الغُــدَّةُ السرطانية “إسرائيل” فقدت شروطَ بقائها.. (ح3 الأخيرة)
إبراهيم محمد الهمداني
٣– الشرط السياسي الإمبريالي..
من ممكنات الهيمنة إلى استحقاق السقوط.
حاولت دويلة الكيان الصهيوني، تجاوز حالة المقاطعة والعزلة الجمعية، التي فرضها عليها محيطها العربي الإسلامي، فعملت على تطبيع وجودها الطارئ، واستبدال كيانها اللقيط، بدولة ذات انتماء ديني مفترى، ومواراة دورها الوظيفي الاستعماري، خلف ملصقات المشروع الحضاري، وتغليف طبيعتها العدائية، ونزعتها الوحشية الإجرامية، ونفسيتها الخبيثة الإفسادية، بالترويج لسياستها القائمة، على الأخوة والتسامح والتعايش والسلام؛ بهَدفِ إيهام محيطها العربي أولًا، والإسلامي ثانيًا، بحسن نواياها، ورغبتها في كسر حاجز عزلتها، وتقديم نفسها صديقا ودودا، مبادرًا بتجسيد التعايش، وتحقيق السلام، علها تطوي عقودا من الحروب والكراهية والانتقام، وتخلق حولها بيئة مجتمعية تتقبلها، وتقدم على إقامة علاقات ودية معها، بما يحقّق كسر عزلتها السياسية، وينهي وضع المقاطعة الشعبيّة، وتداعياته عليها.
غير أن نزعة الأنا الاستعمارية المتعالية، وطبيعة الدور الوظيفي الإجرامي، وخبث وانحطاط النفس اليهودية، قد انحرف بها، عن تقمص دور المثالية، ونبا بلسانها، عن لوك خطاب الفضيلة، ولم تحتمل مُجَـرّد التلفظ بها، كوسيلة مؤقتة، تبرّرها الغاية الكبرى، وهدف تحقيق الحضور الفاعل، والهيمنة الريادية، على الساحة السياسية الفلسطينية، ثم العربية الإقليمية، وُصُـولاً إلى صناعة السياسة العالمية، وريادة جميع الميادين والمحافل الدولية.
ويمكن تلخيص مسيرة الكيان الإسرائيلي الغاصب، في بعدها الاستعماري التصاعدي، ومسارها الوظيفي المتدرج، نحو صناعة الهيمنة، وحلم الريادة، على النحو الآتي:-
أ– على المستوى المحلي/ الداخلي.
من خلال:-
١– اختراق فصائل الجهاد والمقاومة، وبث سموم الفرقة بينها، على قاعدة “فرق تسد”، واستهداف قوة كُـلّ فصيل على حدة، وإيهام بقية الفصائل الأُخرى، أنها بمنأى مما لحق بنظيرتها، ما دامت ملتزمة “الحياد” والصمت، ولكن ذلك كان مُجَـرّد خدعة استعمارية، فما إن ينتهي العدوّ الإسرائيلي، من القضاء على قوة فصيل فلسطيني، حتى ينتقل إلى الفصيل الآخر، وهكذا.
لكن وعي فصائل الجهاد والمقاومة الفلسطينية، بزيف وقذارة وعود وسياسة العدوّ الإسرائيلي، أفقده فاعلية وقدرة هذه الاستراتيجية، على خدمة مشروعه الاستعماري، واستطاعت تلك الفصائل انتهاج استراتيجية مضادة، ارتكزت على مبدأ “وحدة الساحات”، التي ظهرت بقوة، ابتداء من معركة “سيف القدس”، واستمرت وُصُـولاً إلى عملية (طوفان الأقصى)، مؤكّـدة واحدية الموقف والميدان، وأن اتّحاد فصائل الجهاد والمقاومة الفلسطينية، في معركة الفتح الموعود والجهاد المقدس، نابع من حقيقة الواجب الديني، وطبيعة الالتزام الإيماني، بتنفيذ الأمر الإلهي، والاتّحاد في مواجهة أعداء الله، إيمانا بنصره، وإنجازا لوعده، ومن أوفى بوعده من الله.
٢– كما اعتمد الكيان الإسرائيلي الغاصب، على سياسة التنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية، لقمع وتصفية وتجفيف، كُـلّ عوامل ومقومات نجاح المقاومة، ووأد حلم الحرية والاستقلال، في أعماق الوجدان الشعبي، والنفس الجمعية، المسكونة بمشاعر الخذلان والهزيمة المسبقة، لكن هذه الاستراتيجية أَيْـضاً، بدأت تفقد فاعليتها مؤخّراً، نظرا لتصاعد الغضب الشعبي العارم، في الداخل الفلسطيني، الرافض لهذا الدور الخياني المنحط، من قبل السلطة الفلسطينية، التي أصبحت – بدورها – في زاوية ضيقة من الحرج، والاستنكار الجمعي، محليًّا وعربيًّا وإقليميًّا، علاوة على تنامي الأصوات، الداعية إلى إسقاطها؛ كونها فقدت شرعيتها بممارستها هذا الدور القذر.
