجْرَّدا من كُـلّ شيء، هذا هو الفارق الحقيقي بين الوعد الإلهي والوهم الشيطاني:
- الشيطانُيقدِّمُ للناس وهماً وغروراً: {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا}[النساء: من الآية120].
- أمَّا الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”فيعدنا الوعد الحق، ويُنعم علينا بالنعم، ويُقَدِّم لنا ما يسمو بنا، يسمو بنا في إنسانيتنا، نرتقي، نحظى بالتكريم، نحظى بالقيمة الإنسانية والمعنوية العالية.
فهما في تلك اللحظة -وهي لحظة صعبة- جُرِّدا من كُـلّ شيء، والله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” ذكَّرهما في تلك اللحظة التي هما فيها، في حالة الخجل من الله، والحياء من الله، والندم الشديد على ما وقعا فيه، وشعورهما بأنهما انخدعا للشيطان، وليمينه الكاذبة، حينما حلف لهما اليمين الكاذبة، وغير ذلك، فهما أنابا إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ورجعا إلى الله.
{قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أنفسنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[الأعراف: الآية23]، تابا إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والله هداهما للتوبة، ولما يقولانه ليتوبا إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، مثلما سبق في (سورة البقرة): {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}[البقرة: الآية37]، فهما رَجِعَا إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” وهما يشعران بالندم، وبالتقصير، وبالخطأ، يعترفان بالخطأ، وهذا من التوبة: الندم الشديد على المخالفة، وَأَيْـضاً الاعتراف بالخطأ والتقصير، وفي نفس الوقت العزم على عدم العودة إلى المخالفة، {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أنفسنَا}؛ لأَنَّ الإنسان يظلِمُ نفسَه.
الإنسان بالمعصية هو لا يضُرُّ الله بشيء، هو يظلم نفسه، وما يترتب على المخالفة والمعصية من آثار وأضرار، تتحقّق ابتداءً من لحظة وقوع الإنسان في المخالفة أَو المعصية، فمثلاً: في واقعهما منذ أن وقعا في المخالفة، كان لذلك آثار وأضرار مباشرة على حياتهما؛ ولذلك لا يكون ما بعد المخالفة كما قبلها، وفي واقع الإنسان ليس ما بعد المعصية كما قبلها، على المستوى النفسي: الإنسان يتأثر على المستوى النفسي، ثم في واقع حياة الإنسان، الإنسان يتأثر في واقع حياته، المعاصي لها تأثيرات مباشرة على حياة الإنسان، وآثار سلبية مباشرة على حياة الإنسان، وهما لاحظا أنهما دخلا في مرحلة جديدة، ووضع مختلف تماماً عمَّا كانا عليه.
{قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أنفسنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، وهما يدركان أن الخسارة ستكون بدون المغفرة والرحمة أكبر من خسارة تلك الفرصة، أَو من خسارة ما كانا فيه في تلك الجنة، وفعلاً الإنسان يتعرض لمخاطر كبيرة في خسارته، قد تكون خسارة الكثير -وحتماً هي خسارة الكثير من الناس- أن يخسرا رضوان الله، أن يخسرا المكاسب الإيمانية في هذه الحياة على المستوى النفسي، وعلى مستوى الحياة الطيّبة، اللائقة بالإنسان كإنسان، وأن يخسر الإنسان رضوان الله في الجنة، كثير من الناس خسارتهم هي بهذا الحجم، يخسرون المكاسب الإيمانية للإنسان في هذه الحياة، على المستوى النفسي، وفي حياته الطيِّبة، وفي مستقبله في الآخرة: رضوان الله، والجنة، والسلامة من عذاب الله، من جهنم والعياذ بالله، فالخسارة هي الثمن الحتمي للمعصية، والنتيجة المترتبة عليها حتماً، فهما أنابا إلى الله بوعي، وندم، وشعور بالتقصير، وشعور بمخاطر المخالفة، والله تاب عليهما، ونجد أنهما كلاهما توجّـها إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” مُعْتَرِفَين معاً بالمخالفة، وطَالِبَين للمغفرة والرحمة.
