(طوفانُ الأقصى) والاستراتيجيةُ الصهيونية لإبقاء “إسرائيل”
عبد القوي السباعي
سبعة أشهر من المواجهة المُستمرّة والقتال العنيف، والصمود الأُسطوري والثبات والتحدي، الذي أظهره أبطال الجهاد والمقاومة الفلسطينية في غزة، في التصدي لقوات الاحتلال الإسرائيلي، في كُـلّ المحاور وعلى كافة الجبهات، في إطار معركة (طوفان الأقصى)، التي هي من أطول الحروب والمواجهات التي خاضتها “إسرائيل” منذ نشأتها وزع كيانها في جسد الأُمَّــة، منتصف مايو من العام 1948م، حتى اليوم.
وعلى الرغم من مرور 76 عاماً على إعلانها وطن قومي لليهود ومركز روحي للصهيونية العالمية، إلا أن “إسرائيل” لم تشهد في كُـلّ مراحل قيامها مثل هذا الضعف والهشاشة في كيانها، والانكسار لهيمنتها، والإذلال لهيبتها، والذي تجرعته على أيدي أبطال الجهاد والمقاومة في “فلسطين ولبنان والعراق واليمن وإيران”، منذُ الـ7 من أُكتوبر 2023م.
سبعة أشهر كانت كفيلةً بأن تحدث صحوةً بشرية وتحفر عميقاً في الوعي والإدراك الجمعي، ويتعرف العالم على “إسرائيل”؛ ككيانٍ مؤقت؛ عاش 76 عاماً، على أَسَاس من النبوءات الوهم ومعتقدات التضليل والسراب، واستراتيجياتٍ من المكر والمؤامرة، وخططٍ وأساليب أبدعت في الاستحواذ على العقول والقلوب والجيوب، فعرفتها الشعوب؛ تعرفت على ماهيتها.. حقيقتها.. استراتيجيتها، ومن هم داعموها.. ولماذا.. وكيف..!؟
76 عاماً و”إسرائيل” تسير وفق البروتوكول الذي نقلهُ “تيودور هرتزل”، عن الحاخام الأكبر “يهودا القلعي” “الكالاي”، الذي وصف في القرن التاسع عشر؛ أنهُ “الشيطان ذاته”، إلى أن أرسى قواعد هذا المخطّط المؤسّس للدولة الإسرائيلية السفاح “ديفيد بن غوريون”، أحد أبرز قادة “الهاغاناه” وهي منظمة عسكرية صهيونية استيطانية أسست في القدس برعايةٍ بريطانية عام 1921م، وهكذا سار على النهج بقية زعماء وقادة وعلماء ومفكري ونخب “إسرائيل”، وتسير حتى اليوم، بما فيهم قادة الرأي وصناع القرار من الصهاينة في الغرب الأمريكي والعالم ككل.
قبل مِئة وخمسين عام، قال “الكالاي”: “لن تقودوا العالم ما لم تسيطروا على العقل البشري، فالوعي هو ميدان المواجهة الأول”، وعلى أَسَاس أن من يسيطر على المال والإعلام ووسائل التغذية الفكرية السياسية والثقافية والعلمية؛ يسيطر على العقل البشري ويقوم بتوجيهه، أبدع الصهاينة في رسم الإطار العام والرؤية الصهيونية لقيادة العالم كوحدةٍ متكاملة المنظومة، متنوعة الهيئات، فبرزوا في كُـلّ مجال، وقادوا كُـلّ تحديث، واخترقوا كُـلّ الأديان، وأثّروا على ثقافات الشعوب وهُــوِيَّاتهم، وصبغوها بما يوائم مسار قيادتهم للعالم ويمكنهم من الاستمرار في الهيمنة عليه.
غير أن كُـلّ هذه المضامين آنفة الذكر كانت مُجَـرّد أفكار جاء بها المؤمنون بـ”نظرية المؤامرة”، والتي لطالما واجهت الكثير من النقد والسخرية في كُـلّ العصور، لكن ومع (طوفان الأقصى) وخلال سبعة أشهر، تكشفت هذه الحقائق، بل وأكثر مما كانت تروج له هذه النظرية، وأكثر من مُجَـرّد منطلقات لأفكار جل اعتقادها بأن هناك ما يمكن أن يطلق عليه “القوة الخفية التي تسيطر على العالم”، بل وهكذا رأينا وشهدنا في هذه المعركة ما يؤكّـد على تلك الأُطروحات، التي كان للشهيد القائد -رِضْـوَانُ اللهِ عَلَيْـهِ-، أَيْـضاً الكثير من الطرق لها في سبيل نظم ملامح الاستبصار في وعي الأُمَّــة، ومن منظور قرآني، وهكذا جاءت في خطابات وكلمات السيد القائد والتي كان أخرها كلمته في الذكرى السنوية للصرخة 1445هـ.
