اشتراكُ الأنظمة العربية في جريمة إبادة غزة
د. عبد الرحمن المختار
ليس من السهلِ تصديقُ ما هو قائمٌ على أرض الواقع، أن شعبًا عربيًّا مسلمًا يتعرَّضُ لجريمة إبادة جماعية، تنفذ أفعالها منذ أكثر من ستة أشهر يوميًّا وعلى مدار الساعة، وفي ذات الوقت يقفُ إخوان هذا الشعب العربي المسلم، الذين تجمعهم بهم روابطُ الدين واللغة والتاريخ والمصير المشترك، موقفَ المتفرج، وهو موقف سلبي متخاذل رغم أن الله -سُبحانَه وتعالى- قد أمرهم باتِّخاذ موقفٍ إيجابي؛ فقال عزَّ من قائل: ﴿إِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ﴾، والأمرُ هنا للوجوب؛ بمعنى أن حكمَ الأمر الالهي ليس تقديريًّا للمخاطبين بحُكم هذه الآية، وهم العربُ بالدرجة الأولى والمسلمون عُمُـومًا، لكن المخجل أن الأمرَ لم يقف عند الموقف السلبي المتخاذل عن الاستجابة لأمر الله سبحانه وتعالى، بالنصرة بل تجاوز ذلك إلى ما هو أخزى! وأشد وأنكى! فإذا كان من الصعوبة بمكانٍ تصديقُ ما يجري على أرض الواقع من سلبية وخِذلانٍ تجاه جريمة الإبادة، التي يتعرض لها أهلنا في قطاع غزة! فكيف يمكن تصديق أن الإخوة قد تجاوزوا خِذلانَ إخوانهم؟ وتنكَّروا لما أوجبه عليهم ربُّهم من نُصرةٍ لهم، في حال طلب النصرة، في حال الاستغاثة، في حال طلب النجدة!؟ كيف يمكن تصديق من أمرهم الله بالنصرة أنهم مشتركون في جريمة الإبادة لإخوانهم؟
لماذا كُـلّ ذلك الجحود لأمر الله تعالى؟ أين هي رابطة الدين، رابطة الإخوة؟ ألم يقل الله سبحانه وتعالى ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جميعاً وَلَا تَفَرَّقُوا، وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ؛ إذ كُنتُمْ أعداء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأصبحتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ ألم يصف الله سبحانه وتعالى رابطة الدين بأنها نعمة؟ ألم يصفها بأنها رابطة أُخوّة؟ وليست مُجَـرّد رابطة مصلحة عابرة؟ ما الذي أوصل شعوب الأُمَّــة العربية إلى هذه الحالة المخزية، التي يقف فيها العربي المسلم إلى جانب الصهيوني، ويشترك معه في جريمة لا يمكن وصفها بحال من الأحوال إلا بأنها جريمة إبادة جماعية؟! ما الذي أصاب الأُمَّــة العربية؟ وما الذي دهاها حتى لا تقيم أدنى اعتبار لا لرابطة الدين، ولا لرابطة اللغة ولا لرابطة التاريخ والمصير؟ ولا لرابطة الجوار فنجدها توصد الأبواب في وجه المستغيثين والمستنجدين أطفالا ونساء وشيوخا؟! لماذا تتخلى أُمَّـة العرب عن عُرَى روابطِها الوثيقة في الوقت الذي تبحث فيه شعوب أُخرى عن سبل التكامل في ما بينها؛ لتحقّق نموها وتطورها، وتعزز قوتها في مختلف المجالات، وترفع شأنها ومكانتها بين الأمم الأُخرى؟ ورغم أنه لا يتوافر لتلك الأمم ما يتوافر لأمة العرب من روابط ومقومات؟ لكنها تتكتل في أشكال وصور مختلفة؟ في حين تتناحر وتتمزق الأُمَّــة العربية بصور وأشكال مختلفة؟ كيف يمكن فهم ما جرى ويجري لأمة امتدحها الله ووصفها جل وعلا بأنها ﴿خَيْرَ أُمَّـة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾؟
لكي نفهم واقع الأُمَّــة العربية الراهن -المؤلم- لا بُـدَّ لنا من مراجعة التاريخ ولو لقرن مضى لنتعرف على الأسباب التي أَدَّت إلى اشتراك أنظمة عربية في جريمة إبادة جماعية ضد إخوة لهم في الدين والعروبة والجوار والتاريخ والمصير!
