معالِمُ على طريق النهضة العربية (رؤية)
عبد الرحمن مراد
العرب اليوم أمام مفترق طرق إما الخضوع أَو صناعة واقع جديد يكون مؤثراً في السياسة الدولية، ومثل ذلك لن يتحقّق إلَّا من خلال إرادَة سياسية قوية تحمل مشروعاً نهضوياً يسير بخطى ثابتة نحو المستقبل بعدد من الإجراءات الإصلاحية التي تكون تعبيراً عن المستوى الحضاري الجديد الذي وصل إليه العالم المتحَرّك والمتجدد من حولنا.
لقد كان العرب في القرن العشرين صورة مماثلة للماضي الذي جثم على صدورهم منذ القرن السادس عشر الميلادي يعيشون واقعاً مريراً ومآسي كثيرة وأوضاعاً معقدة سواء في الجانب المادي اليومي أَو الرمزي الحياتي ووصل الركود والجمود المقدس إلى الوجدان واللغة والتقنية؛ أي أن الواقع كان يتسم أَو يمتاز أنه واقع مأزوم، تاريخه معطل وغير مكتمل منذ سقوط بغداد في القرن الثالث عشر الميلادي إلى القرن العشرين، وهو تاريخ يمتد لقرون لم يعرف العرب فيه طعم الاستقلال الحقيقي، ولا معنى الحرية الكاملة، ولم يصلوا إلى زمنهم التحرّري الذي اتسم به النصف الأول من القرن العشرين إلا بعد حروب وأزمات ونضالات وتضحيات، وبعد هدر كبير للطاقات المادية والبشرية والثقافية والرمزية والنفسية، وبالرغم من كُـلّ ذلك إلا أن العرب لم يصلوا إلى مبتغاهم في التصالح مع التاريخ الذي يحقّق لهم القدر الكافي من التوازن في العلاقات مع الآخر، أَو في فك الإشكاليات بين قضايا شائكة مثل الأصالة والمعاصرة والتراث والتاريخ ولذلك لم تكتمل نهضتهم بفعل عوامل المستعمر وتدخله في صناعة واقعهم، فقد رحل المستعمر عن الديار العربية شكلاً وظل يتحكم بالمصير العربي وبمصادر الطاقة ضمناً، ولذلك نقول إن التاريخ قد مكر بالعرب ولم يتحقّق لهم الاستقلال منذ السقوط الأول لبغداد إلى اليوم.
وبعد كُـلّ هذه التموجات التي عصفت بالواقع العربي، والتي أحدثت الهزات العنيفة في البناءات المختلفة سواء البناءات الاجتماعية أَو الثقافية أَو السياسية، لا يبدو الواقع العربي يبعث بصيصاً من الأمل في التغير والتبدل في السياقات وفي العقائد السياسية وفي القناعات، فما زال العقل العربي يحبذ المركزية الذاتية وبها ومن خلالها يدير واقعه، ويرى في الآخر مهدّداً لوجوده، ويرى الرأي المختلف مقوضاً لكيان المجتمع ومهدّداً لاستقراره.
فالذي حدث ويحدث منذ عام 2011م من حركات ثورية حاول المجتمع العربي من خلالها التنفس والإعلان عن وجوده، لكنها لم تحمل الأمل المنشود؛ لأَنَّها جاءت من فراغ فكري وذهبت إلى التيه، ولم يكن تيها واعياً ولكنه أصبح حالة تشبه الضياع في كثير من البلدان العربية، فالبلدان التي ما زالت تشهد استقراراً خرجت لتعبر عن ضيقها كما شهدنا ذلك في السودان وفي الجزائر، والبلدان التي نالها من الترف الشيء اليسير كدول الخليج والسعوديّة خرجت نماذج منها لتعلن عن ضيقها وتذمرها من واقعها، وها هي بعض النماذج تذهب إلى الغرب بضجيج إعلامي ملفت للنظر كما في حال بعض الفتيات والفتيان الذين يطالبون باللجوء السياسي أَو الإنساني وغالب أُولئك من دول الخليج ومن السعوديّة.
ثمة صراعٌ اليومَ يغتلي في الوجدان الجمعي العربي وهو إما ظاهرٌ أَو خفيٌّ، فالظاهرُ نشهد صراعَه وحروبه منذ أمد غير بعيد وما يزال، والخفي يبعث بين الفينة والأُخرى إشاراته ورموزه -وقد أشرنا إلى بعض نماذجه في السياق– هذا الصراع في جوهره ينشد واقعاً جديدًا يتجاوز عثرات الماضي ويلبي طموحات الحاضر، ويكون تعبيراً عن الزمن الجديد الذي نعيش، فالإصلاحات أصبحت ضرورة حتمية لا يمكن تجاوزها، أما النسج على منوال الماضي فهو تكرار قد يديم أمد الصراع العربي ولا يعمل على تنمية حالة الاستقرار.
إذن نحن أمام واقع جديد لا يمكن ترويضه بعد أن أعلن عن نفسه، ولا بُـدَّ من التعامل معه وفق أسس ومبادئ جديدة تضمن وجود الكل ورفاه الكل ومشاركة الكل ومسؤولية الكل، ومثل ذلك لا يمكنه التحقّق دون ثورة ثقافية حقيقية تعيد للألفاظ براءتها وللمعاني عذريتها، بعد كُـلّ هذا الظلام، وكلّ ذلك التعويم لمفاهيم الوطنية والهُــوِيَّة، والسيادة، والحرية، والاستقلال، فقد كان هدم النظام العام والطبيعي في المجتمعات العربية التي اجتاحتها ثورات الربيع هي التمهيد الحقيقي للوصول إلى الغايات والمقاصد التي رسمتها استراتيجية راند لعام 2007م..، ومنها السيطرة على مصادر الطاقة؛ مِن أجلِ إخضاع الحكومات، والسيطرة على منافذ الغذاء؛ مِن أجلِ إخضاع الشعوب، وقد تحقّق ذلك في الكثير من البلدان، تحقّقت تلك الغايات في العراق، وتحقّقت في اليمن، وفي ليبيا، وهي أكثر تحقّقاً في دول الخليج العربي التي في سبيل وهم الإصلاحات سعت إلى بيع أسهم الشركات النفطية، مثل شركة أرامكو بالسعوديّة التي باعت الكثير من أسهمها لصالح شركات عالمية، ودول الخليج أكثر الدول العربية خضوعاً للبيت الأبيض كما هو شائع، وليس بخاف أن صراع الأسر المالكة في تلك الدول تفصل فيه أمريكا وجهازها الاستخباري كما حدث في موضوع محمد بن نايف ومحمد بن سلمان في السعوديّة مثلاً، وهو أمر ليس ببعيد عن الذاكرة، فخضوع ابن نايف لقرار إقالته من ولاية العهد لم يكن بالأمر الهين ولا العابر بل كان أمراً عصياً استخدمت فيه أمريكا العصا الغليظة لترويض المرحلة لما تريد، وقد حدث ما كانت ترسمه في مخيلتها، وتحقّق لها القدر الكافي من الاستقرار الاقتصادي بعد سنوات من الحديث عن الأزمات الاقتصادية التي كان العالم يتحدث عنها في أمريكا.
لقد بدأنا الخطوات الأولى في ترويض الواقع اليوم وخَاصَّة نحن في اليمن ومن ورائنا محور المقاومة.. فهل تكتمل الخطوات لنكون رقماً في معادلة الوجود الحضاري المعاصر.. نأمل ذلك.