تأمُّلاتٌ في الزحمة (١)
سند الصيادي
مع كُـلِّ موعدٍ متجدِّدٍ للخروج المليوني.. يؤكّـد اليمنيون خلاله أن حجمَ عزمهم وصبرهم واندفاعهم وطولَ نَفَسِهم لا يزال مخزونُه كبيرًا وَأكبرَ مما يتوقعه الآخرون بكثير.
في كُـلِّ جمعة وأنا في طريقي إلى ساحة السبعين، تتواردُ في النفس خلجاتُ الخوف من خفوتِ أعداد الحشود، أَو من ظهور عوامل اليأس والإحباط في وجوه المحتشدين، وتلك سجية النفس البشرية مع طول المدة الزمنية وما يرافقها من العوامل التي يمكن أن يكون ارتدادُها على النفس سلبيًّا، قد يقول قائل: وماذا عمل خروجنا؟، فالقتل ما زال مُستمرًّا بتصاعُدٍ، والهمجية والإجرام لا تزال تفتك وتعربد وتتوعد، والموقفُ الجمعي العربي لا يسهم في الضغط على هذا المشهد.
غير أنك وأنت تجول بين الحشود المليونية تلحظ في وجوه هذا الشعب -بعامته وخاصته، بأطفاله وشبابه وَشيوخه- صورةً مغايرةً لهذه الأوهام التي تسكنك، وكأنهم يحتشدون في اليوم الأول من العدوان على غزة، تقرأ بوضوح أن هذه النفوس لم تخرج مرغمةً أَو تحت ضغط الموقف، لا تشعرك أنها تؤدي روتينيًّا وظيفيًّا كالتزام إداري؛ أَو بكونها خرجت محاباةً أَو خوفًا، بل انغماسًا في عُمقِ المشهد بالجاهزية القتالية وهم محتزمون بنادقَهم وجُعَبَهم وَكأنهم يترقَّبون من القائد توجيهاتِ التحَرّك في أية لحظة إلى ميدان المواجهة رغم البُعد المادي والجغرافي، معايشة نفسية وجسدية وقلبية وعقلية للحدث، وكأنَّ غزةَ وفلسطين بقعة في صنعاء أَو صعدة أَو إب أَو غيرها من بقاع اليمن، لها بأعرافِ القبيلة اليمنية أسلافٌ وأعراف.
قد يفاجئُك كهلٌ صَادَفَ وقوفُه بالقرب منك وأنت تبادلُه أطرافَ الحديث ما بقلبه من ألم وَقهر وَعزم وَشجاعة في آن واحد، ومن خلال حديثه تشعر أنه لم يفوِّتْ حدثًا أَو خبرًا حدث خلال الأسبوع يتعلق بفلسطين وَمعركتها المقدَّسة، تتغير ملامحُ وجهه وهو يصفُ لك الجرائمَ وَيستعرض أمامك المواقفَ العربية والإسلامية وما كان يجب أن يكونَ بدوافع الفطرة والدين والدم وَالإنسانية والقبيلة، ولا يفوته أن يشيدَ برجال الله من لبنان إلى العراق إلى إيران وَعلى اختلاف فصائلهم ومذاهبهم وَمسمياتهم، على امتدادِ الجغرافيا المقاومة، لن تخطئَ تقديرَ أبوية ومسؤولية هذا الشعب لكل الأُمَّــة وشعوره بأنها جزءٌ منه مهما تباعدت.