فلقد ابتُليت شعوب الأُمَّــة العربية، منذ بداية القرن الماضي تحديدا، بنخب تولت مقاليد الحكم، اتصفت بالضعف الشديد في مواجهة القوى الاستعمارية، ونتج عن ضعف هذه النخب تبعيتها وارتهانها لتلك القوى، بل ورهن مصير ومستقبل شعوب الأُمَّــة العربية لتلك القوى، التي عملت وبشكل حثيث، على تكريس حالة الضعف والتبعية للنخب الحاكمة في الدول العربية؛ حتى أصبحت هذه النخب مُجَـرّد أدوات بيد القوى الاستعمارية تحَرّكها بالاتّجاه الذي تريد، بما يخدم مصالحها، واستخدمتها في قمع أية حركات أَو تحَرّكات شعبيّة، مناهضة لهيمنة تلك القوى الاستعمارية.
ولعل الشاهد الحي في بلادنا هو مقارعة السيد الشهيد القائد لهيمنة تلك القوى الإجرامية وأدواتها في الداخل، والمنطقة عُمُـومًا، وما تعرض له هو وأتباعه من قمع وعنف من جانب النظام الحاكم، وذات القول ينطبق على ما ارتكبته أدوات القوى الاستعمارية في السعوديّة والبحرين وغيرهما من قمع وقتل وتنكيل ضد المعارضين لهيمنة للاستبداد الداخلي والهيمنة الاستعمارية الخارجية.
كما أن القوى الاستعمارية استخدمت الأنظمة الحاكمة في بعض الدول العربية لحصار ومواجهة أية حكومة عربية أَو إسلامية، تتبنى مناهضة الهيمنة الاستعمارية، وحياكة المؤامرات ضدها، وافتعال الأزمات، وتأجيج الأوضاع الداخلية، والعمل على إسقاطها في نهاية المطاف.
وقد عملت الأنظمة العربية التابعة للقوى الاستعمارية على اصطناع تباينات بين الشعوب العربية في المجالات السياسية والاجتماعية والثقافية، حَيثُ فرضت هذه القوى على بعض الشعوب العربية نظم حكم وفقًا لصيغة معيَّنة، وتعصبت لها أشد التعصب، وفي ذات الوقت فرضت أنظمة أُخرى، نظم حكم وفقًا لصيغة أُخرى، رغم التباين الشديد في ما بينها! لكن هذا التباين بين أنظمة الحكم: (جمهورية وملكية) ينتهي لمُجَـرّد اتّفاق هذه الأنظمة في تبعيتها وارتهانها للقوى الاستعمارية!
ولم يقتصر الأمر على تباين أنظمة الحكم في الشعوب العربية، بل تعداه إلى أن عمل كُـلّ نظام على التآمر على النظام الآخر، والتحريض عليه على كافة المستويات، خدمة لأهداف القوى الاستعمارية، ومع أن الأُمَّــة العربية ناطقة بلغة واحدة، هي اللغة العربية، التي تكفل لها أن تسود ثقافة واحدة جميع شعوب الأُمَّــة العربية، غير أن التباين في أنظمة الحكم، قد ترتب عليه محاولة كُـلّ نظام اصطناع محتوى أَو قالب لثقافة خَاصَّة به، تميز شعب الدولة التي يحكمها ذلك النظام عن الشعوب الأُخرى، التي تحكمها أنظمة مختلفة، تعمل بالتوازي على ابراز ثقافة أُخرى، تلائم صيغ تلك الأنظمة وبتشجيع من القوى الاستعمارية.
ولأن الأُمَّــة العربية تمتاز بوحدتها الجغرافية، وما تحتويه هذه الجغرافيا من ثروات وموارد طبيعة، وتنوع في المناخ، وثروة بشرية هائلة، كُـلّ ذلك يسمح لشعوبها، التي تعيش على هذه الرقعة الجغرافية الواحدة، أن تحقّق مستوى اجتماعياً متقارباً، غير أن ما ترتب على (سايكس بيكو) من بروز لحدود مصطنعة، بين شعوب الأُمَّــة العربية، أَدَّى إلى تباين في مستوى معيشة هذه الشعوب، ومدى تقدمها أَو تخلفها، ومدى استقرارها السياسي، وهذا التباين ناتج عن الاستئثار بالثروات الطبيعية، وعدم تسخيرها لخدمة تقدم وتطور شعوب الأُمَّــة العربية والنهوض بها إلى مصاف الأمم المتقدمة؛ لتحقّق لها نموًّا متسارعًا في مختلف المجالات.
