صرخاتُ الأنصار تحتَ زخات الأمطار
عبد القوي السباعي
بعيدًا عن تفاصيل الحياة وسردياتها المتناقضة، وعن توجّـهات السياسة وانتماء الفكر والتقاء المنهج، ومتغلباً على ميول ورغبات النفس، المتجهة دوماً إلى الراحة؛ وصلت إلى ساحة التظاهرة المليونية في ميدان فلسطين (السبعين) بالعاصمة صنعاء، التي حملت عنوان “معركتنا مُستمرّة حتى تنتصر غزة”؛ حضرتُ إليها كإنسان حمل في كينونيته كُـلَّ مشاعر الإنسانية، تجاه ما يحدث من جرائمَ وانتهاكات وحرب إبادة بحق أهلنا في غزة، لأكثرَ من ستة أشهر متواصلة.
وأنا أتأمل وحشيةَ العدوان الصهيوني على البشر والحجر والشجر في غزة، وحقدَه وصلفَه، أيقنت بحتميةِ الموت للضمير الإنساني، الذي لا يستيقظ إلا كما أراد هذا المجرم ومن يدعم بقاءَه ويرعى توجُّـهَه.. أتأمل عزلةَ الحياة العصرية وصمتها المؤلم.. أتأمل كيف سكنت كُـلُّ الأصوات واحتجزت في حناجرها، ونامت أَو ماتت، إلا صوت واحد ظل مستيقظاً في ظلمة الليل الصهيوني الموحش، صوت واحد ظل هادراً مدوياً وسط سكون وخِذلان هيئات الأمم.
إذ لا صوت يعلو في الأرجاء؛ غير صوت الشعب اليمني -بقيادته وجيشه- المتمسك بخطه الإيماني الجهادي، المتصل بقضية الأُمَّــة ومصيرها، صوت لم ينفك يدعو بَقيَّة الشعوبِ العربيةِ والإسلامية إلى النهوض بالمسؤولية الجماعية تجاه غزة وكل فلسطين؛ كونها قضيةً هي من أعدل قضايا الأرض، ولا غير الأحرار يمكنهم الوقوفُ مع هذه القضية.
وقفتُ كقطرةٍ في المحيط بين تلك الحشود الهائلة، التي جاءت للتأكيد على ذلك؛ وإذ لا ينتصرُ للقضية الفلسطينية إلا الأحرار؛ كان اليمانيون الأنصار هم أول من انتصر لها، هم أول من هبَّ لنجدتها والدخول في معركتها، ومثلما وقفنا جميعاً تحت القصف؛ مِن أجلِها لتسعِ سنوات، ها نحن نقفُ اليومَ نستمعُ إلى المطر الجامح الهاطل فوق السيول البشرية هذه، فطالما كان هو السبيلَ لغسيل همومنا، والتخلُّص مما يُكدِّرُ صفوَ حياتنا؛ فهو من يروي قلوبنا غيثًا لتُزهِرَ دواخلَنا عزةً وكرامةً وانتصارًا لكل المستضعفين.
أتأمل حين تساقطت أولى قطرات المطر صورت في ذهني تلك المصاعب والمآسي التي كان على أهل غزة تحملها أثناء اختبائهم من القصف، أتأمل ما نحن عليه من تَجَـــلٍّ للصورة، أدركتُ أن هذا الغيثَ الإلهيَّ وفي هذا التوقيت بالذات جاء رحمةً من الله وبُشرى للمؤمنين في صنعاء وفي غزة بنصرٍ قريب، وصدق اللهُ سبحانَه وتعالى؛ إذ قال: ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ﴾ [الأنفال: الآية11].