ولذلك لا صحة أبداً لما هو عند اليهود من مزاعم وتحريفات: أنَّ حواء “عَلَيْهَا السَّلَام” هي التي قامت بالدور المباشر في الإغواء لآدم، والإقناع له بالمخالفة، وأنَّ الشيطان عندما عجز عن التأثير على آدم تحوَّل إليها، فأثَّر عليها وأقنعها، ثم قامت هي بإقناع آدم، والإيقاع به في المخالفة. ليس ذلك صحيحاً، هو من خرافات اليهود، وهم قدموا في فلسفتهم، وفي رؤيتهم، وفي ثقافتهم، نظرة ورؤية عن المرأة غير مناسبة أبداً، نظرة مسيئة للغاية إلى المرأة وإلى دورها، واشتغلوا بناءً على ذلك، حتى في مساعيهم الدائمة لإغواء المرأة، والاستغلال لها لإغواء المجتمعات الأُخرى، يعود ذلك إلى رؤية فاسدة لديهم وباطلة.
في واقع الحال، وفي كُـلّ موارد القصة في القرآن الكريم، يتجلَّى بوضوح أنَّ الشيطان ركَّز عليهما في الوسوسة لهما، وسوس لهما، هنا يقول: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ}[الأعراف: من الآية20]، وسوس لهما معاً، أقسم لهما معاً، ووقعا معاً في المخالفة، وتابا معاً إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ورجعا إلى الله، وغفر الله لهما كذلك.
بعد هذه المغفرة لم تعد المسألة كما كانت، حتى بعد المغفرة لهما من المخالفة، لم يبقَ وضعهما كما كان سابقًا؛ لأَنَّ الآثار المترتبة على المخالفة قد أصبحت لا بُـدَّ منها، {قَالَ اهْبِطُوا}، الله قد غفر لهما فيما يتعلق بالمخالفة من جهة، لكن في بعضٍ من آثار تلك المخالفة، الآثار المترتبة عليها في الواقع، والظرف الذي هما فيه ستحصل، وهو الهبوط من تلك الجنة، والخروج منها.
{قَالَ اهْبِطُوا}، هذه المرَّة يأمرهم بالهبوط جميعاً، يأمر آدم وحواء، ويأمر الشيطان أَيْـضاً، الشيطان طُرِد أولاً من بين الملائكة، بعدما طرد من بين الملائكة، وسكن آدم وزوجه حواء الجنة تلك، اتجه إليهما؛ بهَدفِ الإغواء لهما، والإيقاع بهما في المخالفة للنهي الإلهي من أن يقربا تلك الشجرة، ثم طُرِد معهما من هناك، وجوده هناك بالنسبة له لم يكن فيه لا تكريمٌ له، ولا نعيمٌ له؛ لأَنَّ ظروفه، طبيعته، تكوينه، طريقة حياته تختلف عن الإنسان أصلاً؛ ولذلك ما هو نعيمٌ للإنسان ليس هو في نفسه نعيمٌ له هو؛ باعتباره من الجن.
{قَالَ اهْبِطُوا}، الكل، {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}[الأعراف: 24]، أصبحت مسألة العداوة مسألة لا فِكَاكَ منها؛ لأَنَّ الشيطان هو في واقع الحال عدوٌّ مُبِينٌ، بَيِّنُ العداوة، شديد العداء، وحاقدٌ جِـدًّا لآدم وحواء، ولذريتهما، فهبوطهم من تلك الجنة التي كانا فيها إلى الوضع العادي في الأرض، ليواصل آدم وحواء حياتهما، ويبدأا مشوارهما فيما بعدُ، في التناسُل والذرية وغير ذلك، مما تطورت به واتسعت به ظروف حياتهما مع ذريتهما، لكن أصبح هذا الوجود مقترناً بهذا الصراع: صراع بين الخير والشر، صراع بين آدم وذريته مع الشيطان، ومع الشياطين الذين يوالون الشيطان ويتجهون معهم، أصبح الصراع حتمياً، أصبح جزءاً من الواقع، أصبح لا مفر منه ولا مناص منه؛ لأَنَّ الشيطانَ هو يحملُ عُقدةً شديدةً وعداوةً شديدة للإنسان كإنسان.
{بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}، عداءٌ ليس فيه مصالحة، وليس فيه هدنة، وليس له وقتٌ محدّد فقط، بل يستمر ما دامت الحياة هذه موجودة، وما دام الإنسان موجوداً، وليس فيه حياد، هذا العداء لا يمكن لأحدٍ من البشر أن يعلن الحياد، يقول: [أنا لن أكون مع أبي آدم، ومع الاتّجاه البشري الذي يعاديه الشيطان]، ويريد أن يتصالح -مثلاً- مع الشيطان أَو يحايد، لا حياد في هذا العداء، ولا مصالحة، ولا هُدنة، عداءٌ مُستمرٌّ، والشيطان يباشر استهدافَه للإنسان، الإنسان إذَا غفل، وتجاهل هذا العدوّ، وترك المجال لهذا العدوّ؛ إنما معنى ذلك: أنه يمكِّن ذلك العدوّ منه، ومن التأثير عليه. الشيءُ المهمُّ في هذا العداء: أنَّ مفتاح النصر، أَو الهزيمة، موجودٌ لدى الإنسان، إمَّا أن يتَّجه الاتّجاه الصحيح، ويتولى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ويكون في إطار ولاية الله، ويتحصن في موقع الإيمان، وهذا سيساعده على الانتصار، وعلى هزيمة الشيطان؛ وإلَّا فهو معرضٌ للهزيمة، وهزيمة خطيرة جِـدًّا، {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}.
{وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ}[الأعراف: من الآية24]، الأرض هي مستقركم، وفيها حياتكم، وهذا إلى حين، إلى أجل معيَّن؛ لأَنَّ الإنسان جاء إلى هذه الحياة، وعلى أَسَاس وجود مؤقت، وحياة مؤقتة، وإلى أجل مسمى، إلى أجل مسمى، فالوجود على هذه الحياة هو لفترة معينة، والأرض هي ميدان هذا المعترك بين الإنسان والشيطان، وبين الخير والشر، في واقع الإنسان نفسه، {مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ}، إلى زمن معيَّن ينتهي ثم تنتهي هذه الحياة.
{قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ}[الأعراف: من الآية25]، في هذه الدنيا، في هذه الأرض، في هذه الأرض حياتكم، ومستقركم، ومعيشتكم، وتعيشون فيها المسؤولية، وتعيشون فيها هذا المعترك مع عدوكم الشيطان الرجيم، {وَفِيهَا تَمُوتُونَ}[الأعراف: من الآية25]، فالإنسان يحيا في هذه الأرض، ويموت فيها، {وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ}[الأعراف: من الآية25]، يوم القيامة، تُخرَجُون من تربتها للحساب والجزاء، ثم تخرجون منها إلى دار الجزاء، فهي لحياتكم، ولمماتكم، ولحسابكم، ولبعثكم ونشوركم.
وهبط آدم واستقر في هذه الحياة هو وحواء “عَلَيْهَا السَّلَام”، استقرا في الأرض، وقد أخذا تجربةً مريرة، تجربةً جعلتهما في حالة من اليقظة، والانتباه، والحذر الشديد من الشيطان الرجيم، ولكن الشيطان اتَّجه إلى ذريتهما، لم يعد لديه فرصة، هو أوقعهما في مخالفة في مستوى معين، في ظروف، وملابسات معينة، وخداع، ولم يكونا قد أخذا تجربة، وتفاجأا بيمينه، لم يتوقَّعا أن يحلِفَ يميناً فاجرةً، فكانا منه فيما بعدَ ذلك على حذرٍ تام، وهو اتَّجه إلى ذريتهما؛ ولهذا يتوجّـه الخطاب لذريتهما: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}[الأعراف: الآية26].