وكان هذا آخر مسمار، في نعش التسلط والهيمنة الإسرائيلية، على الساحة المحلية الفلسطينية.
ب– على المستوى الإقليمي.
من خلال:-
١– الدخول في معاهدات واتّفاقيات سلام، مع دول المحيط الجغرافي، مثل مصر والأردن وغيرهما؛ بهَدفِ تحويل دول الطوق العربي، إلى خط دفاع أول، يضرب على الكيان الإسرائيلي المحتلّ، سورا منيعا شاهق الحماية، ليس – فقط – من خلال ضمان، منع وقمع أي تحَرّك شعبي داخلها، بل ضمان إغلاق أراضيها وبحرها وجوها، أمام أي تحَرّك شعبي أَو رسمي، لإسناد الفعل الجهادي المقاوم، ونصرة المستضعفين الفلسطينيين، والحد من جرائم القتل والإبادة بحقهم.
غير أن التظاهرات الشعبيّة الحاشدة، التي انطلقت مؤخّراً في تلك البلدان خَاصَّة، قد اسقطت مشروعية تلك المعاهدات والاتّفاقيات، بوصفها وصمة عار، تدين الأنظمة الحاكمة، وتوجب إسقاطها، إذَا لم تسارع إلى إلغائها، نزولا عند رغبة الشعوب.
٢– السعي نحو تعميم مشروع التطبيع، مع بقية دول الإقليم العربي، باستخدام قوة ونفوذ الغرب الاستعماري عامة، والراعي الأمريكي خَاصَّة، الذي تبني مشروع “صفقة القرن”، في نسخها الثلاث، وحشد لها ماليا وإعلاميا وسياسيًّا، ما لا يتصوره الخيال، أَو يستوعبه العقل، لكن نتائجها كانت صادمة، ولم تتضمن مخرجاتها، سوى بضعة أنظمة عميلة، مارست التطبيع، قبل أن توقع عليه رسميًّا، فكان حضورها الشكلي، عبارة عن تحصيل حاصل، في ظل رفض وسخط واستنكار شعوبها.
وبذلك تسقط مشروعية التمثيل الرسمي، في أية اتّفاقية أَو معاهدة، ما دام مخالفًا لإرادَة الشعب، وتصبح تلك الاتّفاقيات، فاقدة المعنى والقيمة، وغير ملزمة للشعوب.
يمكن القول إن مشروع التطبيع، قد سقط مقدمًا، وقد فقد قوة سلطته التشريعية، حين خسر قوة سلطته التنفيذية، ممثلة بما سمي “التحالف العربي”، بقيادة السعوديّة؛ بوصفه المكون العسكري، الضامن لتمرير مشروع التطبيع، ولم يكن قيامه بالعدوان على اليمن، إلا تنفيذاً للمهام الموكلة إليه، في قمع الأصوات الرافضة للتطبيع، ولا يخرج عن ذلك، ما قامت به قوات “درع الجزيرة”، من جرائم وانتهاكات، بحق المدنيين العزل، من أبناء بعض شعوب الخليج العربي، المندّدين بمواقف أنظمتهم الحاكمة، الخائنة لله تعالى وللدين ولجميع المسلمين.
وبسقوط تحالف العدوان الصهيوسعوأمريكي في اليمن، سقطت آخر أحلام التطبيع، وسقطت معها كُـلّ صفقات القرن المخزية، وكانت تسعة أعوام من الصمود الأُسطوري اليمني، كفيلة بإفقاد “صفقة القرن”، كُـلّ عوامل قوتها، وقطع ممكنات استمرارها، وتحويلها إلى لعنة أبدية، على جبين القوى الاستعمارية، بعد أن سقط جناحها العسكري، (التحالف العربي)، ممرغا بالهزائم الساحقة، والانكسارات المذلة، والسقوط المهين، على أيدي أبناء الجيش اليمني الأبطال، وقيادته الثورية الربانية، والقيادة السياسية الحكيمة، ويمكن القول إن موقف اليمن البطولي، من العدوان على غزة، وإعلان تبني إسناد مجاهدي الفصائل الفلسطينية، وما تمخضت عنه العمليات البرية والبحرية، للقوات المسلحة اليمنية، كان آخر مسمار، في نعش الهيمنة الإمبريالية، ومشروعها الاستعماري.
ج– على المستوى العالمي.
