المُكَبِّـرون الأوائلُ سجناءُ الأمن السياسي بصنعاء.. الحياةُ في معتقلات تديرُها واشنطن
المسيرة | عباس القاعدي:
ضاقت أمريكا وأدواتُها ذَرْعاً من صَرْخَةِ المُكَبِّـرين الأوائلِ في الجامع الكبير بصنعاء، كما حاول نظامُ الخائنِ علي عبد الله صالح، ووفقَ توجيهات أمريكية، أن يمنَعَ ترديدَها ويعاقِبَ من يتبنَّى شعارَها في أَيِّ مكانٍ داخلَ اليمن.
وتعرَّضَ المُكَبِّـرون الأوائلُ داخِلَ سجن “الأمن السياسي” بصنعاءَ للتعذيب والترهيب؛ فكان يضع ثمانية، أَو أكثرَ من المُكَبِّـرين في تلك الزنازين الانفرادية، وهم مكبَّلون بالقيود، ويمنع عنهم الأكل والشرب، ويحرمهم من كُـلّ الحقوق، وبعد مرور أكثر من عشرين سنة على هذه الأحداث، وما رافقها من تنكيل، واعتقالات، إلا أن البعض منهم لا يزال يحتفظ بذكريات من تلك السجون المظلمة، وما حَـلَّ لهم فيها من معاملة لا إنسانية من قبل النظام الخائن.
ويتذكر المجاهدُ صلاح حطبة، أحدُ سجناء الصرخة والمظلومية أحداثاً مؤلمةً لا تغيبُ عن ذاكرته، ومسيرته النضالية التي سجل فيها مع مجموعة من المؤمنين أروع البطولات في مواجهة الباطل، بكل ثباتٍ وصبر، وعزيمة، حَيثُ عادت به الذاكرةُ عند الخطوة الأولى لدخول سجن “أمريكا” الأمن السياسي، مستشعراً فيها رعاية الله لهم، وظلم السلطة التي تبحث من خلال أساليب التعذيب للمؤمنين السجناء عن حياة الشهيد القائد، وانتمائه، وكانت أسئلتهم تتكرّر عن هذا.
ويقول حطبة: “كانوا في التحقيق يسألون عن الانتماء، أَو إلى أية حركة تنتمون؟ طبعاً الشهيد القائد كان يؤكّـد أن ننبذ كُـلّ المسميات المذهبية والطائفية بشكل نهائي؛ لأَنَّه لا حَـلَّ للأُمَّـة الإسلامية لمواجهة الغزو الأمريكي والإسرائيلي، إلا بالعودة إلى القرآن الكريم، والعودة إلى الإسلام؛ بمعنى أن تتوحد الأُمَّــة، ولا يمكن أن تتوحَّدَ الأُمَّــة تحت أسماء طائفية أَو مذهبية، ثم في الوقت نفسه، لا يمكن أن يجمع بين الأُمَّــة إلا القرآن الكريم كمنهج شامل يؤمن به الجميع”.
ويضيف: “كانت إجابتنا لهم لا توجد أية حركة، بل حرَّكنا القرآن، والأحداث التي نشاهدها في أفغانستان؛ ليكون لنا موقف، ونصرخ في وجه أمريكا، ورغم ذلك كانوا يركِّزون على أن نذكُرَ لهم أي مذهب، أَو طائفة، أَو حركة معينة ننتمي إليها”.
من جانبه، يقول المجاهد حسين العياني، حول التحقيقات: “كان ضباط السلطة يركِّزون في التحقيقات على الجانب الأمني، ويسألون: كم حرس السيد حسين؟ كم الذي عنده؟”، مُضيفاً أن “الأسئلة تلك ما كانت غربية عنا؛ لأَنَّ السيد حسين -رِضْـوَانُ اللهِ عَلَيْـهِ- وقبل أن يعتقلونا كان يتحدث عن الجانب الأمني، ويقول إذَا سألوكم من يحرس السيد قولوا لهم الناس كلهم حراس؛ مِن أجلِ يفهموا أن الناس تعيش هَـمًّا واحدًا؛ لأَنَّ الهدفَ من ذلك أن العدوَّ كان يحاولُ أن يحصرَ إدارةَ الدولة في فئة معينة، ليسهُلَ له استهدافُهم، إما بالترغيب أَو الترهيب”.
ويوضح العياني، أن “ضباط نظام الخيانة، كانوا يحاولون أن يقنعوا السجناء المُكَبِّـرين، بأن الصرخة في الجامع الكبير لا تمثل أي شيء ولا تؤثر على أمريكا، وإنما أحدثت ضجة وفوضى، بينما هم غير مدركين أن الصرخة لها تأثير، وأثَّرت وأرعبت أمريكا، ومن تأثيراتها الردُّ السريع من الأمريكي، من خلال توجيه السلطة بشن حملة اعتقالات للمُكَبِّـرين وتعذيبهم”، مؤكّـداً أن “الشهيد القائد رسَّخَ قاعِدةً في قلوبِ المُكَبِّـرين الأوائل، وهي أن هناك رعايةَ تأييدٍ وعونٍ من قِبَلِ الله للمؤمنين”.
