من العدوان إلى الطوفان: خيطٌ مشترك و”ثقبٌ أسود”
كشرط أَسَاسي لإرساء السلام العربي واليمني السعوديّ، وجّه السيد عبد الملك رسائلَ واضحة للسعوديّة، ودعاها للانتقال من “مرحلة خفض التصعيد” إلى استحقاق السلام وفق اتّفاق واضح يتضمن ما أكّـدته صنعاء.
علي ظافر
تصادفُ يومياتُ الذكرى الوطنية للصمود اليمني في مواجهة العدوان هذا العام يومياتِ الإسناد اليمني لغزة في معركة (طُـوفان الأقصى) من خلال العمليات المُستمرّة في البحر، وباتّجاه عمق كيان العدوّ الإسرائيلي، وليس في الأمرين مصادفة، بل نرى أنّ ثمة خيطاً مشتركاً بين العدوان والطوفان سنحاول تبيينه في هذا المقال.
في خطابه السنوي في ذكرى الصمود الوطنية قبل أَيَّـام ربط السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي ربطاً ذكياً بين العدوان على اليمن، وَ(طُـوفان الأقصى) لناحية الهدف من قبل الحلف الأمريكي، وما أفرزته العشرية الماضية من تحوّلات جعلت من اليمن رقماً صعباً في المعادلات الإقليمية، وذا تأثير ملموس في المعادلات الدولية من بوابة المسرح البحري الممتد من البحر الأحمر إلى المحيط الهندي.
وبطريقة غير مباشرة قال السيد عبد الملك إنّ العدوان السعوديّ الأميركي أتى في سياق المشاريع الأميركية في المنطقة ربطاً بمشاريع تصفية القضية الفلسطينية وصفقة القرن، وما تلاها من مسارعة بعض الدول العربية لتوقيع اتّفاقيات التطبيع والخيانة مع العدوّ الإسرائيلي، وبالتالي فإن ما حقّقه اليمن من إنجازات عسكرية وصمود شعبي أفشل أهداف العدوان الأَسَاسية في احتلال البلد بشكل كامل، وتدمير القدرات العسكرية ومنع اليمن من الوصول إلى ترميم قوته، فضلاً عن تطويرها وصناعة أسلحة استراتيجية كاسرة للتوازن القائم أقلّه في التأثير والفاعلية، على أنّ هذا النصر وهذه الإنجازات لم تقتصر على الساحة الوطنية اليمنية، بل مثّلت انتصاراً إضافياً للأُمَّـة وللقضية الفلسطينية إلى جانب فشل مشاريع التطبيع والتصفية إلى حَــدّ كبير.
ويعزّز هذا الاستنتاج، الدلائل الحسية على أرض الواقع، فاليمن خرج من عدوان السنوات الماضية أكثر قوة وقدرة، كما ظهر التفاعل الشعبي أكثر من أية مرحلة مضت، ولم ينكفئ بعوامل القوة، بل وظّفها بطريقة ذكية وفاعلة ومؤثرة لصالح القضية الفلسطينية، ونصرة لسكان غزة في مواجهة العدوان والحصار المفروضين على القطاع منذ ستة أشهر، وسط صمت عربي إسلامي دولي رهيب، باستثناء جبهات الإسناد المعروفة وما يرافقها من مظاهرات في عدد من عواصم العالم للضغط باتّجاه إيقاف جرائم الإبادة وسياسية التجويع، وبما تشيء بتحوّل غير عادي في الرأي العام الدولي، أعاد للقضية الفلسطينية اعتبارها وأعادها إلى صدارة الاهتمام الدولي سياسيًّا وإعلامياً وحتى عسكريًّا، بخلاف ما خطط له الحلف الأميركي الإسرائيلي خلال العشرية الماضية.
على أنّ انخراط اليمن رسميًّا وشعبيًّا وبكلّ ما يملك من قوة في معركة (طُـوفان الأقصى)، لا يعني إغلاق الصفحة السوداء المظلمة للدول التي دمّـرت وقتلت في اليمن خلال التسع السنوات الماضية، فكان تذكير السيد بما حصل من جرائم بالأرقام والإحصائيات، يهدفُ إلى أمرَينِ أَسَاسيَّين:
– إنعاش الذاكرة اليمنية والتذكير بفظائع وجرائم العدوان على مدى تسع سنوات، سواءٌ أكانت بالعدوان أَو الحصار أَو الحرب الاقتصادية.
– إيصال رسالة من أعلى المستويات في اليمن إلى دول العدوان بأنه لا يمكن منحها صك براءة وإعفاؤها مما ارتكبت من جرائم، والتأكيد لتلك الدول بأنها لا تزال أمام استحقاقات إنسانية وعسكرية وسياسية ملحة لا يمكن التنازل عنها، وهي تمثّل مفتاح الحل والسلام، وسنشير إليها في سياق هذا المقال.