في الوقت الذي يحاول الشيطان أن يجرِّد بني آدم مما منحهم الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” من النعم، ومن التكريم، ومن المكانة المعنوية، ومن القيمة المعنوية، ويحاول أن يكون الإنسان بشكلٍ مخزٍ، ومفضوح، ومحطم، وبائس، وسيء، هي الصورة التي يريد الشيطان أن يراك عليها: أن يراك كإنسان محطماً، قد فقدت القيمة المعنوية، هبطت عن مرتبة التكريم، بائساً، ضعيف الإرادَة، وأن يراك منغمساً في المفاسد، والأشياء الدنيئة، التي تهبط بك عن كرامتك وقيمتك الإيمانية والإنسانية، فالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” قد أنعم على بني آدم بما فيه سترهم، وجمالهم، ووقايتهم، وكرامتهم؛ ولذلك نجد أنَّ الشيطان حتى في استهدافه لآدم وحواء يريدُ أن يجرِّدَهما من كُـلّ شيء، حتى من الملابس، من المرتبة التي هما فيها في التكريم، من ذلك النعيم، والحياة الطيِّبة والمريحة، وهو يسعى بنفس الهدف تجاه بني آدم، يريد أن يجرِّد الإنسان من القيمة المعنوية، القيمة الإيمانية، أن يهبط به عن مرتبة التكريم، أن ينزله إلى منزلة هابطة، دنيئة، يكون فيها في حالة معاصٍ وخزي، أن يراك منكسراً، منكسر الإرادَة، أن يراك أَيْـضاً في حالةٍ بائسة.
الله يقول: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ}[الأعراف: من الآية26]؛ يعني: لستركم، لتكونوا مستورين، لستر عوراتكم، الشيطان يريدك أن تكون مفضوحاً، مكشوف العورة: المعنوية، وغير المعنوية، يريد أن يراك في وضعية مخزية، الشيطان يريد أن يراك في وضعية مخزية، بعيدةً عن التكريم الذي كرَّمك الله به.
أمَّا الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” فقد هيَّأ لك في هذه الحياة ما يسترك، يستر عورتك، ويستر معائبك، ويقيك من المخازي، يقيك من أن تكون في وضعية سيئة، مخزية، فعلى مستوى الستر للإنسان، الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” من ضمن نعمه الكبرى على الإنسان: نعمة الملابس والستر، الإنسان بالملابس يستر نفسه، يستر عورته، وهذا من التكريم للإنسان، بل ومما يميزه عن بقية الحيوانات، التي عوراتها مكشوفة، فمن التكريم للإنسان أن يمنحه الله الملابس، التي يستر بها عورته.
وأيضاً مع الستر للعورة، الإنسان بالملابس نفسها يتزين، هي زينة للإنسان، وذات طابع جمالي للإنسان، والله هيَّأ للإنسان ذلك، أن تتوفر له الملابس، وأن تكون ذات طابع جمالي، وزينة للإنسان، وفي نفس الوقت وقايةً للإنسان، وقايةً لجسمه، الإنسان يتوقى بالملابس من البرد، يتوقى من الحر، بل تطوَّرت الملابس في حياة البشر، ليكون لديهم ملابس لأغراض كثيرة، ولمهام متعددة: فلديهم من الملابس -مثلاً- في هذا العصر: ملابس للغوص، ملابس لرجال الإطفاء، السترة الفضائية… ملابس لمهام متنوعة ومتعددة، فالملابس التي يستر الإنسان بها عورته، هو تكريمٌ كبيرٌ له؛ كي لا يكون حاله كحال بقية الحيوانات، وفي نفس الوقت وقاية للإنسان، وذات طابع جمالي، وهذا شيء معروف في واقع البشر، عالم الملابس عالم واسع جِـدًّا.
{يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا}[الأعراف: من الآية26]؛ لأَنَّ فيه جانب الزينة، جانب الجمال، جانب الستر، فيه تكريم للإنسان، {وَلِبَاسُ التَّقْوَى}[الأعراف: من الآية26]؛ لستر المعايب، من الأمور المخزية، من التصرفات السيئة، من الأعمال الرذيلة، من مذام التصرفات والأخلاق، من الأشياء الدنيئة، وهو شيء لا بُـدَّ منه، وإلَّا لم يكن لبقية الملابس قيمة، ولا أهميّة، الشيطان يكشفها عن الإنسان من دون لباس التقوى.
التقوى هي ذات أهميّة كبيرة جِـدًّا، تقيك -كلباس عظيم- تقيك من الأعمال المخزية، من التصرفات المهينة، المسيئة، الدنيئة، التي تلطِّخ سمعتك، وشرفك، وكرامتك، وعرضك، وتسيء إليك، وهي ذات خطورة كبيرة على الإنسان، الإنسان إذَا لطَّخ كرامته بالأعمال المشينة، أَو التصرفات المخزية والدنيئة؛ هو يسيء إلى نفسه، يسيء إلى نفسه، فالجانب المعنوي بالنسبة للإنسان له أهميّة كبيرة جِـدًّا، في قيمته الإنسانية، في منزلته الإيمانية، في علاقته بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، في مستقبله في الآخرة؛ ولذلك يقول الشاعر وهو يذكِّر الإنسان بأهميّة هذه الحقيقة:
مَا بَالُ نَفْسِكَ تَرْضَى أَنْ تُدَنِّـسَهَــــــــا | وَثوبُ نَفْسِكَ مَغْسُولٌ مِنَ الدَّنَسِ |
تَـرْجُو النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ مَسَالِكْهَا | إِنَّ السَّـفِينَـــــــةَ لَا تَجــــــــرِي عَلَى اليَـبَسِ |
الإنسانُ قد يستحي على نفسه أن تكونَ ملابسُه ملطَّخةً بالقاذورات، والأشياء السيئة، والأشياء التي هي رجس، أَو نجاسات، أَو قذارات، فنفسك كذلك، كرامتك كذلك كإنسان، لا تلطَّخها بالأعمال السيئة، بالأعمال الدنيئة، بالتصرفات التي هي من الرذائل المسيئة إلى كرامتك، لباس التقوى يحميك من ذلك، يحمي لك كرامتك الإنسانية، إيمانك، ويبقى لبقية الملابس القيمة مع لباس التقوى.
والشيطان يريد أن يجرِّد الإنسان من هذا وذاك، الشيطان يسعى لتجريد الناس حتى من ملابسهم؛ ولذلك عندما يلاحظ الإنسان الجهد الهائل لأولياء الشيطان، في مسعاهم لتجريد الناس من ملابسهم، جهد كبير جِـدًّا، عمل لإضلال الناس على المستوى التثقيفي، والدعائي، والإعلامي، والتأثير على آرائهم، على تفكيرهم، على ثقافتهم؛ لنشر ثقافة العُرِي في الدنيا، في أوساط البشر، يريدون أن يجرِّدوا الناس من ملابسهم، ابتدأوا بالنساء، وأصبحوا ناجحين إلى حَــدّ كبير في كثيرٍ من البلدان، في تجريد النساء من ملابسهن، وكشف عورَاتِهِن، والكشف عن مواطن الفتنة في الجسد، واتَّجهوا إلى الرجال، اتجهوا إلى الرجال كذلك، بل وأصبح هناك أَيْـضاً أنشطة كثيرة ينفِّذونها في بلدان كثيرة من العالم، ومناسبات يخرجون فيها في حالةٍ من العري الكامل، والكشف الكامل للجسد، كحال بقية الحيوانات، ألعوبة بيد الشيطان، وإساءة إلى الكرامة الإنسانية، وتنكُّر للكرامة التي منح الله الإنسان إيَّاها، تنكُّر عجيب جداً!