ويواصل: “بالفعل كنا نشعُرُ برعاية الله ونحن مجموعةٌ في زنزانة صغيرة، ونتلقى أنواعَ العذاب: منها الحربُ النفسية، وكان تعامُلُهم معنا ظالماً، بينما كانوا يتعاملون مع سُجناءَ من تنظيم القاعدة ودماج ومزوري العملة باحترام؛ ولهذا كنا نوضح للسجناء أن تنظيم القاعدة صناعة أمريكية، وهذا كان يقلق ضباطَ وجنود السلطة الظالمة، الذين كانوا يضيِّقون الخِناقَ على المُكَبِّـرين؛ حتى في الصلوات!”، وفق العياني.
معاملة سيئة وتعذيب متواصل:
وفي السياق نفسه يقول المجاهد صلاح حطبة: “سُجِنْتُ في زنزانة لا تتجاوزُ مساحتُها مترًا مربعًا، مع مجموعة من المؤمنين، وتلقينا فيها أنواعَ التعذيب، أول زنزانة دخلتها، كنتُ مع ثمانية أشخاص، واستمررت فيها حوالي ثمانية أَيَّـام، وكُنَّا ليلَ نهارَ جالسين، ولا يوجد مجالٌ للنوم حتى، إلا أن ننام ونحن جلوس”.
ويضيف: “كان تعاملهم معنا في السجن، نفس تعامل اليهود، وكانوا كُـلّ يوم يستخدمون أُسلُـوباً جديدًا من أنواع التعذيب، غير الحرب النفسية التي تُستخدَمُ يوميًّا، وباستمرار، حتى وصل بنا الأمر إلى أن ننتظر كُـلّ يوم ماذا يمكن أن يعملوا بنا خلال الساعات القادمة من ضرب وشنق… إلخ”.
ويؤكّـد حطبة أن “الحالة النفسية كانت مُستمرّة طوال فترة السجن”، موضحًا أن ضباط عفاش أدخلوه في إحدى المرات زنزانة انفرادية، وقاموا بتقييد يَدَيه ورِجْلَيه، وجلس في تلك الزنزانة مقيداً أربعة أشهر ليلاً ونهاراً، ولا يستطيع التحَرُّكَ أَو الأكل، فكان يصلي وهو مقيَّد، مبينًا أن القيود التي وضعت في رجلَيه، كانت بطريقة تقليدية، وهي لَفُّ حَلَقَةِ القيد “بزبرة”، موضحًا أن ذنبه الوحيدَ هو [اللهُ أكبر، الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام] وأن تلك الصرخة لم تخرج من إطار حرية الرأي، والرأي الآخر والتعبير عن الرأي.
وبخصوص الأغذية التي كانت تُقَدَّمُ للمُكَبِّـرين الأوائل في سجن الأمن السياسي بصنعاءَ، يؤكّـد حطبة أن “سلطة نظام الخائن عفاش، كانوا يعطونهم أكلاً وماء ملوثاً، إلى حَــدّ أن بعض السجناء أصيب بالسرطان، وبعضهم بالسل، والبعض الآخر خرج محمولاً على الفراش، وَبعض السجناء لا يزالون يعانون من الأمراض المستعصية إلى يومنا هذا، وأنا واحد منهم، لا زلت أعاني من أَيَّـام السجن، ولولا رعاية الله لما عشنا وشاهدنا ثمرة المشروع العالمي”.
ويوضح أن أحد الأطباء الذين كان يُسمَحُ لهم الدخول إلينا؛ مِن أجلِ المعاينة وإعطاء العلاج للبعض ممن يريد، التقى بأحد الإخوة ممن كانوا ضمن السجناء في الخارج، وقال له: “كان معكم رعاية إلهية عجيبة، حَيثُ كان هناك مخطَّطٌ للقضاء عليكم صحياً؛ أي إنكم تموتون الموت البطيء في السجن”.
ويواصل حطبة حديثه: “هناك موضوع مهم يجب التركيز عليه، وهو أننا لم نكن في سجن الدولة اليمنية، والسلطَة في صنعاء، حين اعتقلنا في شهر رمضان عام 1423هـ، بل كنا في السجن الأمريكي، حَيثُ بدأ الجنود يخرجون بعض السجناء في الشماسية حق السجن، على أَسَاس يجمعون ملابسهم ويخرجونها، وخلال ما بدأوا يخرجون السجناء، طلبنا منهم الخروج، ولكنهم طلبوا الانتظار، وخلال لحظات جاء المدعو “غالب القمش” رئيس جهاز الأمن السياسي سابقًا، وقال: “خلاص لا عاد تخرجوهم؛ لأَنَّنا نسلِّم مِلفهم لوكيل الجهاز الذي يعتبر رجل أمريكا، أَو رجل السفارة الأمريكية في جهاز الأمن السياسي، واستلم مِلفنا تماماً، وهو كان مرتبطاً بالسفارة الأمريكية، وفقَ المعلومات التي سمعناها ونحن في السجن، وبعد أن خرجنا من السجن”.