المسألة الأُخرى، أن السيد عبد الملك نبّه دول العدوان بشكل ضمني إلى خطورة وكلفة توريط أميركا لها مجدّدًا في العدوان على اليمن على خلفية الموقف من غزة، ويتضح ذلك جليًّا من التحذير المباشر من خطورة التبعية لأميركا، ومن خلال استعراضه بالأرقام خسائر دول العدوان على مستوى العديد والعتاد من ناحية، إضافة إلى ما حقّقته اليمن من إنجازات عسكرية على مستوى العمليات البرية، والبحرية، والدفاعات الجوية، والتدريب والتأهيل والتصنيع، وكيف جعلت من التهديد والتحدّي فرصة أهّلتها لهذا الدور الذي تقوم به حَـاليًّا في المسرح البحري، وتحديداً ضد الملاحة الصهيونية وبعدها الأميركية والبريطانية حَــدّ إغراق السفن والسيطرة عليها، واستهدافها بشكل أربك الأميركيين أنفسهم وأظهر عجزهم.
وذلك ما أكّـدته مؤخّراً صحيفة بلومبرغ الأميركية بأن “اليمن نجح في إفشال أكثر الجيوش تطوراً”، ونقلت عن مارك ميجز قائد حاملة الطائرات الأميركية أيزنهاور بأنّ “ما يملكه اليمن من صواريخ في ترسانته هو بمثابة ثقب أسود للاستخبارات الأميركية، وبأن واشنطن تدفع تكاليف باهظة الثمن”.
هذه القناعة الأميركية بالفشل من أعلى المستويات العسكرية، تؤكّـد بأن المتغطّي بأميركا عريان، وبأنّ واشنطن التي تعجز عن حماية سفنها وسفن ربيبتها “إسرائيل” هي أعجز عن تقديم الحماية للدول العربية التي تريد الزج بها إلى مستنقع اليمن مجدّدًا، وخُصُوصاً بعد إدخَال المفاجآت مؤخّراً على خط المواجهة من خلال توسيع النطاق الحيوي للعمليات العسكرية البحرية، ومن خلال إدخَال أسلحة جديدة وصل بعضها إلى إيلات متجاوزاً كُـلّ منظومات الدفاع الأميركية والإسرائيلية في المنطقة وفلسطين.
وبموازاة ذلك جدّد السيد عبد الملك تطمين الدول العربية وفي مقدّمتها السعوديّة، بأن اليمن لا يشكّل أي خطورة على الأمن القومي العربي، بل هو حريص على سيادة الأمن، وأن تكون العلاقات الإيجابية قائمة على أَسَاس وحدة الدين والقومية، وبمواجهة تحديات مشتركة، وأن على كُـلّ الشعوب العربية والإسلامية أن تنظر لليمن كسند أَسَاسي وليس كعدو أَو تهديد لها، وهذا في قلب وصميم المشروع الفكري والسياسي لليمنيين، بخلاف المغالطات الأميركية الإسرائيلية التي قدّمت العدوّ صديقاً والصديق عدواً، فقدّمت “إسرائيل” صديقاً وإيران ومحور المقاومة أعداء.
مع أنّ خطة “إسرائيل الكبرى” تمثّل أكبر تهديد للأمن القومي العربي، كما أن مشروع التطبيع الذي لا تزال مساعيه مُستمرّة لتوريط دول جديدة للمضي فيه قفز ويقفز فوق الحقائق والاعتبارات المتصلة بالأمن القومي العربي، فقدّمت الدول العربية خلال عشرية النار الماضية كُـلّ ثقلها وقدراتها لمواجهة الأُمَّــة ودعم الصراعات البينية داخلها، وبما يخدم مصلحة كيان العدوّ الإسرائيلي، من سوريا إلى العراق واليمن ولبنان.
من هنا، وتفويتاً للمساعي الأميركية الإسرائيلية في إشعال الحرائق الداخلية والصراعات البينية، أتى التأكيد مجدّدًا من السيد عبد الملك بأن اليمن يجدّد ويؤكّـد “الحرص على التفاهم والسلام والأخوّة والعلاقات الأخوية وليس لديه أي توجّـه عدائي نحو الأُمَّــة العربية والإسلامية، وأن المواجهة مع ثلاثي الشر”. إلى جانب رسائل تصل بعيدًا عن الإعلام إلى من يهمه الأمر في عواصم تلك الدول التي اعتدت على اليمن.
وكشرط أَسَاسي لإرساء السلام العربي واليمني السعوديّ، وجّه السيد عبد الملك رسائل واضحة للسعوديّة، ودعاها للانتقال من “مرحلة خفض التصعيد” إلى استحقاق السلام وفق اتّفاق واضح يتضمن ما أكّـدته صنعاء، بما يفضي لإنهاء العدوان والحصار والاحتلال وتبادل الأسرى وإنهاء المشكلة، وهذه هي استحقاقات السلام ومحدّداته، بعيدًا عن الاستمرار في خدمة السياسة الأميركية التي لا تحترمهم أصلاً، وليس لهم ولا لبلدانهم أية مصلحة في ذلك.
الملاحظ أن السيد عبد الملك لا يزال يعتبر أن العدوان قائم عسكريًّا وإنسانياً، ويتضح ذلك من خلال رسالته الأخيرة بأننا “قادمون في العام العاشر بالقدرات العسكرية لحماية شعبنا ومساندة فلسطين، قادمون بجيش قوي ومدرّب، وبالتعبئة العامة، بوعي شعبي، وتماسك داخلي غير مسبوق”.