غــــزَّةُ وصمةُ عار في جبين كُـلّ الساكتين
الشيخ موسى المعافى*
إنه طفل غزة -بلا ذنب ولا جرم ولا موبقة أصابها- يسحق ويباد وتناله نيرانُ بغي بني صهيون وطغيانهم وَالأحقاد.
ذلك الطفل البريء لا ينكسر كالكبار.
بل يتمزق جسدُه الغَضُّ؛ ليلحق بكل عربي ومسلم الهزيمةَ والعار.
وحين تغادر في غزة الأنفس الصغيرات والأكف اللينات حينها نفقدُ ملامحَ إنسانيتنا.
ويحل بربوع سكينة نفوسنا الدمار؛ لنتجول عراة من ضمائرنا، وَنسكنُ العتمة وتسكننا.
ونموت أحياء جميعاً نموت وبلا استثناء إلا من شرفه الله وكتب له أن يكون، حَيثُ يحب الله.
جميعنا نموت أحياء، ملوكاً وسلاطين وأمراء ورؤساء ووزراء وعلماء وخطباء ودعاة ومرشدين وحكماء وعقلاء وأدباء وشعراء وجيوشاً وشعوباً صامتة خائفة ذليلة صاغرة مستسلمة مسلمة لغير ذي القوة المتين.
فليس سهلًا أن نرى تلك المشاهدَ المأساوية على شاشات التلفزة ولا تهتز فينا شعرة..
ولا يشعل القهر في قلوبنا لظاه وجمره.
ولا تتمرد تلك الشعوب على حكامِها المطبِّعين مع العدوّ الصهيوني الغاصب ولا يعلنونها ثورةً لاجتثاثهم من الجذور.
فدمع الصِّغار حارق، وأنفاسُهم الحرَّى جحيمٌ يحيط بنا، ويصهرُ ما تبقّى مِن كلماتنا.
يا الله!
إن طفولتَنا على التراب المحتلّ تُغتال كُـلّ يوم!
تُغتال في وضح النهار وعلى مرأى وَمسمع مِن الكون وسكانه الغارقين في الغفلة والنوم.
تُسحَقُ ابتساماتُ الصغار وتُمزَّقُ دفاترهم الصغيرة قبل تَفتُّحِ الحروف على صفحاتها وقبل أنْ تعانقَها الألوانُ في الأرض الثائرةِ على جلّاديها وسجّانيها وسماسرة بيعها وعملاء عدوّها.
وعلينا نحن -عربًا ومسلمين- الصامتين على نزفها.
فخناجر سكوتنا المسمومة لا زالت وإن لم ترها عيونُنا تقطر من دماء شيوخ غزة ونسائها وأطفالها ومرضاها وجرحاها ومعوقيها.
في عزيزتنا فلسطين عُمُـومًا وفي حبيبتنا غزة العزة خُصُوصاً يظل الجرح المفتوح للشمس وَلا يتوقّف نزيفُ عروقها.
ويسكن العفن والخراب بلدانا رغم سحر جمال عمرانها وطولها..
فقد جعلت لنفسها جحوراً؛ كي تُوقِفَ وظائف حواسِّها فلا تسمع صرخات إخوتها المستضعفين المظلومين.
ولا تبصر مجازر العدوّ الصهيوني الغاصب بحق الغزاويين.
ولا يحس الفؤاد فيها وَيستشعر الخطر المحدق ببقية أبناء أُمَّـة الإسلام والمسلمين.
أمتنا -وإنْ كانت تتنفّس الصعداء- ميتة ويظلِّل روحَها الخواء.
ميتة وَلا أمل في صحوها ولا رجاء.
نعيش حياتنا اعتيادية نأكل ونشرب ونلهو ونلعب.
ونمارس هواياتنا اليومية وننام حين نرهق ونتعب.
ونقرأ (إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائرُ الجسد بالسهر والحمى).
ونندهش لضياع تفسير هذا القول -في واقعنا إحساساً- ونعجب!
اسمعتم يا -سادتي القراء الكرام- لسان حال أطفال غزة يخاطب كُـلّ من كان له بقية من قلب فيه نور (لا اله إلا الله) أَو ألقى السمع وهو شهيد.
اسمعتم منطقه الفصيح الذي يعرب فيه عن ما في محنته من هذا العالم يريد:
طعاماً يا فاقدي النخوة والنشامة!
طعاماً يا فاقدي المرؤة والشهامة!
طعاماً يا عباد الأموال والكراسي!
طعاماً يا أيها الثابتون على ربى نذالتكم كالجبال الرواسي.
طعاماً يا عديمي الإنسانية.
طعاماً يا أذلاء..!
طعاماً يا كلاب الاستكبار الجبناء!
طعاماً يا أيها العالم الحقير!
طعاماً يا عالماً مات فيه الضمير.
أمعاؤنا الخاوية تلعنكم.
ودماؤنا التي يستحل سفكها العدوّ الغاصب على مدار الساعة في قعر جهنم ستسجنكم.
بطوننا المثقلة بالحجارة تحتقركم.
وأجسادنا التي أنحلها الجوع والعطش وشدة الحر والصقيع تستصرغكم.
آباؤنا وأُمهاتنا يطلبون موتنا فهل يُطلَبُ الموتُ لعزيزٍ إلا حين يستطيل الألم؟!
وهل تزهد الحياة في أنفاسها إلا حين تنضح ربوعها بأمثالكم من الجيف والرمم؟!
نحن أطفال غـــزَّة بأيادينا الصغيرة نغرف التراب مختلطاً بذرات الطحين المتناثر إن وجدناه.
نجمع مقادير رغيف واحد، ونطحن علف الحيوانات؛ لنبقى أحياء، لنصمد لساعات، لنكمن دقيقة، لنعلنكم مرة أُخرى، ونعود مجدّدًا إلى المواجهة.
أما بعضكم فقد طبّع مع العدوّ وباعنا، وحين احتجناه وقف عاجزاً إلا عن بعض استعراضات يطلقها في السماء ليوهم العالم أنه البطل ولم يرح رائحة البطولة يوماً.
اغضب يا الله..
اغضب فقد خَذَلَنا الجميع إلَّا من تعرض لما تعرضنا له من عدوان وحصار كاليمن الحبيب.
خذلنا البقية بلا شرف بلا عروبة بلا نخوة بلا قومية بلا دين بلا إسلام بلا قيم ولا أخلاق وَبلا قلوب بلا إحساس وبلا إنسانية.
إنه صوت لسان حال أطفال غزة يا زعماء العالم العربي والإسلامي فهل سمعتموه!!
* عضو رابطة علماء اليمن