والمتأمل الفاحص اليوم، لن تصدمَه تداعيات هذه المعركة، بل يدرك جيِّدًا أنهُ وعلى المستوى السياسي؛ رأينا بأم أعيننا كيف صمتت الزعامات والحكومات العربية والإسلامية؟، كيف هرع قادة وزعماء الأنظمة في الغرب وأمريكا..؟ وبكل وسائل الدعم والإسناد لـ “إسرائيل” مؤكّـدين تعاطفهم، وتضامنهم، واستعدادهم لعمل أي شيء للوقوف إلى جانب “إسرائيل”، ورأينا كيف جاءت تصريحاتهم.. بياناتهم، وكيف تعاملت كُـلّ النخب السياسية والحزبية العالمية في السلطة والمعارضة..!
إعلامياً؛ رأينا كيف تناقلت وسائل الإعلام العالمية؛ كيف تعاملت وتفاعلت مع الأحداث والمستجدات..؟ وكيف جاءت وجهة نظرها؟ وما هي السردية التي تبنتها في تغطياتها الخبرية والتحليلية..؟ وما الرسالة التي عبرت عنها..؟ ولماذا رافق رسائلها سيول من عمليات التضليل والتشويه والتعتيم والتحوير، وتزييف الحقائق وطمس الوقائع، والتلاعب بالمصطلحات والألفاظ وإلباس الجلاد ثياب الضحية والعكس..؟
علمياً وثقافيًّا؛ رأينا كيف تعاملت وتتعامل مختلفُ وسائل ووسائط مواقع التواصل الاجتماعي، مع المعركة..؟ رأينا كيف فضحت الهبات الاحتجاجية لطلاب الجامعات الأمريكية والأُورُوبية مدى الارتباط المشبوه لتلك الجامعات بالصهيونية العالمية؟ والتي عكست أَيْـضاً تأثيرها على مخرجاتها الأكاديمية العلمية والتعليمية، من خلال السيطرة والاستحواذ والنفوذ، وتوجيه هذه المخرجات وعناصرها لما يخدمها حاضراً ومستقبلاً وفي كُـلّ المجالات، ورأينا زيف الديمقراطية والحرية التي يتغنى الغرب بها، وكيف يرمي بها عرض الحائط إذَا ما تعلق الأمر بـ “إسرائيل”.
إنسانياً؛ رأينا كيف دمجت الصهيونية الفكر الاستعماري الغربي الأمريكي مع الفكر التوراتي اليهودي بأنهم الجنس السامي، وما دونهم مُجَـرّد “حثالة بشرية غير راقية”، وُصُـولاً إلى استباحة القتل والإبادة الجماعية دون تأنيب الضمير، والتي عبر عنها بشكلٍ واضح “نتنياهو” وحكومته، و”بايدن” وإدارته، بأن المقاومين الفلسطينيين مُجَـرّد حيوانات وحشرات يجوز سحقهم، وهذا التقاطع أنتج حالة من استباحة الدم الفلسطيني، وباتوا لا يشعرون بأي تأنيب ضمير في حال قتل “مقاوم أَو مدني، صغير أَو كبير، ذكر أَو أنثى”، وهذا ما تجسد بالفعل خلال العدوان على غزة.
أممياً؛ ورغم حجم الكارثة وأعداد الضحايا الهائلة والمأساة الإنسانية غير المسبوقة في غزة، إلا أننا رأينا كيف أبدعت الصهيونية وبسلسلة خطوات في نزع الصفة الإنسانية عن هؤلاء البشر؛ بهَدفِ الوصول إلى حالة الاشمئزاز منهم، وعدم التعاطف معهم، بل صار من الطبيعي إبادتهم والقضاء عليهم.
في المقابل، رأينا ذلك الصمت المريب للأمم المتحدة بكل هيئاتها ومنظماتها، حتى وإن شوهدت بعض المواقف والبيانات وتصريحات “القلق، الصدمة، الامتعاض، والدهشة”، غير أنها ما جاءت إلا لذر الرماد على العيون؛ إذ إنها لم ولن تغير واقعًا أَو تدفع وتحَرّك العجلةَ قيد أنملة في الاتّجاه المعاكس لإرادَة الصهيونية العالمية.