ويتابع: “لما علم الشهيدُ القائدُ -رِضْـوَانُ اللهِ عَلَيْـهِ- أن مِلَفَّ السجناء أصبح بيد السفارة الأمريكية أرسل مع مَن التحقوا بنا فيما بعدُ، أنه لا بد أن يكون معنا أشبهُ بالصرخة؛ بمعنى أن كُـلّ واحد يقول: “ما سجنتنا إلا أمريكا و”إسرائيل”، على أَسَاس أن تصل الرسالة إلى السفارة الأمريكية، والسيد كان حريصاً على أن نوصل الرسالة، وأننا لسنا ضد السلطة في اليمن، ولا نحمل أي عداء لها ولا للجيش اليمني، وأن عِداءَنا يتجهُ إلى الأمريكي والإسرائيلي، وهذا كان شعارنا وعنواننا الذي تحَرّكنا على أَسَاسِه هو الصرخةُ [الموتُ لأمريكا، الموتُ لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام]، وهذا كان دليلَ مسارنا في التحَرّك، وأن عدوَّنا هي أمريكا و”إسرائيل” واليهود”.
“وفي أحد الأيّام -يقول حطبة- وتحديداً بعد صلاة العصر، صرخنا بصوتٍ عالٍ جِـدًّا: سجنتنا أمريكا و”إسرائيل”، وبعدها جاء ضباط، وعساكر فأخذونا، وفرّقونا، وقالوا: ليست أمريكا من سجنتكم، بل نحن من سجناكم، وكان جوابنا عليهم: “لا أنتم مأمورون فقط وتنفذون أوامرَ السفارة الأمريكية، التي أمرَتْ باعتقالنا وبسجننا وهي خصمُنا، أما أنتم إخوتنا وتفهموننا يوماً من الأيّام”.
ويوضح حطبة أن السجناءَ تلقوا أنواعَ التعذيب طول فترة السجن؛ فكانوا يمارسون ضدهم التعذيبَ الجسدي والنفسي، ويمنعون عنهم زيارات الأهل لأشهر طويلة، وغسيل الملابس، مؤكّـداً أن أهالي السجناء كانوا يصلون من محافظة صعدة، إلى بوابة السجن، ويتم منعهم؛ بذريعة “ممنوع اليوم الزيارة”، بينما سجناء تنظيم القاعدة كانوا يعيشون ملوكاً، وَكُـلّ شيء عندهم، حَيثُ إذَا سنحت لنا الفرصة نمُـــــرُّ من عند العنبر حقهم، والباب مفتوح نشاهد أنهم في جنة، فعندهم ما لذَّ وطاب، وأنواع الأكل والشرب.
ويشير إلى أنه في إحدى المرات في الزنزانة المجاورة لهم “كنا نسمعُهم أنهم دخلوا واحداً سجيناً جديدًا من تنظيم القاعدة، وكانت في ليالي العيد، أَو قبلَ العيد بليلتين، والغريب أنه ما يزالُ في إطار التحقيق؛ أي فقط يومين من حين دخلوه السجن كانت تصلهم مبالغُ كبيرة بالدولار، فيطرق العسكري على باب الزنزانة حق عناصر القاعدة ويقول: “معك ألف دولار من فاعل خير، ويطرق على الباب الثاني والثالث وكل أبواب عناصر القاعدة، ويعطي كُـلَّ واحد منهم ألفَ دولار، بينما نحن كانوا يعطوننا في اليوم الوحد ثلاثَ كدم فقط، وأكلًا ملوَّثًا”.
ووفقاً للمجاهد حطبة فَــإنَّ “الشهيدَ القائد عندما تحدث عن القضية الفلسطينية، قال: إذَا لم تستعِدِ الأُمَّــة الأراضيَ المقدَّسة في فلسطين، وتستعِدِ الأرضَ التي اقتطعها اليهود منها لن تقوم لها قائمة، وَإذَا لم يزُلْ هذا العدوّ من أرضنا، وتركناه في أرضنا العربية فَــإنَّه سيجلس مثل السرطان ينخر في جسم الأُمَّــة”، منوِّهًا إلى أن “الشهيد القائد -رِضْـوَانُ اللهِ عَلَيْـهِ- كان يثق بأن الله سبحانه وتعالى، يهيئ لنا الانتصارات التي نصلُ فيها إلى تحقيق هذه الأهداف العظيمة والسامية، وهي إزالةُ “إسرائيل” من الوجود، وهزيمة أمريكا والغرب؛ لأَنَّ اللهَ تعالى وَعَدَ أولياءَه بالنصر، واليوم نجني الثقةَ بالله من زنازين السجن التي كتبتُ يوماً فيها قصيدة:
سأُعِدُّ من زنازيني أُمَمًا تثورُ على اليهود
وسأستعيدُ العِزَّ للأجيال من صُلبِ القيود
بدمي شهيداً أرسم النصرَ العظيمَ على الوجود
وسيشهدُ الثقلان يوماً الفتحَ من بعدِ الجمود