الله شرَّف الإنسان، وأكرمه، عندما أنعم عليه بما يستر به عورته، هذا من التكريم للإنسان، وهم في هذا العصر يسعون إلى كشف الإنسان، إلى كشف هذا الستر، وإلى أن يحوِّلوا واقع الإنسان كحال بقية الحيوانات، بدون هذه الميزة الرائعة، التي منَّ الله على الإنسان بها؛ فالإنسان بحاجة إلى لباس التقوى.
وأمَّا لباس النعمة أَيْـضاً لستر الجسد، وستر العورات، وزينة الإنسان؛ فهو أَيْـضاً من النعم التي أنعم الله بها على البشر، وهي نعمة متوفرة بشكلٍ عجيب، وللأجيال، وأصبحت عالماً بكله (عالم الملبوسات)، في وفرتها، في أنواعها، مع أنهم -بالنسبة لأولياء الشيطان- يحاولون التَّلَعُّبَ فيها، بشكل لا تبقى لها هذه القيمة في الستر للإنسان، والوقاية للإنسان، والتكريم للإنسان، يلعبون بها فيما يتعلق بالموضات، ويربطون البعض منها في تصميمها بالطريقة التي تتنافى مع المهمة الأَسَاسية للستر، بل ومع حتى الجانب الجمالي، ويحاولون أن يربطوها برموز وإشارات ترمز إلى الرذيلة، إلى الفساد، إلى ما يتنافى مع لباس التقوى، الذي يتكامل به الإنسان: إذَا اجتمع له لباس التقوى، مع هذا اللبس الذي أنزله الله، وأوجده الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وأنعم به على البشر، ليكون لهم زينة، ووقاية، وستراً، وتكريما.
{ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يَا بَنِي آدَمَ}[الأعراف: 26-27]، يا بني آدم، خذوا التجربةَ من أبيكم وأمكم، من آدم “عَلَيْهِ السَّلَام”، استفيدوا من تجربة آدم، ومن تجربة أُمِّكُم حواء، واحذروا من الشيطان؛ كي لا يوقِعَ بكم، كي لا يخدعَكم.
{يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا}[الأعراف: من الآية27]، فهو أَيْـضاً يريد أن يجرِّدكم من كُـلِّ شيء، يريد أن تكونوا كبقية الحيوانات، لا قيمة لكم، لا تتميزون بهذه الميزة الرائعة، التي هي مِن أجل تكريمكم، ويريد أن يلطِّخكم بالأعمال الدنيئة، والتصرفات الرذيلة والسيئة، التي تترتب عليها أضرار عليكم، ومخاطر عليكم، ويريد أن يهبط بكم عن مرتبة التكريم، التي منَّ الله بها عليكم.
{يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ من حَيثُ لَا تَرَوْنَهُمْ}[الأعراف: من الآية27]، الشيطان {يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ}: جنوده، وأعوانه، وجماعته، {من حَيثُ لَا تَرَوْنَهُمْ}.