من خلال:-
* التسويق الإعلامي لدويلة الكيان الإسرائيلي، بوصفها صاحبة مشروع حضاري إنساني، وتقديمها من منطلق كونها، النموذج الأرقى والأجدر، بقيادة دول وشعوب الإقليم خَاصَّة، على امتداد “جغرافية الوطن العربي كاملة”، لتصبح بعد ذلك، من كبار رواد المشهد السياسي العالمي، وأبرز أصحاب الحضور والنفوذ، في المحافل الدولية، وأهم مشرعي مفردات السياسة العالمية، المسارعين إلى إحلال السلام، والتدخل لإنهاء الحروب والنزاعات، التي قد تندلع بين مختلف بلدان العالم، وقد ظهرت بوادر هذا الدور، في قيام رئيس الوزراء الإسرائيلي، (بنيامين نتنياهو) بالوساطة، لإنهاء الحرب الروسية الأوكرانية.
* تحقيق القدر الأكبر من التعاطف العالمي، مع مأساة اليهود، فيما يسمى “الهولوكست”، والزعم بتعرضهم لعمليات إبادة عرقية، ولذلك يجب إنصافهم ومراعاتهم وتعويضهم، ودعمهم والالتفاف حول قضيتهم، وتمكينهم من إقامة دولتهم الخَاصَّة.
* تصنيف كُـلّ من يعارض – أَو يرفض أَو يقف ضد – المشروع الصهيوني الإمبريالي، بالعداء للسامية، ثم اتّهامه بالإرهاب، وتهديد الأمن والسلم والتعايش العالمي، وبالتالي استهدافه عسكريًّا، من قبل أمريكا وحلفائها في مجلس الأمن الدولي، ومنظمة الأمم المتحدة.
يمكن القول إن التحولات السياسية والعسكرية والاقتصادية، التي عصفت بالمنطقة والعالم، منذ بداية العدوان الصهيوسعوأمريكي على اليمن، وحتى الآن، وما تمخضت عنه من تغييرات جذرية، في موازين القوى، ومعادلات الصراع، قد أسقطت كُـلّ مشاريع الهيمنة والاستكبار، وأفقدت دويلة الكيان الإسرائيلي المحتلّ، مثلث قوتها وبقائها، فلا قوتها العسكرية والاستخبارية، استطاعت النجاة من طوفان الهزائم النكراء، ولا قوتها الاقتصادية والتنموية، حفظت ماء وجهها، وهي تتسول دعم ومساعدات، رعاتها الاستعماريين في أمريكا وأُورُوبا، معلنة انهيار اقتصادها، إلى أدنى المستويات، ولا حضورها السياسي الدولي، وشبكة علاقاتها الدبلوماسية، الممتدة من الشرق إلى الغرب، بدعم كامل من القوى الكبرى، استطاع مواراة قبح جرائمها الوحشية، وفظاعة عمليات الإبادة الجماعية، بحق المدنيين الأبرياء العزل، وبسقوطها القيمي والأخلاقي، فقدت آخر أسباب التعاطف معها، سواءٌ أكان ذلك التعاطف؛ بفعل الانبهار والإعجاب، أَو من باب الانتصار لمظلوميتها، أَو خوفًا من أن الاتّهام بمعادَاة السامية.
وبذات القدر والكيفية والأسباب، فقدت الأنظمة الاستعمارية، الداعمة والمؤيدة والمشاركة، لـ “إسرائيل” في عدوانها وجرائمها، على أهالي قطاع غزة، شروط قوتها بقائها، وسقطت احتمالات حصولها، على فرصة أخيرة، لممارسة أقل مظاهر الوجود، في المنطقة، إلى درجة الصفر المطلق، خَاصَّة بعد سقوطها من الداخل؛ بفعل المظاهرات الطالبية والشعبيّة، التي ملأت ساحات الجامعات والساحات العامة، في مختلف جامعات ومدن أمريكا وأُورُوبا؛ تنديدًا بسياسة ومواقف حكوماتها، المنتهكة لكل المبادئ والقيم والقوانين والحقوق، التي طالما ادَّعت تبنيها وحمايتها، من خلال شراكتها الفعلية ودعمها المطلق، لجيش الكيان الإسرائيلي، في قتل وحصار وإبادة، شعب بأكمله، دون مراعاة لأدنى الضوابط الأخلاقية أَو الإنسانية، وإلى جانب ما يعبر عنه، ذلك السخط الشعبي الطلابي المتصاعد، في أمريكا وأُورُوبا، وما يحمله من مؤشرات سقوط تلك الأنظمة، في تموضعها الاستعماري، إلى غير رجعة، فهو أَيْـضاً يعلن صحوة الضمير العالمي، الذي يستحيي من الانتصار لمحرقة مزعومة، ويغض الطرف عن محرقة ماثلة أمام عينَيه، يتكرّر في تفاصيلها التوحش والإجرام يوميًّا، على مدى أكثر من مئتي يوم.
إذن ما الذي تبقى في جعبة الكيان الإسرائيلي الغاصب، وما هي رهانات شركائه في البقاء، خَاصَّة في ظل حتمية الهزيمة والزوال، وهل يمكن الحديث عن مستقبل لـ “إسرائيل” ما بعد الهدنة، أَو مستقبل القوى الاستعمارية ما بعد الطوفان؟