وهنا عملت القوى الاستعمارية جاهدة، على تحييد أي دور إيجابي لثروات وموارد الأُمَّــة العربية، في تحقيق التقدم والتطور والحياة الكريمة لشعوبها، بل الأبعد من ذلك، عملت القوى الاستعمارية على تحويل ثروات الأُمَّــة العربية ومواردها الطبيعية من نعمة إلى نقمة، ومن عامل مهم من عوامل نهضتها إلى عامل لتخلفها وانحطاطها؛ فقد تم استخدام هذه الموارد في تدمير الدول العربية، وتمويل مشاريع القوى الاستعمارية، وجرائم الإبادة التي ارتكبتها ولا تزال ترتكبها بحق الشعوب العربية، وآخرها ما يجري اليوم من جريمة إبادة جماعية في قطاع غزة بأموال عربية!
وفي سبيل الوصول إلى النتيجة الماثلة اليوم، التي تشترك فيها دون حياء أَو خجل، أنظمة عربية في إبادة شعب فلسطين في قطاع غزة، عملت القوى الاستعمارية خلال القرن الماضي على تكريس تقسيم شعوب الأُمَّــة العربية إلى نفطية وغير نفطية، وأقامت على رأس هذا التقسيم أنظمة تدين لها بالولاء والتبعية، ولم تكتف القوى الاستعمارية بتكريس تقسيم شعوب الأُمَّــة العربية، إلى نفطية وغير نفطية، وما نتج عن ذلك من ثراء فاحش للأولى، وفقر مدقع للثانية، بل ذهبت القوى الاستعمارية أبعد من ذلك، حين كرست عدم إمْكَانية وجود أي أمل للوحدة بين شعوب الأُمَّــة العربية؛ بسَببِ غنى بعضها وفقر البعض الآخر، حين اعتبرت القوى الاستعمارية هذا التفاوت المصطنع في الثروة النفطية، مانعًا من قيام أي شكل من أشكال الاتّحاد بين شعوب الأُمَّــة العربية.
كما عملت القوى الاستعمارية على تعطيل كافة موارد الثروة العامة غير النفطية للأُمَّـة العربية، سواء في الدول النفطية أَو غير النفطية، بعد الايهام بأن العرب لا يملكون إلا النفط، وقد تحدث عن ذلك الرئيس الأمريكي السابق (ترمب) وبكل وقاحة قائلاً: (إنهم لا يملكون إلا النفط، ويجب أن يدفعوا مقابل حمايتهم).
والواضح أن هدف القوى الاستعمارية من تقسيم شعوب الأُمَّــة العربية إلى نفطية وغير نفطية، وتعطيل موارد الثروة الأُخرى للأُمَّـة، هو تعميق الفجوة بين هذه الشعوب، وزرع بذور الصراع في ما بينها؛ لتسليط بعضها على بعض، في الوقت الذي ترى فيه القوى الاستعمارية ذلك محقّقا لأهدافها.
وبسبب تبعية وارتهان الأنظمة الحاكمة، في شعوب الأُمَّــة العربية، استمرت حالة التمزق لشعوبها، بل إن القوى الاستعمارية استخدمت تلك الأنظمة، كأدوات لتحقيق مصالحها وأهدافها، وما الحرب العدوانية على شعبنا اليمني لقرابة عقد من الزمان دونما مراعاة لحقوق الأُخوَّة الدينية والعربية، وحقوق الجوار إلا شاهد حي على ذلك الاستخدام من جانب القوى الاستعمارية للأنظمة العربية العميلة؛ لتحقيق أهدافها في تمزيق وتفتيت شعوب الأُمَّــة، ووأد أي مشروع لنهضتها وتقدمها.
وَإذَا كان ذلك كذلك! ووقائع التاريخ العربي القريب تؤكّـد ذلك! فهل يمكن لشعوب الأُمَّــة العربية التي دجنها علماؤها وحكامها للقوى الاستعمارية، كما تحدث وبشكل مفصل السيد القائد الشهيد حسين بدر الدين الحوثي –رضوان الله عليه- هل يمكن لهذه الشعوب أن تصحوَ من سباتها؟ وأن تنهضَ لتقذفَ بحكامها إلى حَيثُ يستحقون أن تقذف بهم؟ فماذا تنتظر هذه الشعوب بعد جريمة اشتراك حكامها في إبادة أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة؟