قد يكون الإنسان في ظروف معينة، وهو منهمك في التفكير، ومستغرق في التفكير، ولكن التفكير السلبي، التفكير السيء، الذي ينحرف به نحو معصية معينة، الذي يؤجج فيه الميول والمشاعر نحو معصية معينة، أَو الانفعال والغضب الذي أَيْـضاً يجره إلى معصية أُخرى، تلك الأحوال قد يأتي الشيطان ليوسوس له، والشيطان أصبح له جنودٌ كُثُرٌ، وأعوان كُثُرٌ، وقد يكونون بالملايين، وينتشرون في شتى أقطار الأرض لاستهداف الناس؛ فالبعضُ من الناسِ قد لا يتنبه أنه في تلك اللحظة التي يتصور أنه فيها لوحده، منهمكٌ في التفكير، وقد يكون إلى جانبه في تلك اللحظة شيطان، أَو حتى أكثر، في بعض الحالات يتعاون مجموعة من الشياطين، وهم يوسوسون لشخص معين، فيحاولون أن يؤثِّروا عليه، ففي الحالة التي لا ترى فيها إلى جانبك شياطين، لا تتوقع أنه ليس هناك من يوسوس لك، أنت لا تراهم، أنت لا تراهم؛ ولذلك قد يتواجدون عندك وأنت لا تراهم، ولا تتوقع أنك في تلك الحالة، في تلك الوساوس، أصبحت متأثراً بوساوس الشيطان، قد تتصور أنَّ تلك هي رؤيتك الخالصة، تفكيرك الشخصي الخالص، من دون أي مؤثرات أُخرى، وكثيرٌ من الأعمال السيئة، من التوجّـهات الخاطئة، سواءً التي يُقْدِم بها الإنسان على معصية معينة في انتهاك لمحرمات، أَو التي يقصِّرُ الإنسان فيها في أعمال ومسؤوليات، أَو يخلُّ بشيءٍ من أوامر الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ لأَنَّ المعصية تأتي تجاه الأمر الإلهي، وتجاه النهي الإلهي، فالإنسان قد لا يتوقع أنه خضع لتأثير الشيطان، لوساوس الشياطين، قد لا يتوقع ذلك، ولكنه في الواقع تأثر بوساوس الشياطين، في موقفه ذلك -الموقف السلبي الخاطئ- كان متأثراً بوساوس الشياطين، في قراره الخاطئ ذلك كان متأثراً بوساوس الشياطين، في تقصيره ذلك تأثر بوساوس الشياطين.
الإنسانُ عُرضةٌ للتأثر بوساوس الشياطين، ولو كان لا يراهم، فهم قد يأتون إليه، ويجدون الفرصة؛ لأَنَّه فتح لهم النافذة، أَو فتح لهم الباب، إمَّا الأبواب أَو النوافذ، كيف تفتح لهم الأبواب والنوافذ؟ عندما تتجه أنت في تلك الحالة السلبية: إمَّا في التفكير السلبي، أَو الحالة النفسية السلبية، أنت حينها تفتح لهم النافذة أَو الباب، وهم يأتون ليشاركوك في تلك الأجواء، ويزيدون من تأجج المشاعر التي تتحَرّك فيك في تلك اللحظة، من مشاعر شهوة، أَو مشاعر غضب، أَو تلك الحالة من التفكير التي استغرقت فيها من التفكير السلبي الخاطئ؛ فالإنسان عليه أن يدرك أنه قد يخضع لوساوس الشياطين من حَيثُ لا يتوقع؛ لأَنَّه لم يرهم، فكن في يقظة، كن متنبهاً، إذَا وجدت نفسك أصبحت تفكر تفكيراً سيئاً، بعيدًا عن منهج الله، عن تعليماته؛ فلتنتبه، فلتحذر، الشياطين حولك، يوسوسون لك، انتبه، لا تبقى غافلاً عنهم.
{إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أولياء لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ}[الأعراف: من الآية27]، الشياطين يعتمدون على الوسوسة للإنسان، والإنسان لا يراهم، وقد يتصور أنه صاحب توجّـه خالص، لم يخضع فيه لتأثير الشياطين؛ لأَنَّه لم يرهم، والواقع مختلفٌ تماماً، ولكن هناك نقطة هامة جداً: مهما كانت طريقة الشياطين وإمْكَاناتهم في الوسوسة بالنسبة للإنسان، والتأثير على الإنسان، فلا تصل إلى درجة أن تسلبك قدرة اتِّخاذ القرار الصحيح، والتماسك في الاتّجاه الصحيح.
الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” قدَّم ختامًا مهماً لهذا الدرس، هو قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أولياء لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ}، الإيمان الواعي، الراسخ، الصادق، هو صلة يصلنا بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ونحظى من خلاله برعاية الله، بتوفيقٍ من الله، بتثبيتٍ من الله، بتسديدٍ من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، برعايةٍ واسعة من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، يخرجنا من الظلمات إلى النور، يجعل لنا فرقاناً، يساعدنا، يثبتنا في اللحظات الصعبة والحرجة، الصلة الإيمانية بالله صلة مهمة وعظيمة.
وأيضاً البرنامجُ الإيماني بنفسه، برنامج فيه تزكية للنفس، كلما زكت نفس الإنسان؛ كلما ارتقت عن المؤثرات التي يستغلها الشيطان ضد الإنسان.
جانب الوعي أَيْـضاً؛ لأَنَّ الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أتاح للإنسان في الحلال، وأتاح للإنسان في الاتّجاه الصحيح، ووعد الإنسان في مستقبله في الآخرة فوق ما يحتاج إليه، وفوق مستوى طموحهِ ورغباته، ما ينشَدُّ إليه الإنسانُ من الرغبات والطموحات، الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” وعدك في الآخرة بأكثر، بل بما هو فوق مستوى طموحك ورغباتك، وفي الدنيا تنال في إطار الحلال والخير، وما يعطيك الله، ما هو كافٍ للإنسان.
والرشد، أَيْـضاً في إطار البرنامج الإيماني، الإنسان يكتسب الرشد والتوازن.
ولباسُ التقوى، التقوى هي تُوجِدُ عند الإنسان حالةَ توازن، وحالة ضبط للشهوات والغرائز، توازن في الشهوات والغرائز، وحالة انضباط؛ وبالتالي تساعد الإنسان على الاستقامة؛ فتجتمع أمور كثيرة في الجانب الإيماني: صلة مع الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، نحظى فيها برعاية من الله، بمعونة، بتثبيت، يزيدنا هدى، يزيدنا نوراً، يثبِّتنا، يعيننا، يساعدنا، يحبب إلينا الإيمان، يزيِّنه في قلوبنا، يكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان… إلى غير ذلك.
جانب أَيْـضاً في واقع الحياة: الاستقامة في واقع الحياة تجعلك بعيدًا عن الكثير من المزالق؛ لأَنَّ مما يؤثَّر على الناس، هي: الأجواء التي توجد فيها خطوات للشيطان، توجد فيها مفاسد، معاصٍ، توجد فيها دواعٍ أكثر، تؤجج لدى الإنسان الميول إلى المعاصي أَو المفاسد، فالجانب الإيماني فيه أشياء كثيرة تساعد الإنسان على الاستقامة: من رعاية الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، إلى الأثر العظيم في رُشْدِ الإنسان ووعيه وزكاء نفسه، إلى الأعمال الصالحة، إلى تَجَنُّب الكثير من الأعمال السيئة التي تؤثِّر على الإنسان، إضافة إلى أنَّ الإنسان يكتسب في إطار البرامج الإيمانية -ومنها: الصيام- قوة العزم، قوة الإرادَة، والتوازن في مسألة الغرائز والشهوات، التوازن والانضباط، بدلاً من أن يكون الإنسان متهوراً في ذلك، وبدون ضوابط، ومنفلتاً في ذلك، يكون متوازناً عند مستوى معين، وهذا له أهميته، وأثره الكبير على الإنسان، والشيطان لا يعلم الغيب، ولا يمتلك أن يقسر الإنسان قسراً؛ فلذلك يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ}[الأعراف: 201-202]، ويقول: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ}[النحل: 99-100].
نكتفي بهذا المقدار…
وَنَسْألُ اللَّهَ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهَدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّج عَنْ أَسرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيْعُ الدُّعَاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.